في بؤر الصراع الأهلي عبر العالم يكون الاغتيال السياسي وتفجير العبوات الناسفة والسيارات المفخخة والانتحاريين نمطا سائدا في يوميات النزاع، أما في مالي فإبادة القرى يكاد يكون أسلوبا مفضلا لدى مختلف التنظيمات المسلحة والمجموعات العرقية والقبلية المنتشرة هناك، الكثير من القرى المنزوية في الصحراء غربت الشمس عن أهلها وهم آمنون في بيوتهم الطينية وأشرقت وهم بين قتيل وشريد. تضاربت المصالح وتعددت أطراف الصراع وتغيرت خرائط الولاءات السياسية ويظل القروي البسيط من عليه أن يدفع الثمن كل مرة، من دمه أو دم أقاربه أو ماشيته وغلاته.
أزمة سياسية
شهدت مالي في السنوات العشر الماضية ثلاثة انقلابات عسكرية، أفرزت مناخا طبعه عدم الاستقرار السياسي وفوضى أمنية مستحكمة. بدأت الأزمة في 2012 عندما شن تحالف مكون من جماعات جهادية أبرزها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد والحركة الوطنية لتحرير أزواد هجوما كاسحا على شمال البلاد أسفر عن إحكام سيطرتها عليه. وبموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2085 الصادر بتاريخ 20 ديسمبر 2012 تدخلت فرنسا ونجحت خلال فترة قصيرة في طرد الجهاديين من المناطق التي سيطروا عليها، وتحرير مدينتي غاو وتمبكتو أهم مدن الشمال، لكن التمرد الجهادي العنيف قد بدأ لتوه.
في 2013 تم انتخاب إبراهيم أبو بكر كيتا رئيسا للبلاد وتعهد بإجراء إصلاحات شاملة في البلاد ومحاربة الفساد، لم تتحقق أي من وعود الرئيس الذي حظي بدعم فرنسي كبير. ومع إعادة انتخابه في 2018 شهدت مالي موجة احتجاجات عارمة، انخرطت فيها أحزاب سياسية ومنظمات أهلية وشخصيات دينية، طالبت باستقالة الرئيس وحل البرلمان وبدء مسار سياسي جديدة يقطع مع الحقبة السابقة، في 18 من غشت 2020 أطاح انقلاب عسكري بالرئيس كيتا، وشُكل مجلس عسكري لإدارة البلاد، تعهد المجلس بتسليم السلطة إلى المدنيين في أجل أقصاه 18 شهرا، أثناء تدبير المرحلة الانتقالية أحس العسكريون بوجود نوايا لاستبعادهم تُرجمت إلى قرارات بإقالة محسوبين علهم في مواقع المسؤولية، فنفذوا انقلابا آخر في 24 مايو 2021 أعاد الأوضاع إلى المربع الأول.
المجلس العسكري الجديد جاء بأجندة سياسية غيرت الخريطة السياسية في البلاد، إذ صعد من لهجته المعارضة للوجود الفرنسي، وصلت ذروتها إلى قرار طرد سفير باريس من باماكو، ومطالبة مجلس الأمن الدولي بعقد جلسة طارئة لوضع حد لما وصفته الخارجية المالية بأعمال عدوانية تقوم بها فرنسا في مالي تتمثل في دعم الإرهاب وممارسة التجسس. وفي 17 من فبراير 2022 قررت فرنسا مغادرة مالي لرفضها التعاون مع نظام انقلابي لا نية له في نقل السلطة إلى المدنيين، وموازاة مع خروج القوات الفرنسية من البلاد فتح العسكريون الباب أمام شركة فاغنر الروسية التي تحولت سريعا إلى رقم في معادلة مالي المستعصية.
أطراف الصراع
التحالف الهش الذي دخلت به التنظيميات الجهادية والأزوادية إلى شمال مالي سرعان ما تفكك حتى قبل التدخل الفرنسي، حيث جرى استبعاد الحركة الوطنية لتحرير الأزواد من إدارة المناطق المسيطر عليها، بعد اشتباكات مسلحة بينها وبين الجهادين، وألغي اتفاق سابق بين الجانبين على تقاسم النفوذ. وصارت الحركة الوطنية لتحرير أزواد خصما مناوئا للجهاديين خصوصا بعاد اتفاق السلام الموقع في الجزائر بين الحركات الأزوادية وبين الحكومة المالية في 2015.
ومع إعلان داعش عن “الخلافة” في 2014 انظمت حركة التوحيد والجهاد بقيادة أبو الوليد الصحراوي إليه، فبدأ التنافس المحموم بين الحركة المحسوبة على داعش وبين المكونات الجهادية الأخرى. في مارس 2017 نجحت القاعدة في إبرام تحالف موسع جمع كل من جماعة أنصار الدين بقيادة إياد أغ غالي، وجماعة المرابطون، وجبهة تحرير ماسينا بقيادة محمد كوفا ومسؤول منطقة الصحراء بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في جماعة واحدة سميت “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” بقيادة الزعيم الطارقي إياد غالي. ورغم أن التكتل عبارة عن خليط من النزعات العرقية والقبلية والسلفية إلا أنها أبانت عن تماسك غير معهود في الجماعات الإسلامية.
انخرطت جبهة تحرير ماسينا بزعامة محمد كوفا في الاعمال القتالية إلى جانب القاعدة، وتبنت الكثير من العمليات التي استهدفت القوات الحكومية المالية. ينحدر معظم عناصر الجبهة من “الفلان” وهي مجموعة عرقية منتشرة في دول الساحل وغرب إفريقيا ويقدر أفرادها بحوالي 60 مليون نسمة، والى جانب المظالم التي يكابدونها يراود زعمائها أيضا حلم استعادة امبراطورية فلانية حكمت الساحل في القرن التاسع عشر.
دخول مجموعة عرقية ذات طابع جهادي في الصراع، دفع بالمجموعات العرقية المنافسة إلى تشكيل ميليشيات مسلحة لحماية قراها ومواشيها ومساحاتها الرعوية، والرد على الهجمات التي تتعرض لها مناطقها. هكذا ظهرت ميلشيات مسلحة عرقية زادت المشهد المالي توترا أهمها ميليشيا ” دانا أماساغو” التي ينحدر عناصرها من قبائل “الدوغون” المنافسة للفلان، وتتهمها منظمات دولية بارتكاب جرائم حرب ضد الانسانية. كما ظهرت ميليشيات مسلحة محسوبة على الطوارق بعضها مقرب من الحكومة مثل ميليشيا “غاتيا” وأخرى تنادي بالاستقلال، واتهمت تقارير حقوقية دولية هذه الميليشيات بارتكاب انتهاكات في المناطق التي تسيطر عليها.
جرائم إبادة
في مارس 2019 شهدت قرية أوغوساغو التي يقطنها الفلان على الحدود مع بوركينافاسو مجزرة رهيبة نفذتها ميليشيا “دانا أماساغو” أسفرت عن مقتل 160 شخصا. وقالت الناطقة باسم مكتب حقوق الإنسان في جنيف إن المجزرة مجرد حلقة من سلسلة هجمات أسفرت عن مقتل أكثر من 600 شخص في ذات المنطقة خلال عام واحد فقط، وتتهم ميليشيا “دانا أماساغو” القرى الفلانية بدعم الجهاديين خاصة جبهة تحرير ماسينا الموالية لتنظيم القاعدة. لم تكن هذه الانتهاكات سوى جزء من يوميات الصراع الذي فاقمه الانقسام السياسي والانقلابات المتكررة، وتمدد المجموعات الجهادية خاصة تنظيم داعش، وسيزداد تفاقما بدخول شركات أمنية خاصة لملء الفراغ الذي تركه الانسحاب الفرنسي من البلد.
رسمت منظمة هيومن رايتس ووتش صورة قاتمة للأوضاع في مالي، واتهمت كافة الأطراف بارتكاب جرائم حرب ضد الانسانية بما فيها القوات الحكومية، إذ أكد التقرير الصادر العام الماضي أن أكثر من 385000 نزحوا من قراهم بسبب الصراع. وأن الجماعات الإسلامية المتشددة قتلت العشرات من المدنيين و19 فردا من قوات حفظ السلام الأممية و120 جنديا حكوميا، وفي غشت 2021 هاجمت جماعة إسلامية متشددة قرى في منطقة “غاو” ينحدر سكانها من عرقية السنغاي مما أدى إلى مقتل أكثر من 50 شخصا. وقبل شهرين قتلوا 11 شخصا من الطوارق في منطقة “ميناكا” وفي 3 من ديسمبر أطلقوا النار على حافلة تقل تجارا متوجهين إلى سوق “باندياجارا” في منطقة “موبتي” مما أسفر عن مقتل 33 شخصا. المنظمة الحقوقية الدولية اتهمت القوات الحكومية بتنفيذ أكثر من 40 عملية قتل خارج إطار القانون و20 حالة اختفاء قسري من ديسمبر 2020 إلى أكتوبر 2021، ومعظم هذه الانتهاكات حصلت خلال عمليات ضد جماعات متشددة. وفي 23 من مارس استهدف جنود ماليون حافلة لنقل الركاب بعد عثورهم على مواد مشبوهة بين الأمتعة، 13 جثة تعود لضحايا الهجوم مدفونة في مقبرة جماعية.
لم يمض على دخول شركة فاغنر الروسية الى مالي وقت طويل، لكنه بدا كافيا لوضع توقيعها على سجل الانتهاكات التي يشهدها البلد، إذ كشفت صحيفة لوموند الفرنسية أن الشركة الروسية بالتعاون مع السلطات الحكومية قامت بتحويل ثكنة تابعة للجيش إلى مركز اعتقال وتعذيب، وساقت الصحيفة شهادات لعدد من الضحايا قالوا انهم تعرضوا للتعذيب بالكهرباء والإيهام بالغرق خلال استجوابهم من طرف عناصر فاغنر، وقال تقرير لمنظمة هيومن رايتشدس ووتش إن الشركة والقوات الحكومية مسؤولان عن 71 عملية إعدام لمدنيين. وفي مارس الماضي فتحت دورية للشركة النار على عشرات الأشخاص على الحدود المالية الموريتانية قبل أن يتضح أن الضحايا رعاة موريتانيين.
داعش والقاعدة
استهل زعيم تنظيم داعش أبو الحسن الهاشمي حقبته بقرار فصل “ولاية الساحل” عن “ولاية غرب إفريقيا” فبدأت في 23 من مارس بيانات “ولاية الساحل” بالصدور بعدما كانت المنطقة تتبع لولاية غرب إفريقيا حسب التقسيم الذي اعتمده البغدادي وقرداش، لا شك أن القرار انطوى على رغبة من قيادة التنظيم على التركيز أكثر على مالي ودول الساحل، تركيز عبرت عنه عشرات العمليات التي تبناها خلال الأشهر الماضية. فقد أعلن التنظيم في 25 من مارس الماضي عن قتل 290 شخصا بينهم 250 عنصرا من حركة خلاص أزواد خلال أسبوعين فقط. وفي 4 من أبريل أعلن عن قتل 130 عنصرا من حركة خلاص أزواد في هجمات على قريتين في منطقة “ميناكا” شمال شرقي مالي. كما هاجم التنظيم قاعدة عسكرية للجيش المالي في بلدة “تيسيت” بمنطقة “غاو” وتمكن من السيطرة عليها بعد القضاء على عشرات العسكريين المتواجدين فيها.
بعد أشهر من هجمات تنظيم داعش على قرى “ميناكا” نشرت وكالة رويترز تقريرا عن الواقعة متحدثة عن تقدم إسلاميين متشددين شرق مالي وسيطرتهم على مناطق وقتلهم لمئات المدنيين وتشريد آلاف آخرين، وأشار التقرير إلى أن الهجمات مازالت مستمر إلى غاية الشهر الجاري. وقد غادر الالاف قراهم إلى قاعدة عسكرية للجيش المالي بحثا عن الأمان.
نهج تنظيم داعش في مالي سياسة العقاب الجماعي، وبث الرعب في بين القبائل والمجموعات العرقية من خلال اجتياح القرى والاعدام الجماعي للسكان، وإحراق المحاصيل وتدمير الممتلكات. وقدرت تقارير إعلامية عدد القتلى المدنيين بين مارس وسبتمبر بحوالي 950 شخصا في هجمات تنظيم داعش على منطقة “ميناكا” فقط. وأظهر مقطع فيديو منتشر على مواقع التواصل الاجتماعي حجم الدمار الذي لحق بقرية “تلاتيت” في منطقة “غاو” بعد هجوم التنظيم عليها، حيث تحولت القرية إلى أطلال ورماد وقد نزح منها من تبقى من سكانها.
من جانبها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بالقاعدة اتبعت أسلوبا مختلفا يقوم على الاختراق الناعم للمجتمعات المحلية واستقطاب وجهاء المجموعات العرقية، وقد نهج تنظيم القاعدة هذا الأسلوب منذ دخوله إلى شمال مالي في 2012 وعبر عنه في “وثيقة أزواد” التي أصدرتها قيادة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والتي تدعو إلى التركيز على القواسم المشتركة بين القاعدة وبين مختلف مكونات المجتمع المالي بما فيها تلك الحركات ذات الطابع القومي. وأثمرت هذه السياسة تحالفا مع جبهة تحرير ماسينا الفلانية و جماعة أنصار الدين الطوارقية. وقراءة في البيانات التي أصدرتها الجماعة العام الجاري تظهر أنها تريد أن تعطي انطباعا أن عملياتها موجهة حصرا ضد الجيش المالي والقوات الفرنسية وعناصر شركة فاغنر الروسية. لكن الحكومة المالية اتهمت رسميا جبهة تحرير ماسينا بالوقوف خلف الهجوم الدموي الذي خلف 132 قتيلا واستهدف قرى “ديالاساغو” و”دياويلي” و”ديساغو” في منطقة “غاو” في 18 من يونيو الماضي. وفي 3 من سبتمبر الماضي أعلنت الجماعة رفع الحصار عن قرية “بوني” الذي استمر لأشهر بسبب ما اعتبرته تعاونا من الأهالي مع عناصر شركة فاغنر.