حرب العصابات
بعد خروج قوات المعرضة المسلحة من مدينة حلب، إثر انتهاج النظام السوري وحليفه الروسي سياسة الأرض المحروقة، وعجز المعارضة عن الصمود أمام تقدم قوات الأسد المدعومة بميلشيات حزب الله وفيلق القدس الإيراني، طرحت بعض الأصوات الثورية والجهادية فكرة تبني إستراتيجية جديدة ترتكز على مبادئ حرب العصابات، كأسلوب حربي يُتيح استنزاف الخصم بأدنى الإمكانيات وأقل الخسائر. الفكرة قابلتها بعض الفصائل والشخصيات الثورية المحسوبة على خط الاعتدال برفض صريح لأنها تعني –بالنسبة إليها- تحويل ثورة شعبية ممتدة على صعيد الجغرافي تحضا بتعاطف دولي واسع إلى مجموعات مقاتلة تلوذ بالجبال والكهوف. بينما دافعت عن الفكرة فصائل وشخصيات جهادية أخرى واعتبرتها خيارا معقولا في ظل التفوق العسكري الضخم لمعسكر النظام وحلفائه.
لا شك أن الفصائل الثورية المحسوبة على التيار الجهادي ترى في حرب العصابات أنجع أسلوب لإدارة الحروب والصراعات في ظل هيمنة النظام العالمي الجديد، ويعتبر المنظر الجهادي المعروف عمر عبد الحكيم ( أبو مصعب السوري) أبرز من دعا إلى هذا الأسلوب وخصص له حيزا كبيرا في موسوعته المنشورة تحت عنوان ” دعوة المقاومة الإسلامية العالمية”، لقد تمرس الجهاديون على هذا النوع من الحروب ووظفوا تقنياته سواء ضد الأنظمة الحاكمة أو ضد التدخلات الأجنبية في العراق وأفغانستان والصومال ومالي وغيرها، ومع تراجع الأداء الثوري المسلح المستند إلى استراتيجية المواجهة المباشرة والاحتفاظ بالأرض والجبهات الثابتة والمواقع المكشوفة، أصبح استدعاء مبادئ حرب العصابات خيارا حتميا قد يحفظ للثورات بعضا من زخمها كما يعتقد الجهاديون.
ربما لم تكن مبادرة “الإدارة المدنية للمناطق المحررة” التي اقترحتها هيئة تحرير الشام سوى إجراء أخير قبل تبني إستراتيجية حروب العصابات، فتكليف المجالس المحلية بمهمة تدبير الشأن العام و حصر دور الفصائل في المعارك والقتال، وتكثيف الهيئة مؤخرا لعلمياتها الأمنية في قلب مناطق النظام أو كما تسميها ” خلف خطوط العدو” كل ذلك يؤشر على أن الثورة على مشارف منعطف جديد، قد يكون نمط حرب العصابات سمته البارزة. فمن بديهيات حرب العصابات الحركة الدائمة والانحياز المستمر، وتجنب المواقع المكشوفة أو الظهور العلني، والعمل ضمن مجموعات صغيرة عتادها بسيط لا يعرقل سرعة المناورة ويصعُب رصده وتعقبه، وبالتالي فليس من مهمة رجال حرب العصابات إدارة المدن ورعاية شؤون الناس وفض نزاعاتهم وتأمين حاجياتهم.
نفذت هيئة تحرير الشام منذ تأسيسها عشرات العمليات العسكرية والأمنية ضد نظام الأسد وحلفائه واحدة منها فقط لا يمكن اعتبارها تكتيكا من تكتيكات حروب العصابات وهي العملية التي أعلنت عنها في 21/03/2017 تحت اسم ” و قل اعملوا ” وكان الهدف منها السيطرة على مواقع النظام في ريف حماة الشمالي والتقدم صوب مركز المدينة، غير أن العملية توقفت قبل أن تستكمل كل مراحلها بسبب القصف الجوي العنيف من السلاح الجوي الروسي. أما باقي العمليات وهي بالعشرات فكلها كانت تطبيقا لمبادئ وأسس حرب العصابات أو حرب الغوار كما يسميها جيفارا في مذكراته، واللافت أنها كانت عمليات ناجحة ومتقنة ونجحت مجموعات هيئة تحرير الشام بالتوغل في عمق مناطق النظام وتنفيذ عملياتها الخاطفة هناك، ما يدل على أن هناك تدريبا عاليا ومكثفا على هذا النمط من العمليات ربما استعدادا لاعتماده خلال المرحلة القادمة. ومن هذه العمليات: اقتحام مبنى الأمن السياسي ومبنى أمن الدولة بمدينة حمص في 25/02/2017 وقتل عدد من كبار الضباط ذوو الرتب العالية. تقدم مجموعة انغماسية تابعة للهيئة في حي جوبر الدمشقي في 19/03/2017 والسيطرة على مواقع النظام هناك وقتل عدد من جنوده وقد أطلقت الهيئة على العملية اسم “يا عباد الله اثبتوا”. وفي 16/06/2017 نفذت الهيئة عملية نوعية في ” الميناء البيضا” في اللاذقية وفجرت سيارة مفخخة بداخله، وفي نفس اليوم قامت مجموعة إنغماسية تابعة لها باستهداف مبنى ” الميتم” قرب المخابرات الجوية في مدينة حلب. في 2/08/2017 تسللت مجموعة من قوات النخبة في الهيئة إلى معاقل النظام في منطقة الملاح بمدينة حلب ونجحت في استهداف تجمعات من جنوده واغتنام أسلحتهم ثم الانسحاب دون أن تفقد المجموعة أيا من أفرادها. كما نفذت الهيئة عددا من العمليات النوعية بنفس الأسلوب في القلمون وأيضا ضمن غرفة عمليات ريف حمص الشمالي.
لقد حرصت قيادة هيئة تحرير الشام على تكوين مجموعات عسكرية عالية التدريب والكفاءة سمتها ” قوات النخبة”، ومع غياب معلومات كافية عن عددها وصلاحياتها وطبيعة المهمات الموكلة، إلا أن عملياتها تتميز بالهجوم المباغت والتوغل في عمق مواقع النظام وسرعة في التنفيذ والانسحاب، فهل هذه القوات مجرد طليعة مقاتلة أعدت لتدشين مسار حرب عصابات قد تمتد لسنين.
الخلاصة
غادر الجولاني الأراضي العراقية في 2011 حاملا معه خطة متكاملة لتأسيس حركة جهادية في سوريا مستفيدا من التجربة العراقية التي واكب أحداثها منذ أيام الاحتلال الأولى، هذه التجربة الخصبة والغنية إضافة إلى المدرسة الجهادية التي ينتمي إليها الرجل (الجهادية العالمية) وهي المدرسة التي تقرأ الصراع في أبعاده الكبرى وتعتمد تحليلا ماكرويا لمعطياته وتفاصيله عززت رؤيته الاستشرافية ونظرته المستقبلية. فكان دائما هاجس المستقبل وهاجس مصير الثورة من محددات الفعل الثوري لدى جبهة النصرة وجبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام، وبالتالي فمبادرة الإدارة المدنية للمناطق المحررة والاستعداد لحرب العصابات خياران تم التوصل إليهما بعد قراءة “جهادية” مستفيضة للواقع والمستقبل.
يمكن لأي تقارب بين هيئة تحرير الشام وتركيا أن يكون مفتاحا لآفاق أخرى اقل قتامة بالنسبة للشمال السوري المحرر، لكن تقلبات الموقف التركي وتصريحاتها الملتبسة اتجاه الهيئة أبقى العلاقة بين ضفتي معبر باب الهوى متوترة ومفتوحة على كل الاحتمالات، فخلال سيطرة هيئة تحرير الشام على الشمال السوري التزمت تركيا الصمت ولم تحاول تعزيز الموقف العسكري لحلفائها من المعارضة السورية وهم يفقدون آخر معاقلهم المطلة عليها، خطوة اعتبرها البعض تفهما من الجانب التركي لتحركات الهيئة حيت عبر مسؤولون أتراك عن ارتياحهم بعد تسليم الهيئة معبر باب الهوى إلى إدارة مدنية مستقلة، هذا الموقف المتفهم استدعى تصريحات شديدة اللهجة من الولايات المتحدة التي اتهمت تركيا بالتواطؤ مع القاعدة لتسهيل سيطرتها على إدلب وريفها. وبعد أيام من هذا الموقف التركي صرح اردوغان بعد لقاءه برئيس الأركان الإيراني محمد باقري أن تركيا وإيران قد تقومان بعملية مشتركة ضد الإرهاب، ورجح مراقبون أن تكون مدينة إدلب مجالا لهذا التحالف والتعاون بين الجانبين.
الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا وصعود الرئيس ترامب إلى سدة الحكم في أمريكا والأزمة الخليجية المتفاقمة التي ألقت بظلالها على المشهد الثوري في سوريا، وهزيمة تنظيم الدولة في الموصل وقرب هزيمته في سوريا، ودخول فصائل ثورية كثيرة في برنامج الهدن والمصالحات مع نظام الأسد، وتوقف الدعم الخارجي لقوات المعارضة “المعتدلة”.. هذه المستجدات على الساحتين الإقليمية والدولية وأيضا المحلية تعني أن على الثوار المقتنعين والمتشبثين بجدوى الخيار العسكري ضد نظام الأسد الاعتماد على إمكانياتهم الذاتية، وبالتالي استدعاء مبادئ حرب العصابات إلى ساحة الفعل الثوري اضطرارا لا خيارا، خصوصا ومشروع الإدارة المدنية الموسعة لا يبدو أنه سيروق للقوى الكبرى وإن لقي قبولا وترحيبا من سكان المناطق المحررة.