منذ بيانها الأول في 24/01/2012 وجبهة النصرة تحاول رسم مسار جهادي مغاير للذي سلكته نظيراتها من الجماعات الجهادية، حيت راهنت على العمق الشعبي والفاعلية الميدانية ومرونة المواقف، والتركيز على إسقاط النظام السوري وتفكيك مؤسساته كأفق ثوري تتقاسمه مع كل القوى الثورية دون الانخراط في صراع عالمي؛ يحرج الثورة ويضعها في مرمى الاستهداف. في 9/04/2013 تغيرت مؤقتا أولويات جبهة النصرة عندما أعلن أبو بكر البغدادي ضم النصرة إلى “دولة العراق الإسلامية” وتشكيل ” الدولة الإسلامية في العراق والشام” إذ سارع أبو محمد الجولاني إلى إعلان بيعته لتنظيم القاعدة سعيا منه لإيقاف نزيف الجبهة ومنع تسرب الكوادر الجهادية إلى معسكر تنظيم الدولة الإسلامية. نحج الجولاني في غضون شهور قليلة في إعادة تأسيس جبهة النصرة وترتب بيتها الداخلي، مستعينا بخبرته الجهادية الواسعة وما تتيحه مظلة القاعدة من رصيد معنوي جعلت جهاديين كُثر يلتفون حوله، فأصبحت النصرة من جديد رقما صعبا في معادلة الثورة السورية.
شاركت جبهة النصرة في معظم المعارك الكبيرة التي شهدتها الثورة السورية، وأجمع المراقبون على فاعليتها ومحورية أدوارها واستماتة جنودها في القتال، كما أن اعتمادها على أساليب وتكتيكات عسكرية فريدة ساعدت في حسم كثير من المواجهات لصالح الثوار وإحداث اختراق نوعي في الحالة العسكرية للثورة السورية مثل: التمهيد بالآليات المفخخة والسيارات المسيرة عن بعد والانغماس في عمق تحصينات ومواقع النظام.. في 28/03/2015 تمكنت جبهة النصرة بمعية فصائل جيش الفتح الذي أسسه وقاده القيادي في جبهة النصرة أبو عمر سراقب من السيطرة على مدينة إدلب كثاني مركز مدينة يخرج عن سيطرة النظام بعد مدينة الرقة.
الهيئة وهواجس التصنيف
تصاعدت الأصوات التي تُطالب بفك جبهة النصرة ارتباطها بتنظيم القاعدة، حيت اتخذتها فصائل عدة ذريعة لرفض التحالف معها، كما اشتد ضغط القوى الدولية والإقليمية على الفصائل العسكرية من أجل إرغامها على إعلان مواقفها الرافضة لجبهة النصرة كفرع للقاعدة في سوريا، والكف عن التنسيق معها في الجبهات. وعلى إثر الانتكاسات المتكررة لقوات المعارضة في مدينة حلب وتشرذم تشكيلاتها العسكرية، وفشل غرف العمليات المشتركة في إدارة المعارك خرجت مظاهرات حاشدة في المناطق المحررة تطالب الفصائل الثورية بالتوحد والاندماج. لم تستجب كبرى الفصائل لنداءات المتظاهرين ومطالب الشرعيين الذين طرحوا مبادرة لتوحيد كل القوى الثورية في كيان واحد بذريعة أن جبهة النصرة مصنفة على قائمة الجماعات الإرهابية، وأن التوحد معها يعني استهداف الثورة وحرمانها من الدعم الخارجي. في 1/06/2016 أعلنت وزارة الخارجية الروسية عن التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لتنسيق جهودهما العسكرية ضد مواقع جبهة النصرة، وبناء على ذلك حث التحالف الدولي قوات المعارضة على الابتعاد عن أماكن تواجد الجبهة حتى لا يشملها القصف والاستهداف. إزاء هذه التطورات لم يكن لدى الجولاني خيار آخر غير فك ارتباط جماعته بتنظيم القاعدة مؤكدا في خطاب إعلان جبهة فتح الشام في 28/07/2016 أن قراره جاء: “نزولاً لرغبة أهل الشام و لدفع الذرائع الدولية حول استهداف الأماكن السكنية، بحجة استهداف جبهة النصرة”.
تداعيات إعلان جبهة فتح الشام كفصيل ثوري محلي غير مرتبط بالقاعدة لم تصنع فارقا يُذكر في المشهد الثوري في سوريا، حيت استمرت حالة التشظي والانقسام في صفوف قوات المعارضة، وتراجعت الفصائل المسلحة عن وعودها بالاندماج مع جبهة النصرة في جسم ثوري موحد لو قطعت علاقتها بالقاعدة، وأصرت الولايات المتحدة على لسان الناطق باسم البيت الأبيض جوش ارنست على إبقاء جبهة فتح الشام على قائمة المنظمات الإرهابية، ثم جاء بيان مايكل راتني مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى سوريا ليؤكد بتفصيل أكثر موقف بلاده من جبهة فتح الشام، بينما تواصل موازاة مع ذلك انحسار المناطق المحررة وخسارة الثوار لمزيد من المواقع الإستراتيجية مع التقدم والواسع لقوات النظام في كثير من الجبهات، كما تصاعدت وثيرة الاستهداف الدولي لجبهة فتح الشام لتبلغ ذروتها في 20/01/2017 عندما استهدفت الولايات المتحدة معسكر انتساب تابع للجبهة أسفر عن سقوط أكثر من 100 قتيل من عناصرها.
تزامنا مع المباحثات المنعقدة في العاصمة الكازاخية “أستانا” بين أطياف من المعارضة السورية ونظام الأسد برعاية روسية في 27/01/2017 شهدت الثورة السورية منعطفا حاسما تمثل في قيام جبهة فتح الشام بالهجوم على مواقع عدد من الفصائل الصغيرة في الشمال المحرر، وإرغامها على حل نفسها أو الانضمام إلى حركة أحرار الشام، أسفر التحرك العسكري المباغت لفتح الشام عن تغيير دراماتيكي في خريطة القوى الثورية، إذ فرضت الجبهة نفسها كقوة عسكرية ضاربة ذات سلطة ونفوذ في سياق ما اعتبرته إجراءات ملحة” لتصحيح مسار الثورة” عبر تفكيك الفصائل التي تعاطت بإيجابية مع مقترحات الحل السياسي للأزمة، وأعادت من جديد طرح مشروع التوحد والاندماج في كيان ثوري موحد.
في 28/01/2017 أعلنت كل من جبهة فتح الشام وحركة نور الدين زنكي و جبهة أنصار الدين ولواء الحق عن تشكيل “هيئة تحرير الشام” وأسندوا مهمة قيادتها إلى المهندس هاشم الشيخ القائد السابق لحركة أحرار الشام الإسلامية الذي انشق عن الحركة مع قادة عسكريين آخرين أبرزهم أبوصالح الطحان، وفيما يبدو أن الفصيل الجديد قد قطع بشكل واضح مع موروث القاعدة، وتبنى خطابا تحتل فيه مفاهيم الثورة مكانة بارزة إلا أن ردود الفعل الدولية من القوى الكبر ومن خصوم “جبهة فتح الشام” داخليا ظلت على حالها، فلا تزال هيئة تحرير الشام حسب تصريحاتهم مجرد واجهة يتخفى خلفها تنظيم القاعدة ويحاول عبرها فرض سيطرته على المناطق المحررة، مع أن الثابت من خلال الشهادات المنشورة عقب الإعلان عن “الهيئة” أن المحسوبين على تنظيم القاعدة الذين لم يوافقوا على صيغة الكيان الجديد و بالطريقة التي تم بها الإعلان عنه؛ قد خرجوا من جبهة فتح الشام وجددوا بيعتهم لأيمن الظواهري أمير تنظيم القاعدة وكان من أبرزهم أبو خديجة وأبو جليبيب الأردنيان.
أصدر المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا مايكل راتني بيانا في 10/03/2017 اعتبر فيه هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية، متوعدا باستهدافها هي وكل المجموعات المتحالفة معها. اللافت أن راتني استخدم لغته بعيدة عن لغة الدبلوماسيين متوسلا بمصطلحات ومفاهيم شرعية اعتاد بعض الشرعيين إطلاقها وهم يردون على أطروحات ومواقف جبهة فتح الشام وهيئة تحرير الشام. هذه اللغة سجلت حضورها أيضا في بيان لاحق أصدره مايكل راتني في 2/08/2017 تعليقا على سيطرة قوات هيئة تحرير الشام على معظم المناطق المحررة بعد معارك خاضتها مع حركة أحرار الشام الإسلامية.
أسفرت المعارك المحدودة التي نشبت بين حركة أحرار الشام و هيئة تحرير الشام في 17/07/2017 على خلفية اتهام هذه الأخيرة للأحرار بإيواء قتلة عناصرها المحسوبين على صقور الشام الفصيل الصغير الذي أعلن في وقت سابق انضمامه إلى أحرار الشام؛ أسفرت هذه المعارك عن صعود هيئة تحرير الشام كأكبر فصيل ثوري في سوريا وتراجع قوة الأحرار بشكل مهول، وفيما كان البعض يعتقد أن الهيئة ستقوم بتفكيك الحركة نهائيا خصوصا ومعظم قياداتها غادرت إلى تركيا وانضمت ألويتها الكبيرة إلى هيئة تحرير الشام فإن هذه الأخيرة اختارت الإبقاء على الفصيل وأصدرت تعميما إلى مقاتليها تحذرهم فيه من التعرض لأفراده أو تجريدهم من سلاحهم. وجدت مدينة إدلب في الشمال السوري نفسها في قلب العاصفة عندما تصاعدت أصوات محلية ودولية تتوعدها بالتدمير على غرار ما حدث في مدينة الموصل العراقية في حالة ما إذا بقيت تحت سيطرة الهيئة، وبدا واضحا أن هناك توجها دوليا جادا من القوى الكبرى المؤثرة لضرب المدينة بعد الانتهاء من معارك الرقة ودير الزور، وتسوية أوضاع الغوطة الشرقية بعد توافق فصائلها الكبرى على صيغة مبدئية للحل السياسي تبدأ بمشروع المصالحة ولا يُعرف بالضبط أين ستنتهي.
حاولت هيئة تحرير الشام خلال الفترة الماضية بلورة رؤية واضحة وشاملة لواقع ومآل المشهد الثوري في سوريا، وأعادت قراءته في ظل ما استجد من معطيات وأحداث لعل من أبرزها: مصير الشمال المحرر إزاء نوايا القوى الكبرى باستهدافه؛ الموقف من التدخل التركي لو دخل حيز التنفيذ؛ الموقف من مناطق خفض التصعيد والهدن والمصالحات التي أبرمتها بعض الفصائل مع نظام بشار الأسد.. وبما أن الهيئة باتت تمسك بزمام المبادرة العسكرية في المناطق المحررة ومحاور الاشتباك مع قوات النظام خصوصا في الشمال السوري فإن على كاهلها تقع مسؤولية تدبير الجهد الثوري وإدارة المساحات المحررة. ولو نظرنا إلى الخيارات المتاحة أمام الهيئة في سياق العداء الدولي لها فسنجدها خيارات محدودة، وهوامش المناورة المتاحة أمامها ضيقة ومنحسرة كجسم جهادي ثوري لا يستطيع الذهاب بعيدا في مسار ” الاعتدال”، ولا التفريط في هويته الجهادية التي مازال الرافد السلفي الجهادي ركنا من أركانها والجهاديون العقائديون قاعدته الصلبة.