الوصول السريع للمحتويات

هندس الدعاية وأسس محاكم التفتيش.. “الفرقان” طبيب أطفال كرس التشدد في عقيدة داعش

لا يوجد قيادي في تنظيم داعش ترك بصمته في التنظيم بقناعاته المتشددة وأداءه القيادي متعدد الصلاحيات كما فعل أبو محمد الفرقان. تأثير ” الفرقان” لم يبدأ فقط مع إعلان “الخلافة” وصعود التنظيم في منتصف العقد الماضي، بل كانت له أدوار مبكرة بأسماء مستعارة حتى قبل إعلان الزرقاوي بيعته لتنظيم القاعدة في 2004 ووضع النواة الأولى لما سيصبح لاحقا أكبر تنظيم ارهابي في العالم. “أبو سجاد” و “أحمد الفياض” و ” أبو عبيدة عبد الحكيم” و”أبو محمد الفرقان” أسماء حركية مارس بها الرجل نفوذه، ورسخ بها تأثيره في كوليس التنظيم. لم يكن بحاجة إلى الظهور على الخشبة فهو بمثابة المخرج الذي يكتب النصوص ويوزع الأدوار، ويتدخل كلما أحس أن العرض لا يسير كما يريد.

نشاط مبكر

طبعت نزعة من التشدد قناعات “وائل عادل حسن الفياض” الاسم الحقيقي لأبي محمد الفرقان منذ سنوات دراسته في جامعة بغداد عندما كان متأثرا بأفكار أئمة الدعوة النجدية، وعاكفا على قراءة تراث محمد بن عبد الوهاب وأحفاده. وبدخول الأمريكيين إلى العراق كان الحافز النظري لمواجهتهم جاهزا في وعي “الفرقان” بما تشبع به من أفكار الدعوة الوهابية التي وجهت سهام نقدها أكثر إلى ما تسميه “طوائف الردة” واحتفت بمفاهيم “الولاء والبراء” و”نواقض الإيمان” وستكون هذه الأفكار أساسا عقديا لحرب طائفية وأهلية فتح فيها “الفرقان” النار على أقرب المقربين إليه ممن خالفه في بعض المسائل العقدية الدقيقة.

قبل أن تتبلور جماعة الزرقاوي في العراق، انضم الفرقان إلى جماعة أنصار الإسلام الكردية وساعدها على التموضع في العراق وإعادة هيكلتها باسم “جماعة أنصار السنة”، ثم التحق بجماعة التوحيد والجهاد بزعامة الزرقاوي، وتولى مهمة الإعلام فيها، واستمر في مهمته بعد تأسيس تنظيم القاعدة في العراق حيث أصبح أميرا للقسم الإعلامي. في هذه الفترة قرر الزرقاوي الظهور لأول مرة بوجه مكشوف فاستدعى ” الفرقان” من بغداد ليكون مشرفا على تصوير المشاهد التي سيظهر فيها، وفي الطريق إلى مهمته الخطيرة هذه سيلقى القبض عليه ويودع السجن.

خرج من السجن فوجد المشهد قد تغير بمقتل الزرقاوي والاعلان عن تنظيم دولة العراق الإسلامية، وفي 2009 عينه أبو عمر البغدادي وزيرا للإعلام ومسؤولا عن مؤسسة الفرقان، وعمل في هذه المرحلة باسم ” أحمد الطائي”. تعرضت مؤسسة الفرقان لنكسات كثيرة بسبب اكتشاف السلطات الأمنية العراقية لمقراتها السرية، وانعدام الكوادر التقنية المدربة. فقرر “الفرقان” تأهيل نفسه تقنيا من خلال مواد ارشادية متاحة على شبكة الانترنت، وتمكن بواسطتها من تطوير مهاراته الاخراجية. أخذ الرجل بعد ذلك على عاتقه إعداد الاصدارات المرئية لتنظيم دولة العراق الإسلامية وتولى بنفسه تحرير الأفلام واضافة المؤثرات عليها واعتماد نسخها النهاية، وهو المسؤول شخصيا عن أكثر أفلام التنظيم فظاعة ووحشية بما فيها الأجزاء الثلاثة الأولى ل “صليل الصوارم”.

ديوان الإعلام

بعد الاعلان عن “الخلافة” واجتياح التنظيم لمساحات شاسعة في العراق وسوريا، برز “ديوان الإعلام المركزي” كدراع دعائية بصلاحيات واسعة، لقد أصبح العمل أكبر مما يستطيع الفرقان تأديته بمهاراته الخاصة، وصارت المواد المرئية والنصية والصوتية تصدر كل يوم، وظهرت مؤسسات اعلامية متعددة مكلفة بمهام النشر الخارجي بمختلف اللغات، ورغم هذه الطفرة الدعائية التي حدثت نتيجة التحاق عشرات الكوادر المتعلمة في الجامعات الغربية بالتنظيم إلا أن قبضة الفرقان على ملف الاعلام مازالت قوية. واللافت أنه قام بتوزيع الكوادر الوافدة على مفاصل ومؤسسات الجهاز الإعلامي الضخم الذي شيده وبقيت مؤسسة الفرقان تابعة له شخصيا، ولا يمكن لأي خطاب رسمي لأمراء داعش أن يخرج إلا عبرها، والأمر يشبه محاولة تحصين مؤسسة تلفزيونية رسمية تحسبا لأي انقلاب وشيك، وعناصر التنظيم وأنصاره لا يثقون إلا في خطابات المؤسسة ولا يبايعون إلا من يطل عليهم عبرها.

حول الفرقان ديوان الإعلام الى معقل له ولأنصاره، ومارس من خلاله رقابة صارمة على كل ما ينشر ويبث باسم داعش، متصديا لكل ما يمكن أن يمثل سلطة موازية داخل التنظيم، أو جيوبا تغرد خارج سربه. ولما بدأ “الشيوخ” و”الشرعيين” في تحرير النصوص الشرعية وإصدار الفتاوى واستقطاب المريدين تحت مظلة ما سمي “مكتب البحوث والدراسات” تصدى لهم بكل صرامة ووظف معرفته السابقة بأفكار الدعوة النجدية في الرد والتعقيب على كثير من المقالات والفتاوى التي أصدرها المكتب، لاسيما تلك المتعقلة بمسائل العقيدة والتوحيد.

تجاوز الفرقان صلاحياته وتخصصه وأصدر في 29 مايو 2016 بيانا بعنوان “حكم المتوقف في تكفير المشركين” كان بمثابة التأسيس لمرحلة جديدة من عمر داعش، البيان كرس فكرة التكفير بالتسلسل، والقول بردة الشعوب التي تنتخب زعمائها، وأصل لعدم الحكم بإسلام أي فرد في العالم الإسلامي قبل امتحان عقيدته والتأكد من صحة توحيده!  أثار البيان حفيظة تيار “الشرعيين” في التنظيم وكتبوا عدة رسائل احتجاج إلى البغدادي واللجنة المفوضة، وحذروه من تداعيات البيان، وأن ما ورد فيه يمثل مخالفة صريحة لقناعات مؤسسي التنظيم لكن دون جدوى. والبيان في الواقع عبارة عن نص مختزل جدا وأي جريمة إبادة جماعية يمكن أن يكون أرضية نظرية لها.

محاكم التفتيش

وجد الفرقان أن العشرات ممن يسمون بالشرعيين قد التحقوا بالتنظيم قادمين من مختلف أنحاء العالم، وشرعوا في كتابة العشرات من الكتب والمقالات باسم بالتنظيم، وتبوأ أكثرهم مناصب حساسة فيه، وبعضهم يستشيره البغدادي في شؤونه الشخصية، ولا يخفي الفرقان ازداءه لهذه الفئة فقال يوما:” الدولة لم تقم على الشرعيين وما ضيع الدولة إلا الشرعيين” وإضافة لما قد يمثلونه من سلطة رمزية منافسة، فإن أكثرهم أيضا يحمل أفكارا تخالف الأفكار التي يرى أن التنظيم قائم عليها، وبالتالي وجد أن الحاجة ملحة لتأسيس “محكمة تفتيش” تأخذ على عاتقها مهمة فحص القناعات العقدية لعناصر التنظيم ومسؤوليه خصوصا من طبقة “الشرعيين” فأسس “لجنة الرقابة المنهجية” وأسند مهمة استجواب الماثلين أمامها إلى أقرب المقربين إليه وهما شعبة المصري وأبو ميسرة الشامي.

حققت اللجنة مع العشرات من الشرعيين، بمن فيهم قادة كبار كتركي البنعلي وأبي بكر القحطاني، ووجهت إليهم أسئلة حول أدق المسائل العقدية التي يعتنقونها، ومن قدم منهم جوابا على غير الوجه الذي تتوقعه منه، أو وجدت عنده قناعة لا تتفق مع ما تعتقد أنه ” التوحيد الخالص” وهو بالمناسبة عنوان كتاب كتبه الفرقان فإن أمامه خياران، إما التراجع عن قناعاته بعد احالته على جلسة استتابة أو أن يتم إعدامه. وقد جرى فعلا تصفية الكثير من الشرعيين بعد هذه الجلسات وبعضهم تراجع عن أفكاره حفاظا على حياته، وفي النهاية تم حل “مكتب البحوث والدراسات” ومطاردة من تبقى من كوادره وألغي العمل بالفتاوى والتوجيهات التي أصدروها.

كانت فكرة “لجنة الرقابة المنهجية” غير مسبوقة وغريبة على نحو مثير، وتعبر عن هاجس الخوف من اختطاف التنظيم من طرف غرباء مجاهيل قدموا من مختلف أصقاع الأرض، هاجس عبر عنه بوضوح “حجي حامد” بالقول: ” ما ننطيها.. ما نعرف قرعة أبوهم منين يجون ياخذونها منا” هذا من جهة من جهة أخرى يريد الفرقان من “جلسات التفتيش” هذه كسر كبرياء الشرعيين وتحطيم رمزيتهم في عيون أتباعهم لتطويق نفوذهم والحد من تأثيرهم.

الولايات البعيدة

إلى جانب اشرافه على منظومة الدعاية المتشعبة للتنظيم، وفرض قناعاته المتطرفة على كوادره عبر البيانات المثيرة للجدل التي أصدرها، أدار الفرقان أيضا “مكتب إدارة الولايات البعيدة”، ومهمته التواصل مع فروع التنظيم الموجودة خارج العراق وسوريا وتوجيه أمراءها والرد على أسئلتهم واستفساراتهم، وكان يوقع رسائله إلى قادة هذه الولايات باسم ” أبو عبيد عبد الحكيم”. ويظهر من الرسائل التي سرب بعضها أن الرجل حريص على معرفة كل التفاصيل المرتبطة بعمل “الولاية” ويطلب موافاته بتقارير مطولة عن أوضاعها، وعندما تأتيه استفسارات معينة يجيب على بعضها من تلقاء نفسه، ويحيل بعضها الآخر على من سماهم “المشايخ” ويقصد البغدادي والمقربين منه. لقد كان الفرقان أميرا للجنة المفوضة في وقت من الأوقات، وتمتع بصلاحيات واسعة لم تترك خيارا للمعارضين له سوى الإذعان لسياسته أو التواري عن الانظار. لقد كان يرى في نفسه وصيا على “الدولة” ومعنيا بتمثيلها والتحدث باسمها وبالتالي لم يكن يرى مشكلة في شخصيته العابرة للتخصصات عندما أشرف على الإعلام والولايات البعيدة والمكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية ولجنة الرقابة المنهجية واللجنة المفوضة.

يرتبط الطبيب في وعي الناس بالأمل والحياة، ويمثل في خيالهم نقيضا للألم والمعاناة. لكن “الفرقان” بصفته طبيبا للأطفال كرس حياته ومؤهلاته لجعل أكبر عدد من الناس يعانون، ولم يجد حرجا في توثيق مشاهد القتل الفظيعة وحفلات الاعدام بدم بارد وإخراجها فنيا بأوضح صورة، قتل “الفرقان” في نهاية 2016 لكن أتباعه مازالوا مسيطرين على الإعلام، ومازال التنظيم يعتمد العمل ببيانات التوحش التي صاغها قبل رحيله.

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية