الإدارة المدنية الموسعة
يشكل إدارة المناطق المحررة وتأمين الحاجيات الأساسية للسكان تحديا صعبا للفصائل الثورية، مع ما يستتبعه ذلك من ضبط للأمن وصيانة للمرافق الحيوية كمحطات الكهرباء والمياه والمشافي وتوفير مستلزماتها وإقامة المحاكم الشرعية وفض النزاعات وغيرها، هذا المجهود كله كان يقع على عاتق الفصائل العسكرية وغالبا ما تشوبه بعض التجاوزات تتعلق بالشطط في استعمال القوة وتربح بعض قادة الفصائل عبر فرض غرامات تعسفية في الحواجز مقابل مرور السلع والبضائع، أو التلاعب بمواد الإغاثة والمتاجرة بها.
طرحت هيئة تحرير الشام في 23/07/2017 مبادرة تقضي باعتماد إدارة مدنية شاملة وموسعة للمناطق المحررة، التوجه الجديد للهيئة جاء لتحقيق ثلاثة أهداف أساسة؛ الأول: تفويت الفرصة على القوى الكبرى وحرمانها من مبرر استهداف المناطق المحررة ومدينة إدلب تحديدا، الثاني: تحسين وتطوير الأداء الإداري في المناطق المحررة من خلال إشراك الأهالي في تدبير شؤونهم بعيدا عن المحاصصة الفصائلية، الثالث: تركيز القوى الثورية المقاتلة على الجبهات ومحاور القتال وترك المهام الإدارية للمدنيين والمجالس المحلية. و خلال الأسابيع الماضية نشط مسؤولو هيئة تحرير الشام في الدعاية لمشروع الإدارة المدنية وبعثوا رسائل ودعوات إلى عدد من وجهاء الثورة وقادتها ونشطائها من أجل شرح الفكرة وحثهم على دعمها والمشاركة فيها. ورغم أن الغموض مازال يلف تفاصيل المشروع والمداولات بشأنه مستمرة حتى اللحظة إلا أن ما تسرب من معلومات عنه يشير إلى أن خطوطه العريضة تتمثل في خروج الفصائل من المدن باستثناء بعض المجموعات من الجيش الحر، وتشكيل مجالس محلية بصلاحية واسعة تُناط بها مسؤولية إدارة المناطق المحررة ووضع قوة تنفيذية رهن إشارتها، والحرص على إشراك كافة فرقاء الثورة في المهمة وإن تباينت توجهاتهم وخلفياتهم الفكرية، وتحدث بعض المطلعين على دوائر صنع القرار بهيئة تحرير الشام أن الإبقاء على حركة أحرار الشام الإسلامية مع إمكانية تفكيكها بأقل الخسائر كان بهدف ضمها إلى مشروع الإدارة المدنية الموسعة.
لا يُخفي قادة في هيئة تحرير الشام أن “الإدارة المدنية” المزمع اعتمادها في الشمال المحرر، تنطوي على مغامرة لا يمكن التكهن بتداعياتها ومآلاتها، لكنها تظل خيارا عقلانيا في ظل إصرار القوى الدولية على إدراج الهيئة على قائمة المنظمات الإرهابية والإعداد لضرب مواقعها ومعاقلها في قادم الأيام. ورغم المرونة التي تحلت بها قيادة الهيئة وهي تطرح مشروعا بهذه الجرأة، إلا أنها على يقين بأنه لن يكون محل ترحيب من المجتمع الدولي وقواه الفاعلة، لكنها تراهن على كسب بعض المواقف لصالحها خصوصا الموقف التركي الذي بدا متفهما للواقع الجديد في الضفة الأخرى لمعبر باب الهوى. التحدي الأبرز لقيادة هيئة تحرير الشام يكمن في إقناع نواتها الجهادية الصلبة بمشروعية فكرة “الإدارة المدنية” وتقديم الضمانات الواقعية الكفيلة بطمأنتها، وهي المهمة التي تقع على عاتق أبي محمد الجولاني شخصيا لما يحضا به الرجل من ثقة واحترام من هذا المكون المهم داخل الهيئة. وبالتالي فالمبادرة يحفها التعقيد والحساسية، وتستلزم قدرا كبير من الذكاء والجرأة لأنها تثير مكامن التناقض عند فرقاء الثورة، كما أن سوء تنزيلها على أرض الواقع أو وضع العراقيل أمامها -كعادة الثورات المضادة- سيفتح الباب على مصراعيه أمام الفوضى والاضطراب قد يتكرر معها سيناريو غزة عام 2006 عندما تدخلت كتائب القسام وبسطت سيطرتها على القطاع، بعد رفض الفصائل دعوات حماس للمشاركة في حكومة إسماعيل هنية ثم عرقلتها لاحقا لحكومة الوحدة الوطنية.
لو نجح مشروع الإدارة المدنية للمناطق المحررة فسيكون أرضية مناسبة لمزيد من التوافق بين مكونات الثورة، وستنتهي معه المخرجات السلبية للمحاصصة الفصائلية؛ من تنافس على النفوذ وتقطيع لأوصال المناطق المحررة بالحواجز العسكرية، كما أن اعتماد منظومة قضائية موحدة وجهاز تنفيذي واحد سيقطع بشكل نهائي مع حالة الفوضى التي طبعت مرحلة تعدد المحاكم بتعدد الفصائل. هذا مع ما سيُحسب للتيار الجهادي من مرونة في الخطاب وديناميكية في الفعل والممارسة، ولم تكن هذه تجربته الأولى فقد سبق لتنظيم القاعدة بعد سيطرته على مدينة المكلا اليمنية أن اعتمد نمطا من الإدارة المدنية عبر المجالس الأهلية التي كلفها بإدارة شؤون المدينة.