“توجهوا أولا نحو الفتيات الأجمل، سائلين : كم عمرك؟ ومتفحصين الشعر والفم. ثم أخذوا يسألون حارسا: هل هن عذارى؟ فأومأ برأسه إيجابا، قائلا: بالطبع، كما لو أنه صاحب محل يفاخر ببضاعته، لقد أخبرتني فتيات أن طبيبا فحصهن للتأكد من أنهن لا يكذبن حول عذريتهن، بينما أخريات مثلي، سئلن وحسب. وقد أصر البعض منهن على أنهن لسن عذارى، وأنهن مدنسات، اعتقادا منهن أن ذلك سيجعلهن أقل إثارة وغير مرغوبات، لكن المسلحين استطاعوا الانتباه إلى أنهن يكذبن.. الآن بدأ المسلحون يلمسوننا أينما أرادوا، فيمررون أيديهم على نهدينا وساقينا، كما لو كنا مجرد حيوانات..”
قارئ السيرة الذاتية لنادية مراد الفتاة الإيزيدية التي أسرها تنظيم داعش في سنجار عام 2014 لن يستطيع منع ذاكرته من استدعاء مشاهد من فيلمي (لائحة شندلر) و( عازف البيانو) المشاهد الرهيبة التي سيقت فيها آلاف العوائل اليهودية على يد الجيش النازي إلى مصيرها الذي لم تدرك تلك اللحظة هول فظاعته. اقتاد عناصر تنظيم داعش مئات العوائل الايزيدية المرعوبة إلى إحدى المدارس في سنجار، كانت العوائل تأمل أن الأمر لا يتعلق سوى بإجراء مؤقت أملته ظروف الحرب، وأن أقصى ما يمكن أن يحدث هو إجلاء الأيزيديين من قراهم إلى مناطق أخرى. في المدرسة تم عزل الفتيات الصغيرات الصالحات للجنس والمتعة، وسيق الرجال والعجائز من النساء إلى أخاديد أعدت سلفا، حيث جرى إعدام الجميع. الفرق الوحيد بين النازيين وتنظيم داعش أن لا أحد من الدواعش سجل موقفا نبيلا كموقف النقيب النازي “فيلم هوزينفيلد” في عازف البيانو أو رجل الأعمال “أوسكار شندلر” في لائحة شندلر الذي تعلل بحاجة مصانعه إلى مزيد من اليد العاملة لينزل ما استطاع من اليهود من القطار الذي كان يتجه بهم إلى أفران الغاز. فرق آخر أن النازيين يبحثون بين اليهود عن اليد العاملة المدربة لاستغلالها في مشاريع التصنيع والسخرة، والدواعش يبحثون بين الأيزيديين عن الفتيات الجميلات من أجل المتعة والتسري.
السرد والإرهاب
لطالما كنت مقتنعا بقصور المناهج الكمية، وغيرها من المناهج التي تعتمد على الأرقام والبيانات الجامدة في فهم واستيعاب ظاهرة الإرهاب بكل أبعادها وتجلياتها، وأن السرد والمعالجة الأدبية للظاهرة يمكن أن تصل بنا إلى مستويات أعمق في الفهم تعجز عن الوصول إليه مقاربات أخرى مهما توسلت به من أدوات وتقنيات. مشارط المناهج الكمية وحتى المعالجات السوسيولوجية لا يمكنها الوصول إلى الدوافع المعقدة للفعل الإرهابي، لكن الخيال الأدبي المعزز بالمعارف السيكولوجية يمكنه أن يفعل ذلك. الجميع قرأ عن جريمة سبي الفتيات الأيزيديات سواء في تقارير المنظمات الحقوقية، أو الأوراق البحثية، أو التقارير الصحفية، وهي مواد غنية بالأرقام الإحصاء والوقائع المجردة وتحتفي بها في رصد الجريمة وحيثياتها، بل توجد أيضا وثائق مسربة عن داعش تناولت ما حدث، لكن هل كان كل ذلك كافيا لاستيعاب ما جرى؟ شخصيا قرأت كل ما سبق وكنت أنظر إلى جريمة السبي كحلقة من سلسلة الفظائع التي ارتكبتها الأيادي الآثمة لداعش، لكن عندما قرأت كتاب نادية مراد “الفتاة الأخيرة” تغيرت نظرتي كليا إلى الجريمة، لقد أعادت تقنيات السرد الأدبي بناء المأساة بتفاصيلها المريرة، كما لن تفعل أي تقنية معرفية أخرى. وأجادت كاتبة سيرة نادية مراد المتمرسة في السرد الصحفي صياغة نصها مازجة بين الصحافة والأدب على طريقة صاحبة نوبل سفيتلانا ألكسندروفنا. وتبدى الدواعش في نصها ككائنات شبقية مميتة، لا تعرف الرحمة سبيلا إلى قلوبهم، ولا يتحرجون في التناوب على اغتصاب فتاة مسكينة منتهكين بذلك حتى قوانينهم التي وضعوها لتأطير السبي وتنظيم أسواق النخاسة.
السرد الصحفي عندما يتناول أحداثا ما، لا يكتفي فقط بوصف معالمها واستنطاق شهودها بل يعيد تمثيل الأحداث بما اكتنفها من مشاعر وأحاط بها من ملابسات، دون أن يغفل عن أي تفصيلة قد يظنها الكثيرون غير مهمة، (الفستان المثير الذي أمر الحاج سلمان نادية مراد بارتدائه وهي تخدم ضيوفه قد يبدو تفصيلة تافهة ولكنه في الواقع مفتاح مهم لفهم شخصية أحد كبار قضاة داعش في الموصل) باختصار السرد الصحفي لا يرمم الوقائع فحسب بل يعيد إليها الحياة أيضا.
عار داعش
عندما تحدثت نادية مراد عن تفاصيل معاناتها مع الاغتصاب في أرض الخلافة المزعومة، فإنها لم توثق فحسب واحدة من أسوأ الجرائم ضد الانسانية في العقود الأخيرة، ولكنها أيضا قدمت للخبراء النفسيين مادة ثمينة يمكن أن تساعد في فهم الدوافع العميقة التي انطوت عليها سلوكات عناصر تنظيم داعش. في سوق السبايا الذي فتحه الدواعش خافت نادية أن يشتريها عنصر ضخم الجثة بملامح مخيفة يدعى “سلوان” فقررت أن تعرض نفسها على رجل بدا لها وقورا في هيئة معتدلة حظي باحترام الحاضرين، يدعى “الجاج سلمان” ويعمل قاضيا كبيرا في الموصل. في منزل هذا القاضي “الوقور” ستتعرض نادية لمزيج ومريع من الممارسات السادية والشاذة تليق بقاتل متسلسل، و سيستغرب القارئ كيف تمكن هذا الرجل من إخفاء شخصيته المضطربة وغرابة أطواره في هيئة من الزهد والوقار.
تنقلت نادية بين أعضاء آخرين في التنظيم تفاوتوا فقط في مستويات الاضطراب التي طبعت سلوكهم، فتعرضت للاغتصاب في البيوت ونقاط التفتيش، وتناوب عليها أكثر من عنصر في وقت واحد، تعرضت للضرب والإهانة وأجبرت على التفاعل مع نزوات الحاج سلمان الشاذة. لقد كان الجنس دافعا أساسيا من دوافع العنفوان الداعشي، وحتى عندما يستقل أحدهم عربته المفخخة فإنه يرى في زر التفجير عصا سحرية ستلقي به بين أحضان الحور العين، ولا يعبأ بعد ذلك بفداحة ما سيخلف وراءه من خسائر.
عندما اجتاح تنظيم داعش المدن والقرى السورية ودخل في معارك ضارية مع الفصائل السورية روج عناصره على نطاق ضيق لفتوى تجيز لهم ما سموه “سبي نساء المرتدين” وانخرط أنصاره وشرعيوه في جدل فقهي على منصات التواصل الاجتماعي حول وجاهة الفتوى وصلاحيتها. والفتوى عبارة عن ضوء أخضر لشن حملات اغتصاب ضد النساء في سوريا بعد اقتحام المناطق المحسوبة على فصائل المعارضة، أخذت بعض العناصر بالفتوى وسجلت حالات سبي “اغتصاب” محدودة في بلدة صوران في ريف حلب الشمالي في مايو 2015. تدخل أبو ميسرة الشامي القيادي البارز في التنظيم وألغى الفتوى، ونشر بدلها مقالا بعنوان (بلغوا نساء الصحوات أنهن طوالق) أكد فيه وقوع الطلاق بين عناصر الفصائل السورية وبين زوجاتهم، وأن أي علاقة ستقوم بينهما هي علاقة “زنا وأولادهم أولاد زنا” بسبب نواقض الإسلام التي وقعت فيه فصائل المعارضة. إلغاء فتوى السبي لم يكن عن قناعة شرعية أو أخلاقية بل لتداعياتها السلبية على التنظيم نفسه، فهو بحاجة إلى تحسين صورته أمام القبائل العربية والمجتمعات السنية لاستقطاب عناصر جدد لصالحه.
نقطة مهمة أشارت إليها نادية مراد في كتابتها وقد لا يلتفت إليها الكثيرون وهي أن التنظيم كان مصمما على تنفيذ جريمة السبي والإبادة ضد الأيزيديين وحريص على منع حدوث أي طارئ يحول دون ذلك، فهو مثلا لم يخير الايزيديين بين الإسلام أو القتل كما روج في إصداراته، لأنه كان يخشى أن يسلموا فتضطرب مخططاته. تقول نادية في كتابها أن التنظيم بعدما جمع العوائل الأيزيدية في المدرسة خيرها بين الإسلام وبين النزوح إلى جبل سنجار، فاختارت النزوح إلى الجبل، فشرع فورا في فرز الفتيات الصغيرات وساق البقية إلى حتفهم. كانت خدعة دنيئة من التنظيم، فهو يدرك أن العوائل المرعوبة ستختار الجبل بحثا عن الأمان في ذلك الموقف العصيب.
اخفاء الجريمة
لم يتردد التنظيم يوما في توثيق أبشع جرائمه وبثها في الإعلام، لكنه فيما يتعلق بالسبي كان لافتا حرصه على كتمان كل ما يتعلق به وحصره في أضيق نطاق. ومن بين مئات الآلاف من المواد النصية والمرئية التي أصدرها توجد فقط مطوية مختصرة عن السبي والرقاب، كان يدرك أنه مهما حاول شرعنة ما قام به فسيظل في ضمير المسلمين والعالم جريمة اغتصاب لا أكثر.
في الأسابيع الأخيرة سرب منشقون عن التنظيم وثيقة سرية زكت بعضا مما أوردته نادية مراد في كتابها، فقد ذكرت مثلا أن التنظيم يمنع كليا جمع أكثر من “سبيتين” في بيت واحد، كما يحظر على ملاك السبايا تمكينهن من أي وسيلة اتصال مهما كانت ويعاقب عقوبة رادعة كل من يخالف هذه الشروط و”تصادر” منه سبيته!. فقد صدر تعميم داخلي عن اللجنة المفوضة في مارس 2016 موقع من عبد الله قرداش وموجه إلى كافة “الولايات” بشأن التعامل مع السبايا جاء فيه ” لا نقبل البتة جمع الاخوة سباياهم في بيت واحد أو في المضافات والمقرات فعلى صاحب السبية أن يأخذ سبيته إلى بيته الذي فيه أهله.. فمن وجدناه قد خالف هذه الضوابط سيحال إلى المحكمة الإسلامية ويعاقب عقوبة تعزيرية”. وعن تمكين السبية من وسائل الاتصال جاء في الوثيقة ” من وجدناه قد أعطى لسبيته هاتفا، أو سهل لها الاتصال الهاتفي، أو استعمال النت فستصادر السبية مباشرة من قبل الوالي أو أمير الديوان أو أمير الهيئة”.
ضحايا صامتون
تمكنت نادية مراد من تجاوز محنتها وحملت ندوبها بشجاعة إلى منصة نوبل حيث رآها العالم أجمع، وكانت معجزة أن تتحول فتاة صغيرة شبه أمنية بالكاد تتحدث العربية إلى أيقونة عالمية تحكي عن مأساتها بلغة إنجليزية سلسلة في الإعلام العالمي، لكن ماذا عن قصص الضحايا التي لم يسمع بها أحد؟ ففي اللحظة التي شن فيها التنظيم حملة الإبادة ضد الأيزيديين في سنجار ونفذ بحقهم إعدامات جماعية بالرصاص، كانت خناجره تقطع رقاب مئات الأبرياء من قبيلة الشعيطات شرق سوريا، فكم من حالة اغتصاب حصلت في حملته تلك ولم يسمع بها أحد؟ وأثناء تحرير هذا المقال تتعرض عشرات القرى المسيحية في وسط إفريقيا لحملات إبادة امتلك التنظيم ما يكفي من الجرأة لتوثيق بعضها وبثها في منصاته الرقمية.
إذا كان بعض عناصر التنظيم لم يجدوا حرجا في التحرش واغتصاب إخوانهم ورفاقهم “المردان” في الدورات الشرعية فبوسعك أن تتخيل ماذا سيصنعون في من يعتبرونهم خصوما للدين. في 17 ديسمبر 2018 قام متشددون موالون لتنظيم داعش بذبح سائحتين اسكندنافيين في منطقة توبقال وسط المغرب، وطبعا قبل تنفيذ جريمة الذبح التي وثقوها بالفيديو تناوبوا بوحشية على اغتصاب الضحيتين، وقد اعترفوا في المحكمة بجريمتهم وطلبوا العفو والصفح. لو أطلقت حملة واسعة النطاق على غرار حملة me too في المناطق التي انسحب منها تنظيم الدولة الإسلامية، ووضعت آليات لتمكين الضحايا من الإدلاء بشهادتهن بهويات محجوبة مراعاة للخصوصية الاجتماعية والثقافية التي تحتفي بالصمت وتدين البوح في قضايا العرض والشرف، فلا شك أن العالم سيسمع عن فظائع لا نظير لها، وسيسمع لأول مرة في التاريخ عن طائفة تتقرب إلى الله بالاغتصاب.