الوصول السريع للمحتويات

الانقسام داخل تنظيم القاعدة في اليمن

ابراهيم أبوصالح أمير الجهاز الأمني لتنظيم القاعدة في اليمن

لطالما كان الفرع اليمني للقاعدة فرعا خطيرا في أدواره وجغرافية نشاطه، أسندت إليه القيادة العامة للتنظيم مهام حساسة جدا منها القيام بعمليات عابرة للحدود، وحل الخلافات التي قد تنشب في الأفرع الأخرى، كما انطوى قرار تعيين ناصر الوحيشي (زعيم القاعدة في اليمن الأسبق) نائبا لأيمن الظواهري على رغبة قديمة في نقل القيادة العامة لتنظيم القاعدة من أفغانستان إلى اليمن، إضافة إلى كون اليمن جزء من جزيرة العرب أي ضمن النطاق الجغرافي الذي لا يجب لغير المسلمين التواجد فيه حسب أدبيات تنظيم القاعدة. ورغم اخفاق حملته الأولى التي أطلقها في السعودية منذ 2003 وانتهت بتفكيك كل خلاياه واعتقال أو تصفية قادته إلا أنه استطاع تثبيت وجوده في اليمن ودمج الفرع السعودي واليمني في تنظيم واحد سنة 2007 ما شكل تحديا للأمن العالمي منذ ذلك التاريخ.

حروب أمنية

كان اليمن مسرحا مبكرا لعمليات اغتيال استهدفت قادة في القاعدة، ففي 2002 نفذت طائرة من دون طيار أول ضربة جوية لها خارج أفغانستان أسفرت عن مقتل أبو علي الحارثي مبعوث أسامة بن لادن إلى اليمن والمسؤول عن الهجوم على المدمرة الأمريكية يو إس إس كول في خليج عدن، وناقلة النفط الفرنسية ليمبورغ، ومن حينها والضربات الجوية التي تستهدف عناصر وقادة القاعدة لم تتوقف، غير أن وتيرتها سترتفع وتركيزها سيزداد دقة مع اغتيال أبي بصير ناصر الوحيشي في 12 من يونيو/حزيران 2015 لتبدأ الحلقة القيادية في التفكك تحت ضربات جوية أتت على معظم الصف الأول للتنظيم. حارث النظاري، إبراهيم الربيش، مأمون حاتم، نصر الآنسي، جلال بلعيدي، سعيد الشهري، قاسم الريمي، أسماء وازنة تم تحييدها خلال بضع سنوات فقط.

حاولت القاعدة تطويق الشرخ الأمني الذي استشرى في صفوفها، عبر اعتماد خطط أمنية حظرت بموجبها استعمال الهواتف النقالة على عناصرها، والتركيز في إصداراتها على مواضيع الاختراق والتجسس لتكريس الوعي الأمني لدى أفرادها، وشن حملات اعتقال واسعة للمشتبه بهم في تسريب أسرار التنظيم والإبلاغ عن احداثيات مقاره وتحركات قادته، وأخيرا تنفيذ عمليات إعدام في الساحات العامة ضد أفراد زعم التنظيم تورطهم في نشاطات تجسسية لصالح جهات معادية له.

أدى هيمنة الهاجس الأمني على تنظيم القاعدة في اليمن إلى تضخم جهازه الأمني واستفراده بصلاحيات موسعة بقيادة المصري أبو صالح إبراهيم البنا، وساد بين القادة والعناصر جو من التوجس والريبة دفع القائد السابق قاسم الريمي إلى القول بأن الأفراد الموثوقين في جماعته لا يتجاوزون المئة وسيخضع ما سواهم للفحص والتحري. انعكس الطابع الأمني على الأداء العسكري والإعلامي للتنظيم حيث انكفأ على نفسه في مناطق كثيرة وفضل الدخول في حالة من الكمون الأمني على الظهور العلني والسيطرة الميدانية. وعلى الصعيد الإعلامي طغى موضوع التجسس والحروب الأمنية على إصداراته المرئية، حيث نشرت مؤسسته الإعلامية عدة أفلام تناولت الموضوع مثل سلسلة “هدم الجاسوسية” و “أسرار وأخطار” وسلسلة “حصاد الجواسيس” وغيرها

قادة جواسيس

لم يكن أحد بمنأى عن الاعتقال والتحقيق في ظل نفوذ الجهاز الأمني، واضطلاعه بمسؤولية الكشف عن الخلايا التجسسية داخل التنظيم، ومع استفحال الاستهداف المباشر للقادة الكبار، توسعت دائرة التحقيق لتشمل قيادات الصف الثاني، وكانت المفاجأة عندما تم اعتقال عدد من القادة والمسؤولين بتهمة التجسس وتقديمهم للقضاء الأمني الذي أكد المنسوب إليهم وأصدر بحقهم أحكاما بالإعدام، تم تنفيذها في وقت لاحق.

من بين القادة الذين أدينوا بالتجسس كل من:

 (أحمد عبد الله صالح الخزمري) المشهور بأبي مريم الأزدي، وهو منظر جهادي صاعد، كان ضمن لائحة المطلوبين الـ 85 التي أصدرتها السعودية في فبراير/شباط 2009 غادر السعودية متجها إلى أفغانستان حيث استقر في منطقة وزيرستان الحدودية، التقى بكبار قادة القاعدة في أفغانستان كأبي يحيى وعطية الله الليبيين وعبد الله العدم وغيرهم، نشر عشرات الكتب والمقالات في المواقع والمنتديات الجهادية منذ 2010، دخل إلى سوريا في 2013 ومنها انتقل إلى اليمن حيث استأنف نشاطه التنظيري هناك إلى غاية اعتقاله وإعدامه. فياض الحضرمي: المسؤول الأمني الميداني، انضم إلى تنظيم القاعدة في العراق عام 2003، وكان عضوا في “كتيبة الاستشهاديين” التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي، كلفه هذا الأخير بمهمة في السعودية حيث تم اعتقاله وأمضى في السجن 6 سنوات، بعد إطلاق سراحه دخل إلى اليمن والتحق بصفوف القاعدة، تنقل في المناصب والمسؤوليات إلى أن شغل منصب المسؤول الأمني الميداني، وهو منصب حساس يخول لصاحبه الاطلاع على معطيات التنظيم وملفاته السرية، اعتقل في حملة اللجنة الأمنية وأدين بالتجسس وحكم عليه بالإعدام.

عبد الله بوازير ويعرف أيضا بسعيد شقرة، كرس 10 سنوات من حياته لتنظيم القاعدة في اليمن، مقاتلا في صفوفه ومضطلعا بمسؤوليات عدة داخله، آخرها رئيسا للجنة المالية، وهي اللجنة المكلفة بتدبير ميزانية التنظيم، وترتيب أموره المالية، اعتقل في حملة اللجنة الأمنية وأعدم بتهمة التجسس.

وصف تنظيم القاعدة في اليمن الرجال الذين أعدموا (بالجواسيس الخونة) وتوعد بملاحقة كل من ثبت تورطه في زرع شرائح التعقب في سيارات ومقرات التنظيم، أو يروج لأفكار وتوجهات تخالف سياسته، فهو لا يحصر التعامل مع أعداءه في التخابر معهم عبر تمرير المعلومات لهم أو تزويدهم بالإحداثيات ولكنه يدرج أيضا ضمن (أعمال التجسس) تداول الشائعات، وترويج أفكار تخالف استراتيجية التنظيم وتوجهاته، وقد حذر قاسم الريمي زعيم التنظيم السابق عناصره بالقول: (من يضع نفسه موضع الشبهة فلا يلومن إلا نفسه).

تصدع التنظيم

اعتقد تنظيم القاعدة أن مقاربته الأمنية الصارمة ستنجح في تحصين بيته الداخلي، وترميم الثغرات التي شكلت منفذا لعمليات اختراق وصلت إلى أرفع المناصب، ولم يكن يدرك أنها ستحدث تصدعات عميقة في بنيته التنظيمية لم يختبر التنظيم مثلها منذ تأسيسه. ففي 19 من أبريل/نيسان 2020 خرج مجموعة من القادة  في تسجيل صوتي بعنوان (معذرة إلى ربكم) نددوا فيه بما سموه أفعالا “تذكر بجرائم دولة البغدادي” قام بها تنظيم القاعدة في اليمن، ونعوا شخصيات جهادية تم إعدامها ” بحجج هي أوهن من بيت العنكبوت” أبرزها: أبو مريم الأزدي وفياض الحضرمي وسعيد شقرة، وتحدثوا عن خروقات شابت عمليات الاعتقال والتحقيق، وناشدوا أيمن الظواهري وشيوخ التيار الجهادي من أجل التدخل وإرغام قيادة القاعدة في اليمن على المثول أما لجنة قضائية مستقلة لكشف حيثيات ما جرى مع الشخصيات التي تم إعدامها.

اعتزل القادة والعناصر المحتجون على الإعدامات، وعلقوا عملهم في التنظيم، وطالبوا “بإصلاح حال الجماعة إصلاحا جذريا” وكان من أبرز هؤلاء كل من: أبو عمر النهدي، ومنصور الحضرمي، ومصعب الشرقي، وحسان القصيمي، وعزام الإبي، وأبو داوود الشروري، وحسين قروش العدني وغيرهم. واقترحوا لحل الخلاف عقد محاكمة مستقلة خارج التنظيم تعيد النظر في الملفات الأمنية للشخصيات التي تم إعدامها، ومراسلة أيمن الظواهري بشأن ما جرى وانتظار رأيه في الموضوع.

قبل الخروج الإعلامي للمعتزلين، أرسلت القاعدة وفدا في 29 من نوفمبر/تشرين الثاني 2019 للتفاوض معهم ومحاولة الوصول إلى حل يرضي الجميع، فاتفق الطرفان على إرسال المعتزلين مذكرة إلى أيمن الظواهري يشرحون فيه حيثيات الأحداث، ويتولى خالد باطرفي إرسالها دون الاطلاع على فحواها، ثم عقد محاكمة مستقلة للنظر في القضايا المثيرة للجدل. لكن الاتفاق تعذر تنفيذه لاحقا، لأن خالد باطرفي أصر على إعادة تحرير المذكرة المزمع إرسالها إلى الظواهري في مستند آخر لدواعي أمنية، الأمر الذي رفضه المعتزلون، واعتبروه إخلالا بشرط سرية المذكرة. وفي 28 من آذار/مارس 2020 عقد الطرفان جلسة حوار أخرى، شددت خلالها القاعدة على رفضها إجراء أي محاكمة يشارك فيها طرف ثالث لأن ذلك يعني تسريب أسرار التنظيم إلى جهات خارجية، واقترحت بدلا من ذلك إجراء محاكمة داخلية على أن ترسل الأحكام الصادرة عنها إلى شيوخ التيار الجهادي لتمييزها، أو إرسال ملفات القضايا المثيرة للجدل إلى أيمن الظواهري ويكون رأيه فيها ملزما للطرفين. المعتزلون بدورهم رفضوا مقترحات قيادة القاعدة وأصروا على مطلبهم في عقد محاكمة مستقلة لا يشارك فيها قضاة التنظيم، كونهم طرف في النزاع لأن أحكام الإعدام صادرة عنهم، وأبدوا استعدادهم لقبول مقترح تصوير جلسات المحاكمة بالفيديو وإرسالها إلى شيوخ التيار الجهادي لمراجعة الأحكام عند صورها، وهو الاقتراح الذي رفضته قيادة القاعدة جملة وتفصيلا. ومع استعصاء الأزمة وتمسك كل طرف بمواقفه قرر المعتزلون إنهاء علاقتهم بالقاعدة والانشقاق عنها، ومراسلة الظواهري بطرقهم الخاصة، ورفع شكوى إليه، بشأن ما اعتبروه انحرافا لقيادة القاعدة في اليمن.

وتستمر المعضلة

خلال بضع سنوات فقط أعلن تنظيم القاعدة في اليمن عن تفكيك عشرات الخلايا التجسسية التي توغلت عميقا داخله إلى درجة التماس المباشر مع أمراءه ومؤسسية، وبث عشرات الاعترافات لأشخاص زعم أنهم متورطون في أعمال تجسسية. المنشقون عن التنظيم من جهتهم أكدوا وجود أبرياء كثر حصد الجهاز الأمني أرواحهم بسبب  المساطر التي اعتمدها الجهاز في تحقيقاته مثل التعذيب الوحشي للمشتبه فيهم، والاعتماد على ما يسمى (القرائن)، ويقصد بالقرائن  الاكتفاء بتضافر المؤشرات في إثبات التهم بدل الأدلة القاطعة التي لا يرقى إليها الشك، وتعتبر مسألة (حجية القرائن) إحدى نقاط الخلاف بين القاعدة في اليمن والمنشقين عنها، إذ يجادل هؤلاء أن القادة الذين تم إعدامهم استند القضاة في إدانتهم إلى قرائن متوهمة ” قرائنكم لا ترتقي إلى مرتبة القرائن المتوهمة.. قرائنكم لا تدخل في دائرة القرائن الظنية فضلا عن القطعية، ولمعرفتنا بخبايا المحاكمات والقرائن المزعومة ندرك لماذا يصر القوم على عدم النزول للمحكمة الشرعية المستقلة” يؤكد المنشقون في بيان لهم.

لم تمنع حملة التطهير الواسعة التي شنتها اللجنة الأمنية وأسفرت عن إعدام العشرات من الجواسيس المفترضين من تواصل عمليات الاستهداف المباشر لقادة كبار في التنظيم، حيث قتل قائد التنظيم السابق قاسم الريمي في الـ 29 يناير/ كانون الثاني 2020. وبعد حوالي عامين كانت الضربة الأكبر باستهداف صالح عبولان المعروف ب (أبي عمير الحضرمي) المسؤول العسكري للتنظيم وأحد القادة التاريخيين للقاعدة، ولم يكن للرجل أي نشاط علني من قبل، ولم يظهر في الإعلام، وظل يعمل في صمت وخفاء إلى أن تم اغتياله في غارة جوية بواسطة طائرة من دون طيار. وفي 22 من مايو/أيار 2022 أي بعد 20 عاما على اغتيال أبي علي الحارثي أعلن الجهاز الأمني لتنظيم القاعدة في اليمن في إصدار مرئي عن اعتقال وإعدام الرجل الذي ساعد المخابرات الدولية في تحديد مكانه، في إشارة  من الجهاز إلى أن حملته لا يؤطرها أفق زمني محدد، وستستمر رغم اعتراض المنشقين واحتجاجهم، وإعادة بث مقاطع إعدام الجواسيس المفترضين في الإصدار المذكور دليل على أن حملات التطهير قد حصلت على الضوء الأخضر من زعيم القاعدة  أيمن الظواهري، وإذا كانت مذكرة المنشقين قد وصلت إليه فيبدو أن موقفه من الخلاف لم يكن لصالحهم.

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية