الوصول السريع للمحتويات

تحولات الخطاب السياسي لدى الجماعات الإسلامية المسلحة (5)

المنظرون الجدد ودورهم في تحولات الخطاب الجهادي

عند مقاربتنا للظاهرة الجهادية وما يعتريها من تحولات لابد أن نشير إلى عامل مهم كان له دور محوري في إعادة صياغة الوعي الجهادي عند أبناء التيار الجهادي؛ هذا العامل هو ظهور مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة وما لاقته من إقبال على حساب المنصات الإلكترونية الأخرى كالمواقع والمنتديات الحوارية، فقد كانت المنتديات الجهادية بمثابة الجامعات والمدارس التي ينهل منها الجهاديون أفكارهم وقناعاتهم، وكان المشرفون على هذه المنتديات حريصون جدا على مراقبة المواد التي تنشر فيها حيث يتعرض أي عضو يطرح موضوعا نقديا أو مخالفا لمواقف شيوخ وقادة التيار الجهادي إلى الحظر والتوقيف، وهكذا ظلت البيئة الجهادية الافتراضية محصنة ضد أية آراء أو توجهات تخالف ما هو سائد في الوسط الجهادي. مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتراجع اهتمام رواد الانترنت بالمواقع والمنتديات وجد من كان متحفظا على الفكر الجهادي في هذه المواقع منبرا مناسبا لنشر أفكاره ومواقفه، وسرى الخطاب الجهادي النقدي فيها وحظي بتفاعل كبير من قبل روادها لاسيما المؤيدين منهم للحركة الجهادية.

وجد المنظرون الجدد للتيار الجهادي في مواقع التواصل الاجتماعي فضاء لعرض أفكارهم وأطروحاتهم وساعدهم ذلك في خلق توجه جهادي تجرأ على نقد كبار شيوخ السلفية الجهادية والاستدراك عليهم، كما أنهم استطاعوا تأسيس جماعات جهادية أو كانوا من بين المؤسسين لها، وبالتالي كانت بصمتهم حاضرة في الخطاب السياسي والفقهي لهذه الجماعات، ويعتبر هؤلاء المنظرون من أوائل الرافضين لمشروع تمدد “دولة العراق الإسلامية “إلى سوريا، وكان لبعضهم دور أيضا في إقناع الجولاني بالتمرد على قرار دمج جبهة النصرة مع تنظيم دولة العراق الإسلامية. وكانت مآخذ هؤلاء على الفكر الجهادي أنه فكر نخبوي يصعب معه حشد الناس خلف قضاياه وأطروحاته، وأن روافد الغلو داخله ينبغي تجفيفها وحصارها، واستنكروا “تستر علماء ومشايخ الحركة الجهادية على الانحراف الموجود تحت دعوى عدم ضرب المشروع الجهادي”[1]، وكان من أبرز هؤلاء القادة والمنظرين أبو مارية القحطاني و مظهر ألويس و أبو يزن الشامي وسراج الدين زريقات وغيرهم[2]. أبو مارية القحطاني كان من مؤسسي جبهة النصرة وكان قائدا لها في المنطقة الشرقية بسوريا (دير الزور) ومن المتحمسين لقتال تنظيم الدولة الإسلامية في بداية تمدده، استغل شبكات التواصل الاجتماعي لنشر أفكاره وآراءه عن تنظيم الدولة والحركة الجهادية عموما، خاض معارك شرسة ضد التنظيم في المنطقة الشرقية قبل أن ينسحب منها إلى درعا جنوب سوريا. أما مظهر ألويس فقد كان رفيقا للقحطاني في المنطقة الشرقية وتقاسما القناعات نفسها حول التيار الجهادي، نقض مظهر ألويس مبادئ الغلو والتكفير في كتابه المشهور “العلامات الفارقة في كشف دين المارقة “وهاجم فيه شيوخ التيار الجهادي لأنهم لم يبينوا حقيقة الخوارج بنفس القدر الذي بينوا فيه حقيقة المرجئة[3]. ويعتبر مظهر ألويس وأبو مارية القحطاني الآن من قادة هيئة تحرير الشام ومن مهندسي برنامجها الجهادي الموسوم بالاعتدال والانفتاح.

أبو يزن الشامي كانت له إسهاماته أيضا عبر مجموعة من المحاضرات والمناظرات الفكرية والفقهية لكنه قتل مع من قتل من قادة حركة أحرار الشام في 9/9/2014 ولم يتسنى له بلورة أفكاره ونظرياته الجهادية بشكل شامل، واشتهر بعبارته التي اعتذر فيها للشعب السوري لأنه حمل يوما أفكار السلفية الجهادية التي جعلته يتمايز عن جماهير الشعب. أما سراج الدين زريقات فقد عُين قائدا لكتائب عبد الله عزام القريبة من تنظيم القاعدة خلفا لقائدها الراحل ماجد الماجد، وبعد اندلاع الثورة السورية أطلق مواقف ناقدة للتيار الجهادي عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي.

خاتمة

تبدو تحولات الخطاب السياسي الجهادي في سوريا عميقة وراسخة وأشد بروزا وتجليا، لأن عوامل ومحددات التحول التي ذكرناها كانت أكثر تظافرا واحتشادا في الحالة السورية مقارنة بغيرها، ففي سوريا استطالت الثورة واستماتت في مواجهة النظام وحلفائه، وإليها امتد تنظيم الدولة الإسلامية أول مرة، وأقام نمطه في الحكم و “الخلافة”، وشهدت ميلاد أجيالا جديدة من الحركات الجهادية ومنظرون جدد.. فكان أمرا طبيعيا معاينة جماعة جهادية بدأت نشاطها باسم “جبهة النصرة لأهل الشام من مجاهدي الشام في ساحات الجهاد” وهو اسم يقتبس مفرداته من المعجم الجهادي التقليدي، إلى اسم “هيئة تحرير الشام” ذو الحمولة الحداثية والبيروقراطية. الفكر الجهادي لم يكن وحده من عصفت به رياح الربيع العربي فكل الأيديولوجيات والسرديات الكبرى في الوطن العربي تعرضت للتصدع أو الانهيار الكامل. جماعة الإخوان المسلمين فكرا وتنظيما؛ حالها بعد الربيع العربي ليس كحالها قبله، الفكر السلفي التقليدي بجماعاته ورموزه ودعاته حاله قبل الربيع العربي ليس كحاله بعده، والمصير نفسه لاقته دول وأنظمة ومحاور كانت تسمى محاور للمقاومة والممانعة أو الاعتدال. ربما يمكن القول أن الحركة الجهادية هي السردية الوحيدة التي تكيفت بنجاح مع لحظة الثورات العربية عندما راجعت أطروحاتها وصححت مساراتها، إذ لا يمكن فصل الفعل الثوري عن الفعل الجهادي في سوريا وليبيا مثلا إلا في سياقات تعسفية تتحدى الموضوعية وتقفز على معطيات الواقع وشواهده.


[1] مظهر ألويس، العلامات الفارقة في كشف دين المارقة، ص38 (نسخة إلكترونية)

[2] عدد من الكتاب الجهاديين المشهورين تراجعوا عن مواقفهم التي كانوا ينشرونها في المنتديات الجهادية مثل الكاتب “عبد الله بن محمد” الذي يكتب في تويتر باسم “شؤون استراتيجية” و الكاتب “اسد الجهاد2″ وغيرهم

[3] مظهر ألويس، العلامات الفارقة في كشف دين المارقة، ص43 (نسخة إلكترونية)

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية