كانت آمال الشعب السوداني عريضة في وضع حد لحقبة سياسية كان فيها السودان خاضعا للعقوبات ومدرجا على لائحة الدول الراعية للإرهاب، وعندما تكللت انتفاضته بإسقاط نظام الرئيس عمر البشير في 11 من أبريل 2019 كانت القوى المدنية والعسكرية التي أدارت المرحلة الانتقالية قد أجمعت على تطبيع علاقة السودان مع المجتمع الدولي وتسوية القضايا المرفوعة ضده، والانخراط الفعال في جهود مكافحة الإرهاب، وإنهاء عزلة البلد التي دامت لثلاثة عقود.
لكن ما إن وقعت القوى السياسية والعسكرية اتفاقا اطاريا في 5 من ديسمبر 2022 ينص على تسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة حتى نشب خلاف حاد داخل المكون العسكري، سرعان ما تحول إلى نزاع مسلح لم يقوض فقط آمال السودانيين في الحرية والديمقراطية ولكنه أنذر أيضا بتحويل السودان إلى دولة فاشلة يعصف بها الانقسام، وبؤرة أخرى للإرهاب العنيف في إفريقيا.
السودان والقاعدة
أسباب كثيرة ستجعل تنظيم القاعدة مهتما بإعلان وجوده في السودان خلال المرحلة القادمة إذا استمرت الأوضاع الأمنية في التدهور، وتواصل القتال بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني وما سينتج عن ذلك من فراغ أمني وفوضى عارمة.
ففضلا عن التنافس الشرس بين القاعدة وداعش في إفريقيا وحماس كل واحد منهما لتقديم نفسه كمظلة تنظيمية بديلة لاستقطاب آلاف المحسوبين على التيار الإسلامي في السودان، فقد غيرت الثورة أيضا وضع السودان في أجندة الجماعات الإسلامية بمختلف توجهاتها. فتعاونه الوثيق في الحرب على الإرهاب وما يقتضيه ذلك من تبادل للمعلومات وإنهاء الملاذات الآمنة وتأمين الحدود وتجفيف منابع التمويل وأخيرا رفع قوات الدعم السريع لشعار محاربة “الإسلاميين المتطرفين” كل ذلك سيغير وضع السودان في أجندة هذه الجماعات من عمق لوجستي وقناة عبور كما كان منذ عقود إلى ساحة قتال ومواجهة.
هذا ما لمح إليه تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن الإرهاب في السودان في 2021 فقد لفت التقرير إلى أن البلد وإن لم يشهد حوادث إرهابية في 2021 إلا أن التنظيمات الارهابية مثل القاعدة وداعش وحركة سواعد مصر تفضل استخدامه كمركز للخدمات اللوجستية وتريده أن يبقى كذلك، “وهو ما سيتغير مع ازدياد ضغط القوى الأمنية على الإرهابيين هناك” وانخراط السودان في جهود مكافحة الارهاب.
لا يعتبر السودان بيئة غريبة على تنظيم القاعدة، ولعل سيف العدل الرجل الذي يقود التنظيم حاليا من أبرز القيادات ذات المعرفة الوثيقة بثقافة البلد وجغرافيته، فقد استقر فيه بضع سنوات مع أسامة بن لادن، وعبر منه مرات عديدة وهو ذاهب إلى شرق إفريقيا في مهماته المبكرة هناك. لقد تزامن تأسيس القاعدة مع ما سمي ثورة الانقاذ بزعامة كل من عمر البشير وحسن والترابي سنة 1989 وفي السنة نفسها أسس أسامة بن لادن شركة وادي العقيق في السودان ومن خلالها قدم خدمات كثيرة للنظام السياسي الجديد منها تشييد طريق بري لصالح الجيش السوداني يمتد لمسافة 120 كلم يسمح للجيش بالوصول إلى المناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق.
وبعد ثلاث سنوات عززت القاعدة حضورها اللوجستي في السودان وأسست عددا من المقاولات والشركات أهمها شركة الهجرة المتخصصة في شق الطرق وبناء الجسور، وشركة الثمار المباركة المتخصصة في الزراعة، وشركة طابا المتخصصة في الاستيراد والتصدير وشركة قدرات للنقل وغيرها. ومن حينها إلى ما قبل سقوط نظام عمر البشير في 2019 كان قرار القاعدة غير المعلن أن يبقى السودان عمقا لوجستيا وممرا آمنا لأمواله ومقاتليه، ولم يؤثر على هذا القرار مغادرة التنظيم للسودان في 1996 لأن نظام البشير استمر في غض الطرف عن أنشطة الجهاديين والإسلاميين عموما.
خطط جديدة
المؤشرات الأولى على تحول موقف تنظيم القاعدة، وشروعه في وضع خطط تحويل السودان إلى ساحة مواجهة ونشاط عسكري عبر عنها القيادي البارز في التنظيم أبو حذيفة السوداني. وكان الرجل سابقا مقربا من أسامة بن لادن وأبي مصعب الزرقاوي، ومدربا في معسكر الفاروق، وبعد جولة طويلة على بؤر التوتر حول العالم استقر أخيرا في السودان، وعندما سقط نظام عمر البشير، كتب وثيقة بعنوان لافت “الآن جاء القتال” أكد فيها على أن ” واجب المرحلة وفريضة الوقت هو القتال في السودان”.
وعلى مدار صفحات الوثيقة التي تجاوزت الثمانين شرح أبو حذيفة بتفصيل رؤية القاعدة لوضع السودان، مكفرا كل القوى المدنية والعسكرية التي أدارت المرحلة الانتقالية، ومهاجما في الوقت ذاته ما يسمى بالتيار الإسلامي العريض الذي تبنى خيار المواجهة السلمية والذين” يظنون أنهم من خلال صناديق الإقتراع يخدعون الطاغوت” حسب تعبيره. وخصص حيزا في الوثيقة لما اعتبره نصائح وتوجيهات ” في ظل إرهاصات المواجهة القادمة”.
وفي سياق دعوته إلى ما سماه “سودنة الجهاد” عرج على كل التفاصيل التي رآها مهمة لإطلاق شرارة القتال في السودان، بما فيها دراسة الطبيعة الجغرافية للبلد ومدى ملائمتها لحروب العصابات التي تفضلها القاعدة وخلص إلى أن “السودان بلد توفرت فيه الشروط الموضوعية لقيام حرب عصابات ناجحة.. لأنه شاسع المساحة ومترامي الأطراف ومتنوع المناخ والتضاريس من جبال وغابات وصحاري مما يتيح مجالا واسعا للحركة والمناورة”.
وبينما انشغلت المكونات المدنية والجيش السوداني بمداولات التوافق على شكل النظام الجديد كان أبو حذيفة السوداني متفرغا للتوجيه والتحريض مستخدما صفحته على الفيسبوك في نشر كتبه ومقالاته التي تدور كلها حول فكرة واحدة وهي ” وقت السودان قد حان”.
رؤية القاعدة التي عبر عنها أبو حذيفة السوداني أكد عليها بالوضوح نفسه القيادي في تنظيم القاعدة في اليمن إبراهيم القوصي (خبيب السوداني) في خطاب له بعنوان “حرض المؤمنين على القتال” دعا فيه كل مكونات الحركة الاسلامية في السودان إلى القتال في سبيل الله.
ومع اندلاع المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تداول ناشطون محسوبون على القاعدة في مجموعات الدردشة مقالات أبو حذيفة السوداني ومقاطع من خطاب إبراهيم القوصي (خبيب السوداني) وفتحوا نقاشات حول الفرص التي باتت سانحة في السودان. ” فرصة ذهبية للإخوة في السودان لاغتنام الأسلحة ولإنشاء كيان لهم.. نحن نعيش وننمو في ظل الفوضى” كما كتب أحدهم.
وقد ساهمت خطب وفتاوى الصادق أبو عبد الله الهاشمي السوداني في إيجاد المسوغات العقدية والفقهية للعمل المسلح في السودان، ويعتبر الهاشمي من أبرز منظري التيار الجهادي في العالم.
داعش يتربص
في آخر ظهور مرئي له، وقبل اغتياله ببضعة أشهر استغل أبو بكر البغدادي تعليقه على سقوط نظام البشير في 2019 بالتحريض على فتح جبهة في السودان. وعلى امتداد السنوات اللاحقة أصدرت المؤسسات الإعلامية المقربة من الإعلام الرسمي لتنظيم داعش مقاطع مرئية وأناشيد ومقالات متنوعة تدعو إلى “النفير للسودان” كما كتبت صحيفة النبأ الرسمية في افتتاحية عددها 315 موجهة السودانيين إلى توحيد “طاقاتهم للقتال في السودان”.
ومنذ اندلاع الاشتباكات بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني منتصف الشهر الماضي حظي السودان باهتمام متزايد على المنصات الخاصة بمناصري تنظيم داعش، حيث يجري تبادل المعطيات حول الوضع هناك ومتابعة تحديثات الأخبار وخرائط السيطرة وانتشار القوات المتحاربة، وهم يدركون تماما أن ظهور “ولاية السودان ” مسألة وقت لا أكثر، إذا استمرت الأوضاع الأمنية في التفاقم على هذا النحو.
“التوحش” مفهوم أساسي في الأدبيات الاستراتيجية الخاصة بداعش والقاعدة. ومرحلة التوحش يقصد بها دخول بلد ما في حالة من الفوضى العارمة تنهار معها سلطة الدولة وتتفكك مؤسساتها الأمنية والخدمية، حتى يغدو الامن والاستقرار مطلبا ملحا للسكان. وفي هذه المرحلة ينبغي على المجموعات الراديكالية التدخل و “إدارة التوحش” من خلال فرض الأمن وإقامة مؤسسات قضائية موازية وتأمين الحاجات الغذائية الأساسية للسكان. و”إدارة التوحش” هي المرحلة التي تسبق إقامة الدولة أو “التمكين” حسب أبو بكر ناجي، وهو السيناريو الذي تكرر في كثير من المناطق مثل العراق وسوريا وأفغانستان واليمن وليبيا وغيرها. ويبدو أن السودان في ظل الانقسام السياسي والعسكري الراهن سائر إلى مرحلة التوحش.
من المشاركات التي تداولها نشطاء داعش على الانترنت، مقالة مختصرة تضمنت توجيهات عملية إلى أنصار التنظيم في السودان، اقترحت العمل وفق خطة من 3 مراحل تبدأ باتفاق ثلاثة أو أكثر يشكلون مفرزة ويتربصون بالثكنات ومراكز الشرطة التي يغادرها عناصر الأمن والجيش وجمع ما أمكن من الأسلحة والمعدات العسكرية المخلفة ثم الانحياز بها إلى أماكن نائية كالغابات والصحاري والجبال، ومن هناك تبدأ الاغارات السريعة على التجمعات العسكرية والأهداف السهلة.
لعنة الجغرافيا
تكمن المعظلة الكبرى للسودان في موقعه الجغرافي الحساس، بالنسبة لداعش والقاعدة من الصعب أن تمضي مشاريعهم في إفريقيا والخليج إلى نهايتها المنشودة دون وضع اليد على السودان أو على الأقل الحفاظ على وضعه السابق كمركز لوجستي وقناة عبور، وهو ما ينطبق أيضا على جماعات مسلحة أخرى مثل حماس وحزب الله وغيرها.
وقد لفت تقرير لمؤسسة الأبحاث والتطوير RAND إلى خطورة الموقع الجغرافي للسودان بالنسبة للنشاط الإرهابي في إفريقيا والجزيرة العربية وأكد أن “الجزء الأكبر من مشكلة السودان اليوم هو الجغرافيا. إذ يشارك الحدود مع سبع دول ويملك خطا ساحليا ممتدا على البحر الأحمر مما يضع الدولة في قلب بعض أكثر المناطق التي تعرف انتشارًا للنشاط الإرهابي في إفريقيا وشبه الجزيرة العربية، تقع جماعة بوكو حرام وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وداعش في الصحراء الكبرى في الغرب، في حين أن الحدود الشمالية للسودان مع ليبيا ومصر تجعلها عرضة للاختراق من قبل مجموعات موالية للقاعدة وداعش” ويضيف التقرير أن ذلك “يجعل من السودان بوابة محتملة لربط محاور النشاط المتشدد في شمال ووسط وشرق إفريقيا”.
يبدو السودان على الخريطة كقطعة البازل التي لا تكتمل الصورة بدونها. في التصور الاستراتيجي للقاعدة يعتبر السودان المفصل الذي يربط أهم وأخطر فروعها في العالم، وهي فرعها في شرق إفريقيا ممثلا بحركة الشباب وفرعها في الساحل ممثلا بجماعة نصرة الإسلام وفرعها في اليمن.
أما بالنسبة لداعش فإيجاد موطئ قدم لها في السودان يعني مزيدا من الربط بين ولاياتها في شرق ووسط وغرب وشمال إفريقيا. وذهب تقرير RAND بعيدا في تقدير حجم الخطورة الناجمة عن الموقع الجغرافي للسودان إذا استمر تدهور الاوضاع الأمنية هناك فهو ممر للهجرة غير النظامية من القرن الإفريقي إلى شمال شرق إفريقيا والبحر الأبيض والمتوسط حيث “تشكل ولايتا كسلا والقضارف الحدوديتين نقاط الدخول الرئيسية إلى البلاد. ومنها إلى الخرطوم التي تعمل كمحور توحيد مركزي باتجاه الشواطئ الشمالية لليبيا ومصر” ويمكن “للجماعات المتشددة أن تستفيد من هذه التدفقات لوضع خلايا في أوروبا عبر دسها وسط موجات المهاجرين”.
يتقاسم تقرير RAND التقييم نفسه مع أبو حذيفة السوداني للبنية الجغرافيا للسودان وملائمتها لحروب العصابات، ونشاط جماعات التطرف العنيف، إذ أشار التقرير إلى السلاسل الجبلية الممتدة بموازاة البحر الأحمر، والتي تحولت إلى غطاء مثالي لتمرير المخدرات والأسلحة ومنفذا للهجرة من وإلى الجزيرة العربية منذ 2004، وكانت تضاريسها الوعرة مناسبة لإقامة معسكرات التدريب وتصدير الإرهاب من اليمن إلى القرن الافريقي والعكس. وبالتالي استغلال هذه المنطقة في حقن جيوب داعش والقاعدة في إفريقيا بالموارد اللازمة للتوسع والانتشار، وتحويل السودان إلى بؤرة إرهابية أخرى ملتهبة.