تحول تنظيم داعش في ذروة توسعه وسيطرته على مناطق شاسعة في العراق وسوريا إلى أغنى تنظيم إرهابي في العالم، كانت حقول النفط التي سيطر عليها ومنافذ التهريب وتجارة الآثار وعمليات الاختطاف بغرض الفدية والاتاوات التي فرضها على السكان تدر عليه مبالغ طائلة، لكن الحرب التي شنها التحالف الدولي ضده سرعان ما استنزفت موارده، وعطلت قدراته على تأمين ما يكفي من الأموال لتغطية نشاطاته المستمرة. وفي سياق بحثه عن مصادر تمويل بديلة وضع التنظيم مخططا اقتصاديا في 2018 وعممه على “ولاياته” كلها في 2020، وألزمها بتنفيذ بنوده من أجل الخروج من أزمة شح الموارد بعد تحول ولايات التنظيم من “ولايات تمكين” غنية إلى “ولايات أمنية” محدودة الموارد.
ابتزاز الشركات
سرب منشقون منتسبون إلى ما يسمى “تيار طلبة العلم” داخل تنظيم داعش وثائق تكشف عن تفاصيل المخطط الذي ينفذه التنظيم في سوريا والعراق ويسعى من خلاله إلى إنعاش ميزانيته المتدهورة وتعويض نضوب موارده. يقوم المخطط على ابتزاز الشركات والتجار وأصحاب المقاولات وارغامهم تحت التهديد على دفع مبالغ مالية يحددها التنظيم بناء على دراسة مداخيل المقاولة وتقدير رأسمالها. صيغ المخطط في 5 صفحات وعزز بأمثلة تطبيقية عن حالات اعتبرها التنظيم نموذجا لنجاحه. كمرحلة أولى في الخطة يبدأ عناصر التنظيم في التواصل مع المسؤولين في الشركات ويفتحون معهم حديثا وديا يتم التحضير له سلفا بناء على الأسئلة المتوقعة منهم، ثم يطلبون دعم “الولاية” بمبالغ مالية مع استحضار نصوص دينية لشرعنة الموقف، فإن استجاب المسؤولون في الوهلة الأولى -وغالبا لا يفعلون- فسينتقل الحديث إلى التفاوض على حجم المبالغ وآليات الدفع والمدة الفاصلة بين كل دفعة وأخرى، وإن تحفظوا على الطلب يقترح التنظيم اعتبار العملية “زكاة واجبة” لا بد من تأديتها، وإن تمسكوا بموقفهم ينتقل الحديث إلى مستوى آخر وهو التهديد باستهداف الشركة وطواقمها.
يشرع عناصر التنظيم في مرحلة تالية في توجيه رسائل نصية قصيرة إلى العمال والموظفين تأمرهم بالتوقف عن الذهاب إلى العمل لأن شركتهم لديها مشاكل مع “الولاية” وإن لم يتفاعلوا مع هذه الأوامر واستمروا في الذهاب إلى وظائفهم يدخل التنظيم في مرحلة الاستهداف المباشر للمؤسسة عبر عمليات اغتيال لموظفيها ومدراءها وتفجير مقراتها وتخريب مصالحها في كل مكان، إلى أن تدعن في النهاية حفاظا على الأرواح وسلامة المنشآت. وعندما تطلب التفاوض على حجم ما ستدفعه يفرض التنظيم عليها غرامات إضافية عقابا على عناد موقفها، وأحيانا حتى عندما ترضخ الشركة لابتزاز التنظيم فإنه يستمر في استهدافها حتى لا تحدو المقاولات الأخرى حدوها، أما إذا استنجدت بالأمن أو بلغت عن الابتزاز فإن التنظيم لا يقبل أي تفاوض معها بعد ذلك بل يستمر في استهدافها إلى أن ينتهي وجودها وتعلن إفلاسها.
افتخر التنظيم بنجاحه في إجبار عدد من المقاولات والشركات على دفع إتاوات دورية له بعدما عبرت بحزم في البداية عن رفضها الخضوع لمطالبه بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها، واعترف في مخططه الذي عممه على “ولاياته” أن تفجير المقرات والمكاتب، واغتيال الموظفين والمدراء وتخريب المنشآت كسر في النهاية عناد الشركات وأجبرها على دفع ما طلبه. وحث “ولاياته” على إجراء فحص عميق لنشاط الشركات لتحديد رأسمالها الحقيقي لأن 99 في المئة من مفوضيها لا يدلون بمعلومات حقيقية عن حجمه أثناء التفاوض، وأكد التنظيم أن “ولايات” تابعة له نفذت المخطط فتحسنت وضعيتها المالية وصارت ترسل نسبة الربع من مستخلصات هذه العملية إلى القيادة في سوريا، وهي النسبة التي أمرت داعش بإرسالها.
تعميم الخطة
بعث التنظيم تعميمات بشأن خطته الاقتصادية إلى كافة “ولاياته” في العالم، صدرت التعميمات أحيانا باسم ما يمسي “مفصل الاقتصادية” وأحيانا أخرى باسم “إدارة الولايات البعيدة” وحضها التنظيم على تفعيل بنودها لتحقيق فائض مالي يغطي تكاليف عملياتهم مع ارسال نسبة الربع إلى مركز “الخلافة”، ويظهر من الوثائق أن قيادة التنظيم حريصة على مراقبة مداخيل ولاياته، وتطلب تقارير مفصلة بشأنها. ولمنع أي تلاعب بها أو اختلاس أجزاء منها فقد أمر بتشكيل مكتب اقتصادي في كل ولاية يكون له تواصل مباشر مع القيادة في سوريا عبر قنوات مشفرة مستقلة. وبعد أشهر من ارسال الخطة لاحظ التنظيم أن هناك تباطؤا في تنفيذها ببعض المناطق وأن نسبة الربع لا تصل إلى سوريا والعراق كما هو مأمول، فأرسل رسائل أخرى أعرب فيها عن احباطه من التلكؤ في تنفيذ خطة تمويلية ناجعة وغير مكلفة وجدد أوامره بضرورة تفعيلها فورا.
أحيانا ترسل قيادة التنظيم تفاصيل أكثر عن كيفية تنفيذ الخطة بما في ذلك الإجراءات الأمنية التي ينبغي اتباعها عند إجراء المكالمات الهاتفية مع رؤساء الشركات، وعند استلام الأموال، وطرق تحديد أماكن اللقاءات، والعملة التي يجب التعامل بها، والنسبة المخصصة للخلايا المكلفة بالإشراف على أطوار العملية والمحددة في 2 بالمئة وأحيانا 1 بالمئة، وشدد التنظيم على عدم التردد في تصفية كوادر الشركات إذا لم ينصاعوا للمطالب. ونبه إلى ضرورة التركيز أولا على الشركات الكبيرة مثل شركات النفط والاتصالات لأن تطويعها قد يجعل الشركات الصغيرة تستجيب تلقائيا، وأيضا لأن مصالحها ومنشآتها منتشرة ويسهل استهدافها، وهو ما يفسر عمليات تدمير أبراج الاتصالات التي وقعت في كثير من مناطق وتفجير خزانات الوقود واحراق المحاصيل الزراعية وغيرها.
جدل داخلي
يعتبر “الاحتطاب” مفهوما متداولا في أدبيات داعش وجماعات متشددة أخرى، ويعني جواز السطو على الممتلكات غصبا أو احتيالا بدعوى كفر أصحابها، ونشرت فتاوى ونصوصا شرعية أصلت فيها لعمليات النهب والسرقة واعتبرتها من “أفضل القربات” لأن عجلة “الجهاد” لا يمكن أن تدور إلا بها. وقد صنف تنظيم داعش مصادره المالية إلى عدة أصناف منها ” الغنائم” وهي ما يستولي عليه بعد المعارك، و “الفيء” وهو ما يأخذه عن طريق الهدن أو يستحوذ عليه دون قتال و”الجباية” وهي الإتاوات التي يفرضها على السكان في مناطق سيطرته و”الركاز” ويشمل عوائده من تجارة النفط والمعادن والآثار وغيرها. اللافت أن التنظيم قد نوه في وثائقه المسربة أن العوائد المتخلصة من “خطته الاقتصادية” الجديدة لا تدخل ضمن أي صنف من هذه الأصناف وأن وضعها خاص جدا، إذ لم يصدر بشأنها من قبل تأصيل شرعي، ولم تكن محل فتوى دينية من أي شرعي من شرعييه، لذلك حرص على إحاطتها بالكتمان والسرية.
“الخطة الاقتصادية” من أخطر ما صدر عن تنظيم داعش، وعاجز رغم ما عرف به من “تسيب فقهي” عن تبريرها، لأنها تنطوي في جوهرها على “عقيدة حازمية” مفرطة في التشدد ترى كفر الشعوب بأعيانها، وما يستتبع ذلك من استحلال لأموالهم ودمائهم. ولا شك أنها أثارت جدلا داخل التنظيم، وحار بخصوصها كثير من مناصريه، إذ كيف يمكن تبرير قتل عمال وموظفين بسطاء بمجرد أن رؤسائهم وأرباب عملهم يرفضون التفاعل مع المطالب المالية للتنظيم، بل على أي أساس شرعي يمكن تبرير ابتزاز التجار ورجال الأعمال وأصحاب المقاولات وتخييرهم بين دفع الأموال وبين التصفية الجسدية. غرابة الخطة دفعت بعض ولايات التنظيم إلى التردد في تطبيقها وقرر بسببها بعض القادة الانشقاق. فقد عبر “أبو حمزة القاضي” الشرعي السابق لما يسمى “ولاية سيناء” في خطاب صوتي نشره على الأنترنت عن صدمته من تفاصيل “الخطة الاقتصادية” التي أرسلتها قيادة داعش إليهم وأمرتهم بتطبيقها في مصر وكانت سببا مباشرا في انشقاقه وتسليم نفسه للسلطات المصرية، وقال أبو حمزة بأن التنظيم لا يستطيع من الناحية الشرعية تبرير استهداف العمال والشركات، ووجه نداءا إلى منتسبي داعش في سيناء يدعوهم فيه الى الانشقاق وترك التنظيم.
في الواقع لقد أصدر تنظيم داعش فتاوى شرعية كثيرة غطى بها على جرائمه التي نفذها، منها فتوى “قتل المصلحة” التي كانت مثار جدل أيضا عند صدورها، جاء في الفتوى أن من حق التنظيم إصدار أحكام بالقتل على من يعتقد أن من مصلحة التنظيم قتلهم دون وجود موجب شرعي لذلك، يعني أن المستهدفين بالقتل قد يكونون في نظر التنظيم أشخاصا لا يجوز قتلهم من الناحية الدينية لكنه يرى أن من المصلحة قتلهم، وهذه من أغرب الفتاوى التي أصدرها التنظيم منذ ظهوره، فهل كان الموظفون والعمال وأرباب المقاولات ضحايا لنسخة أحدث من “فتوى قتل المصلحة” ؟