مقدمة:
لم يكد يعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبي بكر البغدادي في بلدة باريشا بريف إدلب حتى ضجت المنصات الإلكترونية التي ينشط فيها أنصار التنظيم بالردود والتعليقات والمشاركات التي تفاعلت مع الخبر الذي أربك الوسط “الجهادي” واستدعى من جديد الجدل حول مدى تماسك تنظيم الدولة، وقدرته على تجاوز الأزمات وامتصاص الضربات النوعية. اللافت أن التصدع الذي مس البنية التنظيمية والأيديولوجية لتنظيم الدولة على وقع الصراع الذي احتدم بين التيارات المنهجية داخله؛ ألقى بظلاله على السجال الذي أعقب الإعلان عن رحيل “الخليفة” في رقعة جغرافية تقع في عمق ما يسمى بـ “دار كفر” التي لا يجوز الإقامة فيها حسب أدبيات التنظيم، حيث عبر ما تبقى من منظري ونشطاء هذه التيارات عن مواقفهم إزاء مقتل البغدادي؛ مواقف تراوحت ما بين الشماتة والسرور “بهلاك الطاغية المجرم”[1] والحزن والألم على “استشهاد أمير المؤمنين وخليفة المسلمين”. إنها تجسيد لتلك المفاصلة الحادة التي انخرط فيها فرقاء التنظيم، والتي لم يعد معها الحديث عن “تنظيم الدولة الإسلامية” ذا معنى بقدر ما يكتسب الحديث عن تنظيمات أو شظايا تنظيم.. قدرا كبيرا من الوجاهة يوما بعد يوم. لقد خسر تنظيم الدولة كل معاقله وقُتل معظم قادته وتم حل دواوينه وتفكيك بنيته البيروقراطية المعقدة واغتيال “خليفته”، غير أن الخسارة الكبرى لم تكن وليدة هذه التطورات بل بدأت بواكيرها عندما قرر التنظيم عبر مرسوم ملزم فرض آراء عقدية معينة على كافة أعضائه و”رعاياه”، وبينما ظنت قيادة التنظيم أنها بخطوتها تلك ستعزز وحدة التنظيم وتماسكه كانت في الحقيقة تهوي بأولى الضربات على الإسفين الذي شق بنيان “الخلافة” وقوض بنيتها الأيديولوجية والتنظيمية في آن واحد. فما هي هوية التيارات المنهجية التي فاقمت الأزمة داخل تنظيم الدولة؟ وكيف نشأت؟ وأي مستقبل للتنظيم في ظل الصراع الحاد بينها؟ وكيف سينعكس رحيل البغدادي على هذا الصراع؟ وكيف سيكون موقع التنظيم على الخريطة الجهادية في المستقبل؟
حيثيات ظهور التيارات المتصارعة داخل تنظيم الدولة
مع تمدد تنظيم الدولة الإسلامية إلى سوريا في 9/04/2013 استغل حالة التضامن العالمي مع الثورة السورية، وغض الطرف عن توافد المتطوعين للقتال إلى جانب الفصائل الإسلامية السورية، فقام باستقطاب آلاف من هؤلاء المتطوعين ذوي التوجهات والقناعات العقدية المختلفة، و”توظيفهم” في مفاصله ودواوينه التي بدأ بتشكيلها استجابة لواقع تمدده واستحواذه السريع على عشرات المدن والقرى في كل من العراق وسوريا. وما لم يدركه قادة التنظيم في حينه أن نداءات “النفير” والالتحاق بـ “ركب الخلافة الإسلامية” التي ما انفكوا يرددونها عبر منظومتهم الدعائية، ستكون عاملا من عوامل سقوط “خلافتهم”. فإذا كانت هذه النداءات الحماسية قد أمنت فعلا عشرات الآلاف من المقاتلين الذين كانوا وقودا لمعارك ضارية خاضها التنظيم مع خصومه؛ فإنها جلبت أيضا تركيبة من الأفكار والقناعات العقدية والمنهجية المتناقضة. والتي سرعان ما انتظمت على شكل “مقولات” عقدية متضاربة التف حولها أفراد التنظيم وكوادره، واعتبر كل طرف أن “مقولاته” هي من صميم عقيدة “الطائفة المنصورة” وأن “المقولات” الأخرى هي من تأصيلات “المرجئة الجهمية” أو “الخوارج” أو “المرتدين”.
بخلاف ما هو متداول في الإعلام من تقارير تختزل الصراع داخل تنظيم الدولة الإسلامية في تيارين رئيسيين هما: “تيار الحازمي” و”تيار البنعلي” سنجد أن القراءة الفاحصة لأدبيات التنظيم، ودراسة ما سربه نشطائه المنشقون من وثائق وشهادات ستكشف لنا عن صورة واضحة لماهية الأزمة المنهجية داخل التنظيم وكذا كل أطرافها الفاعلة، كما ستكشف عن أبعاد هذه الأزمة المستعصية وتداعياتها المدمرة على مستقبل التنظيم.
يمكن فرز التيارات المتصارعة داخل تنظيم الدولة إلى أربع[2] تيارات متناحرة، تمترس كل تيار منها خلف منظومة من الأفكار والقناعات العقدية التي لا تقبل الجدال، محاولا فرضها كعقيدة رسمية للتنظيم وإلزام الجميع بها، موظفا ما تحت يده من وسائل وإجراءات حسب ما يخوله له الموقع الذي يسيطر عليه في هرم التنظيم وبيروقراطية. وهذه التيارات هي كالتالي: “التيار الحازمي” و ” تيار الفرقان” و”تيار البنعلي والقحطاني” و”تيار الحجاجي” وسنحاول بإيجاز التعريف بكل تيار من هذه التيارات، وعرض آراءه ومواقفه من تلك القضايا العقدية التي كانت سببا في النزاع والجدال.
تزامن انطلاق الثورة السورية ومن ثم الإعلان عن تمدد تنظيم الدولة الإسلامية إلى خارج العراق مع ثورة في الإعلام الرقمي احتلت معها مواقع التواصل الاجتماعي مكانة كبيرة على صعيد صناعة الخبر وتقديم المحتوى واستقطاب ملايين المستخدمين. هذا التحول العميق في ميدان الإعلام وصناعة الرأي العام كان له أيضا بالغ الأثر في الخطاب الجهادي، لقد خرج الجهاديون من فضائهم الإلكتروني الأثير “المنتديات الحوارية” وتفرقوا في منصات مواقع التواصل الاجتماعي، حيث الحرية المطلقة في إبداء الرأي وحصد المعجبين و”الأتباع” وتداول التأصيلات والمواقف الشرعية بعيدا عن رقابة المشرفين على المنتديات الجهادية. هذا الانتقال من الفضاء المغلق ” المنتديات” إلى المساحات المفتوحة على مواقع التواصل الاجتماعي أتاح لشرائح واسعة من الجهاديين التفاعل مع أفكار جديدة والتواصل مع منظرين جدد، وبالتالي التمرد على سلطة المنظرين المشهورين، وكسر احتكار موقع “منبر التوحيد والجهاد” للمحتوى الجهادي ذي الصبغة التأصيلية.
هكذا ظهر منظرون جدد بأفكارهم وتأصيلاتهم وفتاويهم التي وجدت قبولا لدى قطاعات عريضة من الجهاديين، وأدخلوا أفكارا ومقولات جديدة في المجال التداولي الجهادي. هذا من جهة، من جهة أخرى ساد عقب ثورات الربيع العربي نوع من التطبيع المؤقت مع بعض الشخصيات الدينية التي استغلت أجواء الانفتاح حينئذ فراحت تجوب مختلف البلدان ملقية المحاضرات والدروس والدورات العلمية كما هو الحال مع الداعية أحمد بن عمر الحازمي، فوجد كثير من الشباب حديثو العهد بالتدين مرادهم في هذه الدورات والمحاضرات التي أشبعت اندفاعهم الجامح نحو ما يرونه “جهادا واجبا لنصرة الدين”.
لقد شهدت هذه المرحلة إذن وفرة في “المعروض” الجهادي وفائضا في الفتاوى والتأصيلات، وزخما متصاعدا للفعل العنيف الذي يبحث عن التسويغ والتبرير الشرعي، فكان من الطبيعي أن ينعكس تأثير ذلك كله على أكبر تنظيم يضم بين صفوفه آلافا من المتطوعين القادمين من شتى البيئات والثقافات، والمنفتحين على تأصيلات جديدة لم يسمعوا بها من قبل. وكانت قيادة تنظيم الدولة قد ظنت أنها ستستوعب ذلك الخليط غير المتجانس تحت الشعارات العريضة التي يرفعها تنظيمهم من قبيل: ” تطبيق الشريعة” و”جهاد الكفار والمرتدين والصحوات”.. لكنها لم تدرك أن بداية التصدعات التي ستقوض بنيان التنظيم ستبدأ من مسائل عقدية دقيقة جدا طواها التاريخ، وتجاوزها العقل الإسلامي، واستدعاها شرعيو تنظيم الدولة وكوادره إلى مربع السجال من جديد. ومن أبرز هذه المسائل التي أثارت الخلاف والجدل: “الناقض الثالث” أي حكم من لم يكفر الكافر، و”العذر بالجهل” و”تعريف الكفر بالطاغوت” و”أحكام الديار” وغيرها.
[1] الاستبشار بمقتل البغدادي، قناة كفوا الأيادي عن بيعة البغدادي، 31/10/2019 https://t.me/kofo_alayady_3nbay3at_albagdady/244
[2] فضلنا في دراسة سابقة تصنيف التيارات المتصارعة إلى ثلاث تيارات لكن وفي ضوء ما استجد من وثائق وجدنا أنه من الضروري تصنيف هذه التيارات إلى أربع تيارات.