يحلو للجهاديين سواء كانوا محسوبين على تنظيم القاعدة أو على تنظيم داعش أو غيرها من التنظيمات المتطرفة العنيفة أن يؤكدوا عقب مقتل كل قائد كبير في صفوفهم بأن مقتله لن يؤثر على تماسك جماعاتهم وفعاليتها، وأن “دمائه ستكون وقودا يؤجج نيران الثأر في صدور أتباعه” وأن الجماعة لن تتأثر بموت الأشخاص، لأنها قائمة على المبادئ لا على الأشخاص.
بيد أن التجربة أكدت أن هذه الكلمات مجرد سرديات عاطفية لرفع المعنويات ليس إلا، وأن الجماعات تتأثر إلى حد بعيد بمقتل قادتها البارزين، خصوصا إن كانت زعامتهم روحية أكثر منها تنظيمية.
فعلى سبيل المثال لو لم يُقتل الزرقاوي لما نشب ذلك الجدل الكبير حول شرعية الإعلان عن ” دولة العراق الإسلامية” في 2006 ولما انتقلت القيادة إلى شخصيات مجهولة أثارت السجال حول شرعيتها بعد ذلك. ولو لم يُقتل أبو حمزة المهاجر لحسم الخلاف حول طبيعة العلاقة بين ” القاعدة” وبين ” داعش” فيما بعد. ولو لم يُقتل أبو الخير المصري في سوريا لكانت له الكلمة الأخير في الصراع الذي رافق تأسيس هيئة تحرير الشام و حراس الدين. ولو لم يقتل أبو محمد المصري في إيران لما واجه تنظيم القاعدة أزمة القيادة التي يواجهها الآن. ولو لم يُقتل أبو يحيى الليبي في أفغانستان لكانت القاعدة قد حسمت موقفها في كثير من المسائل الشرعية التي قسمت الآن صف التنظيم.
وقبل كل هذا هل كانت داعش ستظهر وتستقطب ذلك العدد الهائل من الأتباع، وتحارب الجماعات الأخرى في كافة ربوع العالم بما فيها القاعدة لو كان أسامة بن لادن على قيد الحياة. لعل العامل المهم الذي تجاهله الباحثون الذين أخذوا على عاتقهم فهم صعود داعش كان عامل “مقتل أسامة بن لادن”. كان يمكن لخطاب واحد من بن لادن أن يردع داعش أو على الأحد يعزلها إلى حد بعيد. كان غيابه امتيازا وظفته داعش لصالحها، وكانت تؤكد مرارا في دعايتها أنها امتداد لقاعدة بن لادن، بعد أن انحرف الظواهري عن المسار الصحيح، وتبعا لذلك لايزال عناصر داعش يعتقدون أنهم أوفياء لأسامة بن لادن أكثر من أعضاء القاعدة أنفسهم، بل وأكثر من رفاق بن لادن المقربين الذين أمضى معهم عقودا من الزمن.
محطة أخرى أكدت أن غياب بن لادن أثر على القاعدة بشكل كبير جدا، وسحب بساط “الشرعية الجهادية” منها وهي ذلك السجال الشهير بين أبو محمد العدناني الناطق الرسمي باسم داعش وبين أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة، فهل كان العدناني سيجرؤ على مواجهة بن لان بذلك الخطاب اللاذع الذي اختار له عنوان ” عذرا أمير القاعدة” كما واجه به أيمن الظواهري، هل كان سيهاجمه بذلك الحشد من العبارات الازدرائية؟ لا أحد يعتقد ذلك. واللافت أيضا أن العدناني استهل خطابه ذاك بمقتطفات من كلمات أسامة أسامة بن لادن، وأبي يحيى الليبي، وسليمان أبو غيث، ليؤكد أنه الوصي على ” إرث أسامة” الذي ضيعه الظواهري حسب تعبيره.
الجماعات المسلحة تتأثر بمقتل قادتها، وأحيانا يشكل مقتلهم علامة فارقة في تاريخها، فعندما قتل على سبيل المثال أبو عبد الله أحمد أمير الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر سنة 1994 تولى القيادة بعده أبو عبد الرحمن أمين فكانت تلك اللحظة بداية الدخول في نفق العشرية السوداء الدامية، والتي خلفت ندوبا غائرة في ذاكرة الجزائر الحديث، وأدت في النهاية إلى تلاشي تم انتهاء الجماعة الإسلامية المسلحة، وظهور الجماعة السلفية للدعوة والقتال، والتي امتدت بدورها إلى الساحل وأسست لوجود ارهابي عنيف يهدد كل دول الساحل والصحراء.
القاعدة إلى الآن لم تتعافى من ضربة الثاني من مايو 2011، فباستثناء نشاطها المتصاعد الآن في الصحراء الكبرى فإنها في واقع الأمر لم تحرز أي تقدم منذ مقتل بن لادن في 2011. كان يمكن أن تُعد “جبهة النصرة” أكبر انتصار لقاعدة ما بعد أسامة بن لادن، لكن الجبهة تنصلت لاحقا من تبعيتها للقاعدة، بل أصبحت بعد تحولها إلى هيئة تحرير الشام أكبر رافض لفكرة وجود تنظيم القاعدة في سوريا، وقامت بحظر نشاطات هذا الأخير في مناطق نفوذها.
ما يقال عن مقتل بن لادن يقال أيضا عن مقتل أيمن الظواهري إذ لا شك أن تنظيم القاعدة مقبل على تحولات كثيرة في ظل قيادة سيف العدل، وأولى إرهاصات هذا التحول ما حملته البيانات التي صدرت مؤخرا عن التنظيم، وما خلفته من جدل بين أنصاره، لاسيما تلك التي نعى فيها قيادات من حماس، واعتبار بعض شيوخ التيار الجهادي ذلك انحرافا عن أدبيات القاعدة ومؤسسيها.
