تبنى تنظيم داعش ولاية خراسان الهجوم الذي استهدف قاعة للحفلات في موسكو وأسفر عن مقتل 143 شخصا، في استمرار للنهج الدموي لولاية خراسان والذي كان آخر تجلياته تبنيه للتفجير الانتحاري الدامي الذي استهدف تجمعا سياسية في منطقة باجور شمال غربي باكستان. وقد أسفر التفجير في حصيلة شبه نهائية عن مقتل 60 شخصا وإصابة المئات بجروح. استهدف التفجير تجمعا سياسيا لحزب جمعية علماء المسلمين، وكانت الغاية فيما يبدو إيقاع أكبر حصيلة ممكنة من الضحايا، إذ قال النائب الإقليمي للمفتش العام لمكافحة الإرهاب سهيل خالد لوكالة الصحافة الفرنسية، إن الانتحاري استخدم نحو 40 كيلوغراما من المتفجرات المتصلة بكرات حديد صغيرة لإحداث مجزرة كبيرة.
طالبان باكستان
تبدو عملية “باجور” نسخة مقلدة لنمط العمليات التي تنفذها حركة طالبان باكستان منذ تأسيسها في 2007. ومن أبرز أهدافها المفضلة المساجد والمدارس والتجمعات السياسية والمناسبات الدينية التي تشهدها جموع غفيرة من الناس.
ومع أن عناصر القاعدة الهاربين إلى الحدود القبلية الفاصلة بين أفغانستان وباكستان كانوا ضمن المجموعات المسلحة التي ساهمت مع 13 كيانا متطرفا آخر في تأسيس حركة طالبان باكستان إلا أن قادة كبار في القاعدة أعربوا عن معارضتهم للنهج الدموي المفرط الذي تبنته الحركة.
ففي وثائق أبوت أباد التي صادرتها القوات الأمريكية في منزل أسامة بن لادن في 2011 يعترف القيادي في القاعدة “آدم يحيى غدن” المعروف بعزام الأمريكي بفضاعة الجرائم التي تنفذها حركة طالبان باكستان، وطالب أسامة بن لادن بالتدخل بشكل حاسم وإنهاء العلاقة بين التنظيم والحركة، وصف عزام حركة طالبان باكستان ” باللوثة التي يجب إزالتها وتطهير وتمحيص الصفوف منها”. ولإقناع أسامة بن لادن بوجاهة رأيه استعرض ما اعتبرها “السيرة السوداء” لطالبان باكستان وسرد عددا من العمليات الدامية التي استهدفت الأسواق والمساجد والتجمعات المكتضة بالناس وخلفت مئات القتلى.
الملفت أن عزام الأمريكي عقد مقارنة بين تنظيم داعش في نسخته الأولى “تنظيم دولة العراق الإسلامية” التي بدأت حينها في استهداف الكنائس في العراق وبين حركة طالبان باكستان، وحث بن لادن على قطع العلاقة بشكل علني مع التنظيمين.
غير أن تنظيم القاعدة استمر في توثيق علاقته بحركة طالبان باكستان، وتحالف معها في حربها ضد الحكومة الباكستانية، ولم يصدر عنه أي استنكار أو إدانة لمجزارها الجماعية. وكان آخرها تفجير انتحاري استهدف مسجدا بالقرب من مقر للشرطة بمدينة بيشاور عاصمة إقليم خيبر بختونخوا شمال غربي البلاد في يناير الماضي وأسفر عن مقتل 100 شخص وإصابة مئات آخرين.
تحتفظ طالبان باكستان في سجلها الدموي بعشرات الهجمات المميتة التي تؤكد أن القتل الجماعي ليس تكتيكا حربيا بالنسبة لها فقط ولكنه أيضا طقس ديني وممارسة شعائرية تؤكد به عقيدتها المناهضة لكل المخالفين ومفاصلتها لمحيطها الغارق في “الكفر والجاهلية” استنادا إلى أدبياتها واصداراتها المنشورة. ومن أبرز العمليات التي نفذتها الحركة:
مذبحة مدرسة بيشاور: ففي 16 ديسمبر 2014، هاجمت طالبان باكستان مدرسة يديرها الجيش في بيشاور، أسفر عن مقتل أكثر من 130 شخصًا معظمهم أطفال.
تفجير مستشفى كويتة المدني: ففي 8 أغسطس 2016، استهدف انتحاري قسم الطوارئ في مستشفى كويتة، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 70 شخصا.
تفجير حديقة لاهور: في 27 مارس 2016، حيث استهدف انتحاري حديقة في لاهور، مما أسفر عن مقتل حوالي 75 شخصا، معظمهم من النساء والأطفال.
الهجوم على مدرسة الجيش العامة في بيشاور في 16 ديسمبر 2014. أسفر هذا الهجوم عن مقتل أكثر من 140 طالبًا وموظفًا، وقد أعلنت مجموعة مسلحة وثيقة الصلة بحركة طالبان باكستان مسؤوليتها عنه.
في 9 من يناير 2015 تفجير انتحاري يستهدف مسجدا للطائفة الشيعية في مدينة روالبندي أسفر عن مقتل وإصابة العشرات.
داعش.. طفرة الإرهاب
تأثر تنظيم داعش “ولاية خراسان” بالتقليد الدموي الذي أسسته طالبان باكستان في استهداف الأسواق ودور العبادة والتجمعات الانتخابية. وزادت الأجندة الطائفية لداعش من فظاعة هجماتها، إذ تركز في كثير من عملياتها على مساجد الشيعة واحتفالاتهم الموسمية التي تشهدها حشود غفيرة من أبناء الطائفة في كل من أفغانستان وباكستان.
الكثير من قادة تنظيم داعش في باكستان وأفغانستان هم في الواقع أعضاء سابقون في طالبان باكستان، ووجدوا في وحشية التنظيم وعداءه المستحكم للطوائف الأخرى فرصا أكثر في ممارسة نشاطاتهم المروعة.
رغم السجل الدموي الحافل لطالبان باكستان في 16 سنة الماضية إلا أن لداعش خراسان بصمتها الخاصة، وإضافاتها المميزة. إذ وسعت عملياتها لتشمل كل المساجد بما فيها مساجد الطائفة السنية التي يرى تنظيم داعش أن روادها هم من “عوام المسلمين الذين لا يجوز قتلهم قصدا”، لذلك تجنب الإعلام الرسمي لداعش تبني هذه العمليات ودأب على تجاهلها.
فمنذ استيلاء حركة طالبان على السلطة في غشت 2022 ومساجد البلاد تشهد عمليات تفجير انتحارية خصوصا أثناء صلوات الجمعة التي يشهدها مئات المصلين.
وقد صعد تنظيم داعش خلال العام الماضي (2022) هجماته المميتة التي استهدفت المساجد في أفغانستان أبرزها الهجوم الذي استهدف مسجد خليفة صاحب في 29 من أبريل وأسفر عن مقتل أكثر من 70 مصليا، وقبله بأسبوع استهدفت داعش مسجدا شيعيا في مزار الشريف أسفر عن مقتل 31 شخصا وإصابة حوالي 90 آخرين.
في باكستان وسعت داعش بنك اهدافها ليشمل الأضرحة والأسواق والمزارات مثل هجومها على ضريح سيهوان شريف في 16 فبراير 2017، حيث قام انتحاري بتفجير نفسه في ضريح لآل شهباز قلندر في سيهوان شريف، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 90 شخصًا وإصابة مئات آخرين.
وفي 23 يونيو 2017، نفذت داعش تفجيرات مزدوجة في سواق للخضر في باراشينار أودى بحياة أكثر من 70 شخصا وإصابة أكثر من 200 آخرين.
وفي 13 يوليو 2018، أسفر تفجير انتحاري خلال تجمع انتخابي قرب بلدة ماستونج التي تبعد 50 كيلومترا عن كويتا عن مقتل أكثر من 150 شخصا وإصابة مئات آخرين.
لماذا المجازر الجماعية
تخدم المجازر الجماعية أجندة داعش باعتبارها شكلا من أشكال التوحش الذي يسبق التمكين ويكرس الصورة المرعبة للتنظيم في خيال خصومه. وقد شرحت رانيا مكرم الباحثة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الأهداف التي يتوخاها داعش في عمليات القتل الجماعي التي يقف خلفها ولخصتها في ستة أهداف يمكن إجمالها في:
1) إحداث وتأجيج الانقسامات الطائفية في المجتمعات وجرها إلى مربع الصراعات والحروب الأهلية.
2) إضعاف السلطات الحاكمة في البلاد، وتشتيت جهودها وانهاكها اقتصاديا، وإحداث فجوة بين السلطة الحاكمة وجموع الناس الذين لا تستطيع حمايتهم في مساجدهم وأسواقهم ومواسمهم الدينية.
3) إحداث تغيير ديمغرافي في بعض المناطق حيث يقوم بإفراغ المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية من سكانها ليتسنى له الانحياز إليها والتمركز فيها، كما يفعل في أفغانستان من خلال تركيز هجماته على ولاية قندز بهدف “السيطرة علي ثرواتها الطبيعية والاستفادة منها في تمويل عملياته”
4) المساجد والأسواق والتجمعات الانتخابية تعتبر خواصر رخوة لا تتطلب مجهودا عسكريا وأمنيا لاستهدافها ولا تحظى بالحماية الكافية وبالتالي إيقاع أكبر حصيلة من الضحايا مقابل مجهود أقل.
بعد سيطرة طالبان على السلطة أطل مجددا شبح طالبان باكستان، ومع تبني داعش لعملية “باجور” التي أودت بحياة العشرات من المدنيين الاثنين الماضي، تتزايد المخاوف من تحول باكستان إلى منطقة “منكوبة” بالمجازر الجماعية في سياق تنافس التنظيمين الإرهابيين على تصدر المشهد واستعراض القوة.