الوصول السريع للمحتويات

هل يستطيع الجولاني ترويض المارد الجهادي في سوريا ؟

يتساءل السوريون والمراقبون للشأن السوري عن تحديات المرحلة الانتقالية بعد سقوط نظام بشار الأسد وإمساك الثوار بزمام الأمور في دمشق، معظم الأسئلة تتمحور حول العدالة الانتقالية، وشكل الحكم القادم، ووضع الأقليات، ومصير الحريات الفردية، ومشكلة السلاح، والوجود الأجنبي في البلد وغيرها.

 لكن السؤال الذي لم يلتفت إليه الكثيرون يتمحور حول مدى قدرة الجولاني على احتواء الجهاديين، وإقناعهم بأن مهمتهم في سوريا قد انتهت، وأن عليهم أن ينصهروا في مؤسسات الدولة الجديدة بدستورها وقانونها وانتخاباتها العامة، لا سيما ومعظمهم  نشأ على أدبيات لا تعترف بأدوات الدولة الحديثة في الحكم وإدارة الشأن العام، وتختزل رؤيتها للحكم في جملة واحدة ” تطبيق الشريعة”.

تمرد الجهاديين

واجه الجولاني منذ دخوله إلى سوريا في 2011 مشاكل كثيرة مع الجهاديين المتشددين، فعندما عبر من سوريا إلى العراق كان معه 6 أفراد فقط ثلاثة منهم تركوه بعد فترة والتحقوا بداعش. وكان من جملة الأسباب التي أطلقت شرارة القتال بين جبهة النصرة بقيادة الجولاني وبين تنظيم داعش منذ مطلع 2013 أن كبار الجهاديين في سوريا خصوصا الأجانب منهم قد اتهموا الجولاني بالتراجع عن “تطبيق الشريعة” في المناطق التي تسيطر عليها جبهة النصرة، فانضم معظمهم إلى داعش التي يعتبرونها نموذجا ناجحا في تطبيق الشريعة وإنفاذ الحدود الشرعية بشكل علني مثل قطع يد السارق ورجم الزاني وتعزير المدخنين وفرض النقاب الكامل على النساء وغيرها.

بعد المفاصلة بين داعش وجبهة النصرة، ظل آلاف الجهاديين ممن بايعوا النصرة لكونها فرعا للقاعدة في سوريا؛ ظلوا متحفظين على سياسة الجولاني في فرض تطبيق الشريعة، وانخرطوا في نقاشات كثيرة على أرض الواقع وفي مواقع التواصل الاجتماعي حول مسألة تطبيق الشريعة وإقامة الحدود في زمن الحرب، واقتنع بعضهم بوجاهة رأي الجولاني بضرورة إرجاء تطبيق جوانب من الشريعة حتى “التمكين الكامل” لكن مع ذلك بقي الكثيرون على موقفهم المتمثل بوجوب فرض الشريعة فورا، لاسيما بعد السيطرة على مدينة إدلب وتوقيع اتفاقيات خفض التصعيد.

في فبراير 2017 سيبدأ الجولاني جولة قتال جديدة ضد مجموعة من الجهاديين الذين يكفرون الفصائل الثورية، ولا يعترفون بالمحاكم واللجان القضائية في شمال غرب سوريا لكونها لا تطبق الشريعة الإسلامية حسب اعتقادهم، فنشبت معارك طاحنة بين هيئة تحرير الشام وبين لواء الأقصى في إدلب وريف حماة الشمالي أسفرت عن مقتل العشرات من الطرفين، تخللتها إعدامات متبادلة، وعمليات انتحارية، وقصف متبادل، واشتباكات بشتى أنواع الأسلحة.

وكانت الهيئة قبل ذلك بعام قد حاولت استيعاب “جماعة جند الأقصى” ضمن صفوفها بعد نشوب قتال بينها وبين حركة أحرار الشام. وتصور الجولاني حينها أن بإمكانه تعويم “جماعة جند الأقصى” في جبهة فتح الشام (لم يتم تأسيس الهيئة بعد)، وتفكيك الجماعة بهدوء، لكن عناصر الجماعة وقادتها تمسكوا بمواقفهم المتشددة، فاضطر الجولاني إلى إصدار بيان أعلن فيه ” عدم تبيعة جند الأقصى لجبهة فتح الشام تنظيميا” بسبب ” عدم انصياع الجند لأي من بنود البيعة ” وإخلالهم “بشرط السمع والطاعة الذي يعتبر ركنا رئيسيا في البيعة”.

في الأخير أعلنت هيئة تحرير الشام في فبراير 2017 الحرب على جماعة جند الأقصى التي غيرت إسمها إلى لواء الأقصى، وبعد معارك ضارية اتفق الطرفان على فتح ممر آمن لعناصر اللواء وعوائلهم للتوجه صوب مدينة الرقة التي كانت تسيطر عليها داعش. واختار بعضهم الانضمام إلى الحزب الاسلامي التركساني وفصائل أخرى بينما فضلت شريحة منهم إعادة تجميع صفوفهم في جماعة جديدة أطلقوا عليها اسم “جماعة أنصار التوحيد”. انضمت الجماعة فيما بعد إلى غرفة عمليات الفتح المبين بقيادة هيئة تحرير الشام، وأصبحت جزءا من ” إدارة العمليات العسكرية” وشاركت بفعالية في معارك تحرير المدن لاسيما حماة، ودخلت دمشق ضمن الفصائل التي دخلتها في إدارة العمليات العسكرية.

فصل آخر من فصول صراع الجولاني مع الجهاديين ستشهده مناطق إدلب في صيف 2020، فبعد ثلاث سنوات من الخلافات والتوترات الحادة بين تنظيم حراس الدين وبين هيئة تحرير الشام على خلفية الارتباط بالقاعدة، ومدى شرعية تحلل الجولاني من بيعة أيمن الظواهري، ومسائل أخرى مرتبطة بتطبيق الشريعة وعدم اعتراف تنظيم حراس الدين بحكومة الإنقاذ في إدلب. وصلت الخلافات بين الطرفين إلى طريق مسدود فقررت الهيئة تفكيك التنظيم بطريقة أقل دموية، وبعد اشتباكات محدودة استمرت بضعة أيام وافق قادة حراس الدين على إنهاء وجودهم العلني في شمال غرب سوريا، وتفكيك معسكراتهم وحواجزهم. ولا يزال نشاط التنظيم محظورا في المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام.

ترويض الجهاديين

آخر معارك الجولاني مع الجهاديين كانت في أكتوبر 2021 عندما هاجمت هيئة تحرير الشام فصيلي “جنود الشام” بقيادة مسلم الشيشاني و”جند الله” بقيادة أبو حنيف الأذري  في ريفي إدلب الغربي واللاذقية الشمالي، بتهمة إيواء جهاديين مارقين، والقيام بعمليات احتطاب (السطو باسم الجهاد)، والتكفير، وعلاقة الجماعتين المشبوهة بتنظيم داعش، وهو الأمر الذي نفاه جملة وتفصيلا مسلم الشيشاني في تسجيل صوتي بثه على الإنترنت، كما نفته جماعة جند الله في بيان رسمي. أسفرت الاشتباكات عن استسلام الجماعتين وموافقتهما على إخلاء نقاطهما في جبل التركمان، وتسليم المطلوبين للهيئة. وكان الهدف الرئيسي من حملة الهيئة هي احتواء الجماعات الجهادية المستقلة وإجبارها على الدخول في غرفة عمليات الفتح المبين أو تفكيكها بالقوة.

في الواقع لقد نجح الجولاني في احتواء معظم الجماعات الجهادية في سوريا داخل هيئة تحرير الشام. والجماعات التي تصر على الاستقلال فرض عليها تقييد نشاطها العسكري ضمن غرفة عمليات الفتح المبين، والاعتراف بحكومة الإنقاذ كواجهة سياسية وخدمية في المناطق المحررة. 

ولم يسمح الجولاني بتشكيل تحالفات جهادية خارج هيئة تحرير الشام، وخارج غرفة الفتح المبين، فعندما أعلنت 5 جماعات جهادية وهي: لواء المقاتلين الأنصار، وتنسيقية الجهاد، وجبهة أنصار الدين، وجماعة أنصار الإسلام، وتنظيم حراس الدين، تأسيس غرفة عمليات موحدة باسم “غرفة عمليات فاثبتوا” في يونيو 2020 تحركت الهيئة على الفور وحلت التكتل الجديد واعتقلت عددا من قادته.

في كل اشتباك بين هيئة تحرير الشام وبين الجماعات الجهادية المذكورة، تحرص ما تسمى بكتل المهاجرين في الهيئة على تأكيد ولائها للجولاني وقيادة الهيئة بشكل عام، وكتل المهاجرين هي الجماعات الجهادية الأجنبية الموالية للهيئة وأهمها: الحزب الإسلامي التركستاني، وجماعة التوحيد والجهاد الأوزبكية، وجيش المهاجرين والأنصار القوقازيين، وحركة شام الإسلام (المغاربة)، وجماعة الألبان والمالديف وغيرها.

لا يزال عدد من قادة وأعضاء الجماعات الجهادية في سجون هيئة تحرير الشام في إدلب، ومعظمهم من الذين رفضوا إبرام تسويات يتعهدون بموجبها بعدم تشكيل جماعة جديدة أو القيام بعمليات ضد الهيئة، والكف عن ترويج أفكار التكفير، لعل من أبرزهم أبو يحيى الجزائري القيادي السابق في تنظيم حراس الدين. وكثير من القيادات والرموز الذين أطلق سراحهم قبل أشهر وقعوا أوراق تعهد بعدم انتقاد الهيئة بشكل علني وعدم تشكيل جماعات جديدة كأبي ذر المصري وأبو عبد الرحمن المكي وأبو شعيب المصري وغيرهم.

الجهاديون في سوريا الجديدة

لقد نجح الجولاني في احتواء المارد الجهادي في إدلب خلال السنوات الماضية، بل إن القوة الضاربة لهيئة تحرير الشام المتمثلة بالعصائب الحمراء وكتائب خالد بن الوليد الانغماسية هم من الجهاديين ذوي الولاء المطلق له، لكن السؤال المطروح الآن هو هل يستطيع الجولاني إقناع هؤلاء بالخطاب السياسي الجديد لهيئة تحرير الشام بعد سيطرتها على دمشق؟

يلعب عبد الرحيم عطون الرجل الثاني في هيئة تحرير الشام أدوارا أساسية في بلورة التحولات الفكرية والسياسية للهيئة منذ سنوات، وهو رجل يشاطر الجولاني المواقف ذاتها منذ تأسيس جبهة النصرة، ويبدو أن مهمة التأطير الفكري للجهاديين في سوريا الجديدة ستكون مهمة ملقاة على عاتقه. لكن لا شك أن هناك فئات من الجهادين ستجد صعوبة في استيعاب التحولات الجديدة، والأفكار التي تطرحها دائرة الشؤون السياسية، لاسيما تلك المتعلقة بحقوق الأقليات، والانتخابات، والعلاقة مع المجتمع الدولي، وصياغة الدستور، والانفتاح على الدول الغربية وغيرها.

في هذا السياق يقول الباحث المتخصص في شؤون الجماعات المتشددة في مركز إجيبشن انتربرايز للسياسات والدراسات الاستراتيجية أحمد سلطان أن ” تحولات هيئة تحرير الشام من جبهة النصرة مرورا بجبهة فتح الشام وانتهاء بهيئة تحرير الشام أتت بتأثير من النخبة القيادية ممثلة في الجولاني” وأضاف في تصريح لموقع الحرة أن ” الصيرورة التنظيمية لجبهة النصرة وما تخللها من فك الارتباط بداعش وإنهاء العلاقة بالقاعدة وصولا إلى تأسيس الهيئة وقعت أولا تم جرى تبريرها من طرف القياديين والشرعيين المقربين من الجولاني”.

وعن التحولات الجديدة المرتقبة والتي أعطى الجولاني لمحات عنها في خرجاته الإعلامية قال أحمد سلطان بأن ” هناك محاولات من قياديي وشرعيي تحرير الشام لتهيئة الأرضية لها لكنها لن ترضي كل الجهاديين وقد يعترض بعضهم ويراها تراجعا عن قناعات التيار الجهادي” ولفت الباحث إلى أن ” الهيئة في السنوات الماضية سبق وأن تعرضت لانشقاقات بسبب مواقفها لكنها ظلت مع ذلك متماسكة، واستطاع الجولاني وتيار بنش المقرب منه إحكام السيطرة على الهيئة” واستطرد قائلا:” مع بعض الخلافات والوعود سيتم تبرير هذا الانفتاح بأن التطبيق الكامل للشريعة سيحتاج إلى بعض الوقت، وستتبنى الهيئة خطابا أشبه بخطاب الإخوان المسلمين، مع سعي لتجنب الانشقاقات والتشظيات في صفوفها”.

معضلة أخرى تنتظر أحمد الشرع في المستقبل القريب وهي موقع الجهاديين الأجانب في سوريا الجديدة، وهم يعدون بالآلاف وبعضهم شكل فصائل مستقلة مثل الحزب الإسلامي التركستاني، والقوقازيين، والطاجيك، هل سيتم إدماجهم في القوات الحكومية وإلحاقهم بوزارة الدفاع؟ أم نزع سلاحهم وتجنيسهم ليكونوا مواطنين سوريين؟ ملف شائك وأسئلة معلقة يترقب العالم كيف سيكون التعامل معها.

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية