الوصول السريع للمحتويات

كيف فشلت خطة “إدارة التوحش” في تأسيس دولة الارهاب

قبل حوالي عشرين سنة نشر موقع “مركز البحوث والدراسات”  كتابا بعنوان: “إدارة التوحش” لكاتب مغمور يدعى “أبو بكر ناجي”. ولأن الكتاب نزل في خضم زخم من الكتابات التنظيرية التي يشرف عليها حينها قادة تنظيم القاعدة في السعودية، وفي سياق ملتهب طبعته تداعيات هجمات 11 سبتمبر وإجتياح أفغانستان والعراق وحملة القاعدة في السعودية، فلم يثر الكتاب حينها أي اهتمام.

لكن، بعد بضع سنوات من ظهوره، بدأ قادة الجماعات المسلحة يحيطونه بعناية خاصة، ووصلت نصوصه إلى أسامة بن لادن، بالتوازي مع انتباه دوائر محاربة الإرهاب في العالم إلى مضامينه الخطيرة، وبدء التوصيات بدراسته وترجمته، من أجل فهم أعمق لفكر الإرهابيين، وأبعاده الاستراتيجية بعيدة المدى.

خطة التوحش

خطة إدارة التوحش هي باختصار عبارة عن خريطة طريق عملية ومفصلة نحو إقامة “دولة إسلامية” كما يتصورها الجهاديون. مبدئيا، استبعدت الخطة كل الأساليب السلمية أو الشعبية  للوصول إلى الحكم، واعتبرتها من ضروب العبث، وحصرت تركيزها على العنف المسلح المفرط في الدموية.

تقوم نظرية التوحش على ترشيح مجموعة من الدول باعتبارها مناطق مؤهلة لتطبيق فكرة التوحش. واقترح الكتاب كمثال عليها كل من باكستان ونيجيريا والأردن والمغرب واليمن، وذكر أن من شروط اختيار هذه الدول أن يكون لها “عمق جغرافي وتضاريس تسمح في كل دولة على حدة بإقامة مناطق بها تدار بنظام إدارة التوحش” و “ضعف النظام الحاكم” وارتخاء قبضته الأمنية على مفاصل البلاد، و “وجود مد إسلامي” ومزاج عام يقبل باحتضان الوجود الجهادي، ثم “انتشار السلاح” بين أفراد المجتمع وسهولة الوصول إليه.

وانطلاقا من هذه المناطق التي تحمل مقومات ” إدارة التوحش” يمكن الوصول إلى “الدولة الإسلامية” عبر ثلاث مراحل أساسية وهي: مرحلة شوكة النكاية والإنهاك ثم مرحلة إدارة التوحش وأخيرا مرحلة شوكة التمكين التي تعني النجاح في تأسيس الدولة الإسلامية، وتتويج  الخطة بنهايتها المثالية كما تصورها أبوبكر ناجي.

 لكن، ورغم حرص الرجل على سد كل الثغرات المحتملة في خطته، ومعالجة العيوب التي يمكن لها أن تعيق تنزيلها العملي على أرض الواقع إلا أنها في النهاية تحولت إلى نظرية كرست الفوضى الدموية في ربوع العالم، واخفقت على امتداد 20 سنة الماضية في تحقيق الحد الأدنى من تطلعات صاحبها، رغم نجاحه المدهش في استشراف مستقبل المنطقة، وتوقعه دخولها في فوضى عارمة. 

فشل مرحلة النكاية

رشح أبو بكر ناجي كما ذكرنا خمسة دول توفرت فيها مقومات “إدارة التوحش” وهي نفس الدول التي رشحها أسامة بن لادن في فبراير 2003 أي قبل سنة من ظهور الكتاب، واعتبرها دولا “مؤهلة للتحرير” حسب تعبيره. وسنرى كيف كانت هذه الدول نماذج حية على فشل خطة التوحش في مراحلها الثلاث. 

فالأردن والمغرب، أثبتا الفشل المبدئي في تصور المقومات والشروط المناسبة لإقامة مناطق التوحش كما تخيلها بن لادن وناجي، والسعودية وباكستان أكدتا فشل مرحلة شوكة النكاية والإنهاك، بينما مثلت كل من اليمن ونيجيريا نموذجان على فشل مرحلة “إدارة التوحش” وإمكانية  الوصول  من خلالها إلى مرحلة “الدولة الإسلامية” التي أكدت مناطق أخرى مثل سوريا والعراق وليبيا فشلها الدريع أيضا.

ابتداءا من 2003 صمم تنظيم القاعدة على تحويل السعودية إلى دولة تعمها الفوضى ضمن خطة “شوكة النكاية والإنهاك”، وتقوم الخطة على تنفيذ عمليات صغيرة ومتوسطة على طول البلاد، هدفها تشتيت القوات الأمنية، وحرمانها من الفعالية، تتخذ طابعا تصاعديا، تتخللها عمليات نوعية من أجل جذب انتباه الناس واستقطاب العناصر، استنادا إلى عنصر الإبهار الذي يكتنف هذا النوع من العمليات.

يكون التركيز أيضا في هذه المرحلة على استهداف المنشآت الاقتصادية خاصة قطاع النفط، والقطاع السياحي والشخصيات السياسية والأمنية البارزة في البلاد، هذه العمليات حسب خطة النكاية والإنهاك، ستضطر الجيش والأمن إلى تركيز تواجده في محيط المؤسسات والمنشآت الحيوية، ويترك مساحات شاسعة في الأطراف والهوامش تتحول تدريجيا إلى مناطق فوضى وتوحش، ما يعني نجاح مرحلة النكاية ودخول مرحلة “إدارة التوحش”.

طبق تنظيم القاعدة في السعودية خطة النكاية والإنهاك تطبيقا حرفيا، ضرب المنشآت البترولية، والمجمعات السكنية التي يقطنها الأجانب، واعتمد نمط العمليات الصغيرة والمتوسطة، كما حصل في تفجيرات الرياض والمحيا. وواكب نشاطه الدموي بزخم كثيف من المواد الدعاية، وحشد من المؤلفات والفتاوى الدينية. وكما تنص نظرية التوحش في مرحلتها الأولى على ضرورة تأهيل الكوادر أمنيا وعسكريا وإداريا ليكونوا على استعداد لمرحلة “إدارة التوحش” فقد أصدر التنظيم مجموعة من المواد التعليمية والارشادية لرفع كفاءة عناصره منها نشرة البتار الالكترونية وعدد من الدورات التي أطرها قادته البارزون مثل عبد العزيز المقرن و يوسف العييري وغيرهم. 

لم تمض على حملة القاعدة في السعودية سوى 3 سنوات حتى وصلت إلى نهايتها، فقدت نجحت السلطات الأمنية في زمن قياسي في تفكيك كل خلايا القاعدة، وقتل قادة التنظيم في السعودية تباعا، واعتقال كل المنظرين الشرعيين، وفر من تبقى منهم إلى العراق واليمن. 

العمليات النوعية التي راهنت عليها القاعدة لاستقطاب مزيدا من الأفراد إلى صفوفها أتت بنتائج عكسية تماما، إذ زادت فضاعة تفجيرات المحيا والرياض من عزلة التنظيم، ونفر المجتمع السعودي من خطاب القاعدة، وانشق بعض كوادر التنظيم، خصوصا  الشرعيين الذين لم يوافقوا على تفجير المجمعات السكنية. وطوق الأداء الأمني الناجح للسلطات السعودية خلايا القاعدة في الشقق السكنية والاستراحات. وفشل مخطط “النكاية والإنهاك” في السعودية فشلا دريعا، رغم ما رصدته قيادة القاعدة من موارد وإمكانات لدفعه قدما نحو المراحل التالية.

فشل مرحلة “إدارة التوحش”

الملاحظة الأساسية هنا هي أن المناطق التي وصلت فعلا إلى “مرحلة إدارة التوحش” لم تصل إليها بعد مرحلة “النكاية والإنهاك” كما يفترض بالمخطط أن يكون، بل وصلت إليها بفعل عوامل أخرى خارجة عن إرادة الجهاديين، كل ما فعلوه أنهم وجدوا “مناطق توحش” جاهزة فانخرطوا في إدارتها وفق تصور أبو بكر ناجي. وهذه العوامل قد تكون ثورات شعبية أطاحت بالسلطات الحاكمة كما هو الحال في اليمن وليبيا وسوريا، أو اجتياحا خارجيا للبلد كما حصل في العراق وأفغانستان، أو اضطرابات سياسية وانقلابات عسكرية كما هو الحال مع مالي ودول الساحل.

اندلعت الثورة اليمنية في 2011 وتنظيم القاعدة يحاول إيجاد موطئ قدم له في البلاد. نجحت الثورة في إسقاط نظام علي عبد الله الصالح، وعمت الفوضى أغلب المحافظات اليمنية، كانت مقومات التوحش مكتملة في الحالة اليمنية، من حيث التضاريس والقابلية لاحتضان “المد الجهادي” وانتشار السلاح، لقد كان بمثابة اختبار للمرحلة الثانية من “إدارة التوحش”.

انسحب أفراد القاعدة من العاصمة صنعاء التي مازالت تغلي على وقع المظاهرات الشبابية التي تطالب بحكم ديمقراطي كامل، وذهبوا إلى المناطق التي انحسرت فيها سلطة الدولة وأسسوا سلطة موازية لادارة التوحش وضبط الفوضى، وتقديم نموذج مصغر “لحكم الشريعة” كما تنص عليها أدبياتهم.

الذي حصل أن “إدارة التوحش” التي أشرف عليها تنظيم القاعدة في مناطق سيطرته، فتحت جبهات جديدة أمام الجيش اليمني، وورطت القبائل والمجتمعات المحلية في صراعات داخلية. وحولت أنظار العالم من ثورة شعبية تدور فعالياتها في صنعاء إلى بؤر إرهابية تتوسع في حضرموت وشبوة وغيرها.

من أهداف “مرحلة إدارة التوحش” حسب أبو بكر ناجي: نشر الأمن الداخلي والحفاظ عليه، توفير الطعام والعلاج، تأليف أهل الدنيا بشيء من المال أي احتواء المخالفين بواسطة الاغراءات المادية، إقامة القضاء الشرعي، وتوسيع التحالفات مع من يجوز التحالف معهم، وأخيرا تأهيل الكوادر الإدارية وتأمين القيادات لتكون جاهزة لمرحلة إقامة الدولة.

في اليمن حدث العكس، زاد منسوب الفوضى في مناطق سيطرة تنظيم القاعدة، وانعدم الشعور بالأمن، وتفكك تحالفات التنظيم مع القبائل اليممنية، وهذه المرحلة التي يفترض بها أن تكون “مفرخة” لإنتاج الكوادر والقيادات التي ستحكم “دولة التمكين” القادمة، تحولت إلى “محرقة” لهذه الكوادر، إذ قتل معظيم قادة الصف الأول والثاني في القاعدة، وخسرت مواردها البشرية في قتالها مع الجيش اليمني، واعتزل قسم من التنظيم بفعل الخلافات الداخلية. وأخير ساهمت مناطق التوحش التي أقامها التنظيم في إرباك الجيش اليمني وتشتيت جهوده، فاستغلت جماعة الحوثي هذا المعطى وتقدمت نحو صنعاء وسيطرت على العاصمة، دون أن تحقق القاعدة أيا من مشاريعها في اليمن، وتراجعت خططها إلى مرحلة النكاية من جديد. 

من التوحش إلى الوحشية

يعتبر مبدأ “الشدة” من أركان خطة أبو بكر ناجي خصوصا في “مرحلة إدارة التوحش”، وخصص له فصلا مستقلا في كتابه. ويقصد بمبدأ الشدة اعتماد أقصى درجات الوحشية والدموية في التعامل مع خصوم التنظيم، وعدم التردد في استعمال أساليب انتقامية -وإن تحفظ عليها الشرع الاسلامي- لردع الأعداء مثل الذبح والتحريق بالنار وغيرها ” إذ لا يمكن أن يستمر الجهاد في ظل الرخاوة، سواء الرخاوة في أسلوب الدعوة إليه أو الرخاوة في اتخاذ المواقف، أو في أسلوب العمليات”  واعتبر أن الشدة والغلظة والدموية تحقق البأس وتجلل التنظيم بهالة من الخوف والرعب، تمكنه من تحقيق أهدافه من خلال سمعته الدموية وبأسه الشديد. ويلحق بمبدأ الشدة مبدأ الانتقام، أي أن استهداف للتنظيم يجب أن يرد عليه بعنف مفرط يحول دون تكراره.

طبقت داعش هذا المبدأ خلال توسعها في العراق وسوريا، وعوض أن يساهم في ردع خصومها، ويفتح الطريق أمامها نحو مزيد من التمدد والسيطرة، فتح أبواب الجحيم عليها، إذ تأسس تحالف دولي لمحاربتها، وأنشأت الفصائل في سوريا غرفا مشتركة للتصدي لها، وكانت مشاهد الذبح والحرق وتفجير المخالفين بالديناميت، وإغراقهم في أحواض زجاجية، ورميهم من المباني، عاملا أساسيا في تشكيل وعي عالمي أجمع على ضرروة القضاء على داعش قضاءا مبرما لا تردد فيه.

ما لم ينتبه إليه أبو بكر ناجي وهو يحرر فصل “اعتماد الشدة” في كتابه، هو أن هذه الشدة أو هذه الوحشية بتعبير أدق قد تولد وحشية مضادة، وهذا ما حصل في المناطق التي سيطرت عليها داعش، حيث اعتمد كثير من خصومها أيضا مبدأ الوحشية، سواء في العراق من خلال أساليب الحشد الشعبي الذي حرق وذبح عناصر من داعش خلال معارك تحرير المحافظات العراقية، أو في سوريا من خلال بعض عمليات الاعدام الميداني التي نفذها فصيل جيش الاسلام في الغوطة الشرقية، وفصيل هيئة تحرير الشام في شمال غرب سوريا، وأساليب قوات حفتر في ليبيا وغيرها. إذن فبمدأ الوحشية التي يريد من خلاله أبو بكر ناجي تثبيت دولة الجهاديين، ساهم في الواقع في تقويضها والقضاء عليها.

ما يقال عن تنظيم القاعدة في اليمن والسعودية ينطبق على كل فروع التنظيم التي فشل أغلبها في تجاوز مرحلة “النكاية والانهاك” أو انتهى وجودها عند هذه المرحلة، والتي نجحت في تخطيها والوصول إلى مرحلة “إدارة التوحش” كما هو الحال في الصومال والساحل، وصلت إليها بفعل عوامل موضوعية خارجة عن نطاق تخطيطها. ولازال يشكل الانتقال من “التوحش” إلى “التمكين” تحديا كبيرا كبيرا لها. ولا تزال إدارة مناطق التوحش عاملا من عوامل انقسام الجماعات المتطرفة، بسبب الخلاف على السلطة والموارد وتباين المواقف حول الأحكام الشرعية والمعتمدة. 

سنتذكر في هذا السياق أن الخلاف الكبير الذي وقع بين تنظيم داعش وبين القاعدة في 2013 يعود في جزء منه إلى الخلاف حول تقدير الفترة الزمنية التي يجب أن تأخذها مرحلة “إدارة التوحش” في سوريا، داعش أرادت الانتقال إلى مرحلة “التمكين” وإعلان الدولة، والقاعدة وجبهة النصرة ترى أن مرحلة التوحش مازالت في بداياتها الأولى.

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية