عبد الغني مزوز
رأى تنظيم داعش في اليمن بيئة مثالية نادرة لفرض وجود مستدام في المنطقة. الانقسام الاجتماعي والطائفي، وانحسار سلطة الدولة لصالح القبلية، وانتشار الأسلحة بأنواعها، إضافة إلى تضاريس البلد الوعرة، كلها عناصر في صالح تنظيم يريد أن يؤسس شرعيته على أساس طائفي، ويتمدد في الزوايا التي خلف فيها الاحتراب الأهلي فائضا من الفراغ والتوتر والفوضى. ورغم ذلك فقد جرت رياح اليمن بما لا تشتهيه سفن داعش، وخسر قادة التنظيم رهانهم على اليمن، ولم تخلف ولاية اليمن بعد 8 سنوات من تأسيسها سوى سجل حافل بالفضائح وحصيلة ثقيلة من دماء اليمنيين الأبرياء.
مرت أكثر من سنتين دون أن يتبنى التنظيم أي عملية في اليمن باستثناء تفجير انتحاري في محافظة البيضاء في 9 من يوليو/تموز 2022 كان مجرد إثبات وجود لا أكثر. وقد اعتاد منذ عمليته الأولى الضرب في الخواصر الرخوة لحصد أكبر عدد ممكن من الضحايا. بداية العام الجاري نشر منشقون عن التنظيم وثائق سرية على منصات التواصل المشفر سلطت الضوء على أحداث غريبة ومريعة في الوقت ذاته تورط فيها قياديون كبار في “ولاية اليمن”، كشفت الوثائق عن استفحال ظاهرة التحرش وسط أفراد التنظيم، وتصاعد وثيرة التصفيات الداخلية بين قياداته، واختلاس مبالغ طائلة من ميزانيته، وقيام المسؤولين على جهازه الإعلامي بفبركة الإصدارات المرئية، وتزييف المشاهد المصورة وغيرها من الأحداث والتفاصيل التي اعترف بها “والي” اليمن في مراسلاته السرية مع أمراء داعش في سوريا.
انشقاقات وتصفيات
بداية عينت قيادة داعش في سوريا المدعو (أبو المعالي) واليا على اليمن، وبدت مهمته سهلة في البداية نتيجة لظروف الحرب وانهيار مؤسسات الدولة، حيث تزامن ظهور داعش مع عملية عاصفة الحزم التي قادتها المملكة العربية السعودية ضد جماعة الحوثي، واستغل التنظيم حالة الاحتقان السياسي والانفلات الأمني في جمع الأسلحة وتوزيع مجموعات مسلحة في مختلف مناطق اليمن وتقسيم البلد إلى “ولايات” كما فعلت داعش في كل المناطق التي سيطرت عليها في العراق وسوريا وغيرهما.
لم تسر أمور اليمن كما أرادت داعش فتم اعفاء أبو المعالي من منصبه، وتعيين أبو سليمان المهاجر واليا جديدا على اليمن، وبعد فترة طلب هذا الأخير اعفائه لصعوبة المهمة الموكلة إليه فعين البغدادي أخيرا أبو أسامة المهاجر وهو حينها شاب في 29 من عمر، كان عضوا سابقا في تنظيم القاعدة، وقاتل في سوريا الى جانب داعش، ثم عاد الى اليمن وتولى منصب “الوالي” بتكليف من البغدادي.
صمم البغدادي على تحويل اليمن إلى بؤرة ملتهبة تدين له بالولاء، وخزانا بشريا يتسرب فائضه إلى دول الجوار، لذلك أعطى أهمية خاصة لليمن، ورصد لها موارد مالية لم يرصدها لولاية بعيدة أخرى. وقام بإرسال كوادر مدربة من سوريا والعراق إلى اليمن، جعل بعضهم في مجلس الشورى مثل “أبو صالح الجزراوي” و”أبو محمد الجزراوي” و”عبد الواحد العراقي” وغيرهم.
بدأت الانشقاقات في التنظيم عندما قام بإعدام مجموعة من الجنود اليمنيين، فطالبت عائلاتهم بعدها بعقد محكمة مستقلة للنظر في شرعية إعدامهم من الناحية الدينية، انقسم التنظيم بين من يرى ضرورة الاستجابة لطلب العائلات ومن يرى في ذلك رفضا “لحكم الشريعة”. تزعم أبو خيبر الصومالي القيادي في التنظيم وصادق الشبواني مسؤول الأمن العام تمردا داخل التنظيم، وطالبوا بعقد محاكمات شرعية في القضايا الخلافية، ورفضوا العمل تحت قيادة الوالي (أبو أسامة المهاجر) ورفعوا إلى قيادة داعش في سوريا شكوى تتهم الوالي بارتكاب “تجاوزات ومخالفات شرعية” وتوريط المقاتلين في معارك فاشلة، وفي 15 من مارس/ آذار 2016 أعلن العشرات من عناصر التنظيم وقياداته الاعتزال والانشقاق.
بتحريض من أبي محمد الجزراوي الذي تولى قيادة جهاز الأمن العام شرع أبو أسامة المهاجر في تنفيذ عمليات اغتيال ضد العناصر المتمردة أو حتى المشكوك في ولائها، ورغم أن القيادة في سوريا حظرت على المهاجر تنفيذ عمليات تصفية أو فصل من التنظيم دون إذن مسبق من البغدادي إلا أن الرجل استمر في حصد رؤوس المتمردين على قراراته ومن لم “يرتح إليهم”، وعلل ذلك في رسالة له إلى “إدارة الولايات البعيدة” وهي الجهة المخولة بالتواصل مع ولايات داعش خارج العراق وسوريا بأن ضغوط العمل وضيق الوقت حتما عليه المضي في اتخاذ القرارات من تلقاء نفسه.
سياسة التصفيات لم يسلم منها أحد يثير ولاءه الشكوك، حتى النساء، فقد اعترف أبو أسامة المهاجر في رسالة إلى قادته بأن التنظيم قام بتصفية زوجة أبو بلال الحربي أكبر مسؤول شرعي في “الولاية” بدم بارد وهي حامل في شهرها الخامس، لأن سلوكها مريب وغير سوي حسب تعبير المهاجر، مع أن عناصر الأمن في التنظيم فحصوا هاتفها ولم يجدو فيه دليلا على تواصلها مع جهات أخرى، وكل ما في الأمر أن المرأة بعدما قتل زوجها في مداهمة بمدينة المكلا، خاف المهاجر أن تهرب ومعها أسرار التنظيم التي شك أن زوجها قد يطلعها على بعضها.
أمرت قيادة داعش ببناء سجن سري في اليمن حتى يتسنى التحقيق مع المشتبه بهم قبل إعدامهم، لكن المهاجر بدلا من ذلك قام ببناء توابيت حديدية يحبس فيها المعتقلين لديه بهيئة الاستلقاء لأيام، ويتخذه أيضا أداة عقابية لمن يتمرد على أوامره، وحبس فيه فعلا قادة كبارا مثل “والي البيضاء” و”مسؤول الأمن العام”. المهاجر لم يعترف بجرائمه لقادته من تلقاء نفسه، ولكنه كان مضطرا لذلك في سياق تبريرها لأن عناصر أخرى في التنظيم كانت على تواصل مباشر مع البغدادي في سوريا وترفع إليه تقارير أسبوعية حول سياسة المهاجر.
صار معظم عناصر وقادة التنظيم في اليمن يخشون أن تطالهم أوامر الاغتيال لسبب أو لآخر، فبدأت موجات من الهروب أو الاستسلام للقوات الحكومية أو الالتحاق بالقاعدة، وكان من بين الهاربين أعضاء مجلس الشورى الذين بعثهم البغدادي الى اليمن.
التحرش
كتب أبو أسامة المهاجر رسالة إلى قيادته في سوريا في 3 من مايو/أيار 2017 يعترف فيها بانتشار ظاهر التحرش “بالمردان” في معسكرات التنظيم. والمردان هم الصبيان الذين لم تنبث لحاهم بعد. وأخبر المهاجر قيادته أنه سعى إلى تطويق هذه الظاهرة من خلال فصل الصبيان في أماكن خاصة ومنعهم من الاختلاط بباقي العناصر إلا في الدورات العسكرية والشرعية وخطوط القتال، وفرض نمط خاص من اللباس عليهم لا يظهر تفاصيل أجسامهم. ورغم هذه الاجراءات فقد سجلت حالات تحرش كثيرة، منها حالة (أبو حمزة الإبي) الذي حاول اغتصاب أحد الصبيان وهو نائم خلال إحدى الدورات الشرعية. اعترف المهاجر أن الصبي في حالة نفسية مزرية بسبب ما تعرض له، ويحاولون تطييب خاطره والحيلولة دون وصول المشكلة إلى قبيلته، وقد دفعوا بالصبي الى جبهات القتال للتنفيس عن أزمته، وربما للتخلص منه. حالة أخرى اعترف بها المهاجر وتخص المسمى (أبو العز الصنعاني) الذي تحرش هو الآخر بصبي أثناء نومه، وخلال التحقيق معه وخوفا من تداعيات الفضيحة عمد إلى الانتحار بإطلاق النار على نفسه.
جاء تعليق قيادة داعش في سوريا على ظاهرة التحرش في صيغة توجيهات صادرة عن ” إدارة الولايات البعيدة” وهي توجيهات لا تخلو من غرابة، منها أن يتم حلق شعر الصبيان (المردان) وإلزامهم بعدم التأنق في اللباس والمظهر، وإشغالهم بمعسكرات التدريب البدني تحت إشراف شيوخ كبار في السن، وإلزامهم أيضا بارتداء الأقنعة في حال اختلاطهم بالعناصر الأخرى. وحكمت على المتهمين بالتحرش بالجلد 300 جلدة، وتخييرهم بين الطرد من الجندية أو تنفيذ عمليات انتحارية.
إلى جانب التحرش، اعترف أبو أسامة المهاجر بتورط قادة كبار في “ولاية اليمن” في علاقات عاطفية مع النساء، فقد أخبر قيادة التنظيم في سوريا بأن أبو محمد الجزراوي مبعوثهم إلى اليمن وعضو مجلس الشورى ومسؤول الجهاز الأمني في “الولاية” دخل في علاقات غرامية كثيرة مع الفتيات على مواقع التواصل الاجتماعي، وأسفرت عملية الفحص والتفتيش واستعادة الملفات المحذوفة من هاتفه عن اكتشاف علاقاته المتعددة بالفتيات المناصرات، وكان يصور لهن عضوه التناسلي، ويفتح معن محادثات مطولة في مواضيع جنسية وعاطفية.
حالة أخرى ذكرها المهاجر في إحدى رسائله وتخص أبو بلال الحربي الذي شغل منصب الشرعي الأول في ولاية اليمن، عندما استغل حسابه الشخصي على موقع تويتر في التواصل مع الفتيات، إلى أن توجت إحدى علاقاته الافتراضية بالزواج، إذ تعرف على فتاة من صنعاء عبرت عن رغبتها في الالتحاق بداعش الزواج منه، وهو ما حصل في نهاية المطاف، وهي نفسها المرأة التي قام التنظيم بتصفيتها وهي حامل، وكان من مبررات قتلها أن التعرف عليها كان من خلال الانترنت ولم تأت بناء على تزكية من جهة معروفة للتنظيم.
فبركة الإصدارات
نشرت مؤسسة مقربة من القاعدة اعترافات شخص زعم أن داعش في اليمن فبركت الاصدار المرئي المعنون ب “أباة الضيم” وأن مشاهد اقتحام مقرات تابعة لجماعة الحوثي، مشاهد مفبركة تم تمثيلها من قبل عناصر داعش بما فيها جثث القتلى التي غمرت بعصير الفيمتو vimto لتظهر كالمدرجة في دمائها. في رسالة من أبي أسامة المهاجر إلى قيادته في سوريا اعترف بمفبركة المشاهد، لكنه ألقى باللائمة على مسؤولي الإعلام الذين يرفضون الافصاح عن فحوى اصداراتهم قبل نشرها بدعوى أن القسم الاعلامي تابع مباشرة لديوان الاعلام المركزي، ويرسلون انتاجاتهم رأسا إلى سوريا دون إذن من قيادتهم المحلية في اليمن، وطالب المهاجر بتمكينه من مراجعة الاصدارات قبل نشرها.
جاء الرد من “إدارة الولايات البعيدة” بمعاقبة المسؤولين عن تزوير المشاهد (المصور والمونتير) وعزل أبي هاجر المهاجر مسؤول المكتب الإعلامي، وإيقاف النشر الخارجي للمكتب لمدة شهر، بسبب ما ” ترتب عليه عملهم من تشويه لمصداقية إعلام الدولة الإسلامية” حسب تعبير محرر الرسالة.
حالة أخرى من حالات التزوير تورط فيها هذه المرة أبو أسامة المهاجر نفسه، عندما قام بتصفية أحد عناصر التنظيم الذي أزعجته مطالبه المتكرر بتوفير مأوى خاص به مع زوجته ويدعى (أبوهادي الجزراوي) ثم أشاع بين عناصر التنظيم أنه قتل على أيدي أعداء (الدولة الإسلامية) فتم تصوير جثة القتيل وعرضها “كشهيد” في الاصدار المرئي المعنون ب “الباذلين أنفسهم”. برر أبو اسامة المهاجر الواقعة لقادته في سوريا بأن التصفيات الداخلية لا يعلم بها سوى أشخاص قليلون جدا، وأن أبا هادي الجزراوي تمت تصفيته ولم يكن الإعلاميون الذي صوروه يعلمون كيف قتل، ولم ير بأسا في استغلال مقتله دراميا لصالح التنظيم.
تمثيل الاصدارات يكاد يكون سياسة إعلامية لتنظيم داعش في اليمن. فعندما خطف التنظيم ثلاثة مواطنين يمنيين ينتمون لجماعة الحوثي أرسلهم إلى القسم الاعلامي في شبوة لتسجيل اعترافاتهم قبل إعدامهم، لكن القسم الإعلامي احتفظ بهم، وأخذهم إلى شارع في شبوة لتمثيل مشهد اختطافهم، مع أن الاختطاف حدث في ولاية أخرى، فأصدروا مادة دعائية مزيفة عن العملية. أبو أسامة المهاجر في رسالته إلى “إدارة الولايات البعيدة” حمل المسؤولية لأبي عبد الله الجزراوي، ووصفه بالمتسلط الذي تولى ملف الإعلام وأداره وفق رغباته الشخصية.
الاختلاس
سواء في اليمن أو في سوريا أو غيرهما كان اختلاس الأموال أمرا دارجا داخل تنظيم داعش، حالات كثيرة لأفراد كلفوا بمهام أو بادروا إلى جمع التبرعات باسم “الخلافة” انتهت أموالها في حساباتهم الشخصية. تتفاوت دوافع المنتمين لتنظيم داعش، لكن بكل تأكيد يوجد بينهم من يرى فيه فرصا استثمارية مربحة. في اليمن قام جامع تبرعات يدعى أبو محمد المهاجر بجمع أموال طائلة في السعودية بحجة دعم “ولاية اليمن”، دخل إلى اليمن وكلفته قيادة داعش بتأسيس عمل في الحدود ووضعت في ذمته أموالا إضافية، لكن الرجل اختفى فجأة وهرب بأموال التنظيم، والطريف أن داعش عينت صديقا له لاستكمال مشروع الحدود، لكنه هرب هو الآخر بالأموال.
اشتكى أبو أسامة المهاجر إلى قيادة داعش في سوريا من العراقيل التي تعترضه في قضايا الاختلاس، وقال بأن المتورطين في الاختلاس ينكرون ما ينسب إليهم أمام قضاة التنظيم، وفي غياب أي دليل ضدهم، يكتفي القضاة بقسم النفي ثم يطلق سراحهم. وطالب بصلاحيات تمكنه من القفز على اجراءات “القضاء” التي تأخذ وقتا وتضيع فيها “الجهود والأوقات” من أجل “معاقبة المتلاعبين والعصاة”، لأن أغلب قضايا الاختلاس تكون عبارة عن معاملات شخصية يتعذر توثيقها. لقد ضخ التنظيم في اليمن موارد مالية ضخمة في سياق استماتته لتحويل البلد إلى “ولاية” نموذجية تحتذى، كما ظهر في كثير من المراسلات بين والي اليمن وبين داعش في سوريا، وحث التنظيم عناصره أيضا على “جباية” الأموال من التجار بالقوة، ووضع لهم خطة مفصلة بخصوص ذلك، لكن الكثير من هذه الأموال تبخر في ظروف غامضة.
رغم الجرائم التي قام بها أبو أسامة المهاجر في اليمن، باعتراف قيادته التي خاطبته في إحدى الرسائل بالقول:” تفاجأنا بما صدر عنك من قرارات القتل” واستفسرته عن جدوى خطف فتاة في التاسعة من عمرها، ورغم كل ذلك رفض البغدادي عزله، ودعم سياسته الدموية، وكتبت قيادة التنظيم معلقة على جرائم القتل التي نفذها المهاجر بأن رفضهم لقرارات القتل لا تعني إطلاقا أن ضحاياها لا يستحقون القتل. وإذا كان كبار قادة التنظيم في اليمن لم يسلموا من بطش “الوالي” فكيف كان حال اليمنيين الأبرياء الذين حصدت مفخخاته أرواحهم بالمئات. في 3 من يونيو/حزيران 2019 نفذ التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات عملية خاصة في العمق اليمني أسفرت عن اعتقال أبو أسامة المهاجر مسدلة بذلك الستار عن حقبة دموية كان الرجل بطلا من أبطالها.
ملاحظة: المقال منشور أولا في موقع ارفع صوتك