الوصول السريع للمحتويات

كيف أدار سيف العدل تنظيم القاعدة من سجون إيران؟

لايزال تنظيم القاعدة يلتزم الصمت إزاء هوية قائده الجديد، وقد راجت فرضية مفادها أن هذا التأخير راجع إلى الوضع الأمني لسيف العدل داخل إيران؛ وضع حال دون تواصل فعال وسريع بينه وبين القيادات الأخرى، لأن تعيين قائد جديد يحتاج إلى مشاورات موسعة يدلي فيها جميع زعماء الأفرع الأخرى برأيهم، وقد تستغرق هذه الاجراءات وقتا طويلا قبل أن تستقر الآراء على موقف موحد. في هذا التقرير سنكتشف أن هذه الفرضية ليست صحيحة تماما، فالقاعدة حسمت مبكرا في مسألة ما بعد الظواهري، كما أن سيف العدل لم يجد يوما صعوبة في إيصال صوته إلى حيث يريد.

مجمعات الاحتجاز

اتفق سيف العدل مع عناصره في معسكر تدريبي بأفغانستان على توريط أبو حفص المصري في كمين وهمي كدليل على نجاحهم في استيعاب دروس “دورة الكمائن” التي تجري في المعسكر. لكن عوض أن تدخل سيارة أبو حفص المصري منطقة الكمين كما كان متوقعا، دخلت بالصدفة سيارة أخرى يستقلها مصطفى حامد (أبو الوليد المصري) وعائلته، بعد الاعتذار من سوء التقدير الذي حصل وحالة الهلع التي سببها الكمين، تعرف سيف العدل لأول مرة على مصطفى حامد. وستكون هذه اللحظة فارقة في حياة الرجل. في 6 من ديسمبر /كانون الأول 1991 أي بعد عام من واقعة الكمين سيتزوج سيف العدل من أسماء؛ البنت الكبرى لمصطفى حامد في حفل بالغ الرمزية، شهد قرانه جلال الدين حقاني مؤسس شبكة حقاني ووالد سراج الدين حقاني وزير داخلية طالبان. أسماء ستلعب لاحقا دورا أساسيا في حياة سيف العدل.

عقب التدخل الأمريكي في أفغانستان دخل سيف العدل مع قيادات أخرى من القاعدة وعائلاتهم إلى إيران. استقروا بداية في منازل آمنة بمدينة شيراز، لكن في 23 من أبريل/نيسان 2003 قامت السلطات الايرانية باعتقالهم، واستنادا إلى إفادة سليمان أبو غيث الناطق الرسمي باسم القاعدة لمحققي مكتب التحقيقات الفيدرالي فإن قادة القاعدة تنقلوا عبر مواقع احتجاز مختلفة، تفاوتت فيها طريقة تعامل الإيرانيين معهم؛ من تضييق شديد إلى بذل قسط من الامتيازات المحسوبة، بدا أن سيف العدل قد استأثر بالنصيب الأكبر منها.

اعتقل قادة القاعدة أولا في منشأة تابعة للمخابرات الإيرانية في طهران، قضوا فيها عاما و8 أشهر، خمسين يوما الأولى منها في زنازين انفرادية. وتم إخطارهم بصدور قرار سيادي بالاحتفاظ بهم، وتمتعوا بمعاملة جيدة نوعا ما. بعد ذلك جرى نقلهم إلى موقع آخر وهو عبارة عن مجمع عسكري يحتوي على مسجد وملعب لكرة القدم، وسمح لهم بالتحرك داخله، وفي هذا الموقع ستلتحق أسماء بزوجها سيف العدل. بعد 6 أشهر تم نقلهم مجددا إلى موقع محصن بلا نوافذ يوجد في المجمع العسكري ذاته، قضوا فيه زهاء أربع سنوات. وأثناء تواجدهم في هذا الموقع التحقت بهم عائلة بن لادن وأبنائه؛ سعد وعثمان وحمزة. احتجت العائلات على الظروف المزرية في هذا الموقع، والتي سببت مضاعفات نفسية لبعض الأطفال، وطالبت النساء بتحسين شروط العيش فيه والسماح للأطفال بمتابعة دراستهم. أخمدت السلطات الإيرانية هذه الاحتجاجات بالقوة لكنها استجابت لبعض المطالب، فقامت بنقل العائلات الى شقق مستقلة شيدت خصيصا للمحتجزين في منطقة مسورة، وفي هذه الشقق قضى قادة القاعدة سنواتهم اللاحقة، إلى أن تمكن بعضهم من الفرار والوصول الى سفارات بلدانهم الأصلية كما هو الحال مع أبي حفص الموريتاني وإيمان ابنة أسامة بن لادن، أو الخروج بموجب صفقة تبادل للمعتقلين بين القاعدة وإيران في 2010 و2015.

أزمة التواصل

جاء في إفادة سليمان أبو غيث أن السلطات الإيرانية حظرت على قادة القاعدة استعمال أي وسيلة من وسائل التواصل خلال فترة وجودهم في مواقع الاحتجاز المشار إليها بمن فيهم سيف العدل وأبو محمد وأبو الخير المصريين، خصوصا في السنوات الأربع الأولى، ولم تسمح بها إلا في 2011 عندما وضعت آلية لتمكين المحتجزين من التواصل مع الخارج. وسمحت لكل معتقل بتصفح الانترنت مرة واحدة كل أسبوع.  وتقوم آلية التواصل تلك على وضع بريد الكتروني مشترك بين كل المحتجزين، وعندما يريد أحدهم إرسال رسالة ما فعليه كتابتها يدويا وتسليمها للسلطات وبعد مراجعتها تقوم بإرسالها نيابة عنه، وتتولى أيضا توزيع الرسائل الواردة إلى المعنيين بها بعد إخضاعها للفحص والمراجعة، وبهذه الطريقة استطاع بعض المحتجزين أخيرا التواصل مع عائلاتهم خارج إيران.

لقد انتظر سليمان أبو غيث 8 سنوات قبل أن يتمكن أخيرا من الحديث مع شقيقه في الكويت، وتفاجأ عندما علم أن زوجته استخرجت قرارا من المحكمة بالطلاق لأنها اعتقدت أنه قد مات. وبينما كان هذا حال أبو غيث وقادة آخرون في القاعدة داخل مواقع الاحتجاز كان بوسع سيف العدل في الواقع إيصال صوته إلى أي مكان، لقد ظل قائدا فاعلا في القاعدة طوال المدة التي قضاها رهن الاحتجاز المفترض داخل إيران. لقد واكب مثلا الحملة الدامية التي أطلقها تنظيم القاعدة في السعودية ابتداء من 2003 وأدلى برأيه في كثير من العمليات التي نفذتها القاعدة في العقديين الماضيين.

صدر العدد الأول من مجلة البتار في ديسمبر/ كانون الأول 2003، وهي مجلة الكترونية متخصصة في المواضيع العسكرية والأمنية كان تنظيم القاعدة في السعودية يصدرها في ذروة نشاطه، ومنذ العدد الأول إلى العدد الأخير (22 عددا) التزم سيف العدل بكتابة عمود ثابت في المجلة حول الأمن والاستخبارات. تزامن صدور العدد الأول مع فترة وجود سيف العدل في موقع الاحتجاز الأول الذي قضى فيه عاما و8 أشهر، ولم يكن يسمح للمحتجزين فيه بأي نوع من أنواع التواصل مع الخارج، كما ساهم بمقال في العدد الثاني من مجلة صوت الجهاد الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2003، فكيف استطاع الرجل مواكبة مجريات الأحداث في السعودية، ومتابعة نشرات القاعدة والمساهمة فيها؟ بل ترددت شائعات وصل صداها إلى أسامة بن لادن -كما بينت وثائق أبوت أبات- مفادها أن سيف العدل طرد يوسف العييري من القاعدة لأنه كان معارضا للتفجيرات في السعودية.

امتيازات خاصة

لا شك أن وضع سيف العدل داخل مرافق الاحتجاز الايرانية كان مختلفا عن وضع القادة الآخرين في القاعدة، ففي الوقت الذي عانى فيه أبو غيث ليخبر زوجته في الكويت أنه مازال على قيد الحياة، كان سيف العدل يرسل مقالاته إلى المجلات والمواقع الجهادية. بل احتفظ بمكانته كقائد عسكري بارز في القاعدة، حتى أن سعد بن لادن نجل أسامة بن لادن كان يراسله ليأخذ إذنه في تنفيذ عملية انتحارية ضد القوات الأمريكية في أفغانستان كما اعترف بذلك سيف العدل في أحد كتبه. وعلى مدار عقدين من وجوده في إيران نشر عشرات المقالات والكتب حول مواضيع ذات علاقة بالشؤون الأمنية والعسكرية وأساليب حرب العصابات وعمليات التمرد وغيرها، ونشر معظمها قبل 2015 وهو العام الذي أطلقت فيه السلطات سراحه بموجب صفقة تبادل بين إيران وتنظيم القاعدة في اليمن.

 واضح جدا أن زوجته أسماء لعبت دورا أساسيا في تواصله مع العالم الخارجي، فهي ابنة مصطفى حامد (ابو الوليد المصري) الكاتب الجهادي المشهور وصاحب موقع (مافا السياسي) الذي حظي بمعاملة خاصة في إيران، إذ لم يكن عضوا في القاعدة، وجاهر مرارا بمواقفه المنددة بالسلفية الجهادية وآرائها المتطرفة إزاء الشيعة، ولا يخفي في الوقت ذاته إعجابه الشديد بزوج ابنته سيف العدل، وتبادل الرجلان كثيرا عبارات المديح في نصوصهما المنشورة، ونوها بعمق الصداقة التي تجمعهما، وإن وقفا على مستوى القناعات الأيديولوجية في طرفي نقيض. من خلال أسماء وجدت كتابات سيف العدل طريقهما الى النشر سواء في موقع والدها (مافا السياسي) الذي نشرها باسم “عابر سبيل” أو مواقع ومنتديات أخرى.

لا شك أن السلطات الإيرانية على علم برواج مقالات سيف العدل على الانترنت، لكنها اختارت غض الطرف عنها رغم أنها فرضت على المحتجزين الآخرين آلية مجحفة للتواصل مع ذويهم تمثلت في البريد الإلكتروني المشترك ومراجعة كل الرسائل الصادرة والواردة منه. هل تجاهلت السلطات الإيرانية نشاطات سيف العدل مراعاة لخصوصية علاقتها بصهره مصطفى حامد، أو أنها فعلت ذلك انسجاما مع عقيدتها السياسية الرامية إلى نشر ما أمكن من الفوضى في محيطها؟

الثابت أن إيران على علم بنشاطات سيف العدل، فمن غير المعقول أن يغيب عنها ذلك وهي التي تملك جيشا من التقنيين تسللوا إلى أنظمة إلكترونية شديدة التحصين، وجيشا آخر من المحللين يتابعون كل ما ينشر على المواقع والمنصات العربية والأجنبية. إيران في الواقع لم يزعجها وجود قادة القاعدة على أراضيها أو نشاطهم انطلاقا منها فعندما قرر سليمان أبو غيث مغادرة إيران ومحاولة الوصول الى الكويت أخبره الإيرانيون أن بوسعه العودة إلى طهران متى اعتقد أن رحلته لن تكلل بالنجاح، فقادة القاعدة لم يكونوا يوما ضيوفا ثقلاء على إيران.

الأمير القادم

في 2010 كتب عطية الله الليبي إلى أسامة بن لادن يخبره أن سيف العدل ورفاقه في إيران سيأتون إلى منطقة وزيرستان حسب وثائق أبوت أباد، ورجح خبراء أمنيون أن يكون سيف العدل قد دخل فعلا إلى أفغانستان ورجع في وقت لاحق إلى إيران. ومن غير المستبعد أن يتردد هؤلاء القادة ذهابا وإيابا من وإلى إيران لأسباب كثيرة منها:

أن القاعدة حسب وثائق سرية سربها أعضاء في هيئة تحرير الشام قد حسمت مسبقا في هوية القادة الذين سيخلفون أيمن الظواهري في حال وفاته، الوثائق مؤرخة بتاريخ 2014 وبناء عليها فإن خلفاء الظواهري هم أبو الخير المصري وأبو محمد المصري وسيف العدل وناصر الوحيشي على التوالي، واشترطت الوثائق أن يكون الأمير الجديد موجودا في أفغانستان أو في فرع من فروع القاعدة. فكيف قررت القاعدة بشكل مسبق مبايعة قادة موجودين في إيران لو لم يكن في حسبانها وجود إمكانية مغادرتهم لها في الوقت الذي يريدون. وبما أن القادة المذكورين قد قتلوا باستثناء سيف العدل، فسيكون بالتالي هو الخليفة المنتظر للظواهري، وتجذر الإشارة إلى أن عبد الرحمن المغربي من الموقعين على تلك الوثائق.

بعد إطلاق سراح قادة القاعدة في إيران عام 2015، دخل بعضهم إلى سوريا واختار آخرون البقاء في طهران، فكيف قرر النائب الثاني والثالث للظواهري البقاء في إيران لو لم يتأكدا من قدرتهما على مغادرتها عندما يحين وقت تنصيبهم قادة للقاعدة. لقد قتل أبو الخير المصري في 2017 وأبو محمد المصري في 2020 وبقي سيف العدل مع ذلك في إيران، ببساطة لأنه يدرك أن باستطاعته الخروج منها متى رأى أن وقت الخروج قد حان.

سيف العدل مدين لإيران رغم ظروف الاحتجاز التي مر بها لأنها سمحت له دون غيره بهامش من الحرية وظفه للقيام بدوره كقائد عسكري في القاعدة ونائب لأميرها، ومدين لصهره وزوجته أسماء لأنها كانت بمثابة سكرتيرة مخلصة تولت مهمة توصيل بريده السري وقتا طويلا. أما موقف أسامة بن لادن السلبي من سيف العدل ورفضه إسناد منصب قيادي رفيع له، فراجع إلى تمرد هذا الأخير على أوامر بن لادن أكثر من مرة، وتحفظه على بعض قراراته وصل الى حد إصدارهما أوامر متضاربة الى عناصر القاعدة، كما كشفت عن ذلك رسالة خاصة بعث بها سيف العدل إلى خالد شيخ محمد عقب التدخل الأمريكي في أفغانستان.

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية