الوصول السريع للمحتويات

تحولات الخطاب السياسي لدى الجماعات الإسلامية المسلحة (4)

دور الشركاء الجهاديين في تحولات الخطاب الجهادي

عندما أعلن أبو بكر البغدادي عن دمج جبهة النصرة مع دولة العراق الإسلامية وتأسيس “الدولة الإسلامية في العراق والشام” احتج أبو محمد الجولاني قائد جبهة النصرة على القرار ورفض تنفيذه، وبرر رفضه بوجود فصائل ثورية أخرى تعمل في الساحة ويجب استشارتها وأخذ رأيها في أي قرار يمس مصير الثورة وقال بأن “دولة الإسلام في الشام تُبنى بسواعد الجميع دون إقصاءِ أي طَرَف أساسي ممن شارَكَنا الجهاد والقتال في الشام من الفصائل المجاهدة، والشيوخ المُعتبَرين من أهل السنة[1]، فالفصائل والجماعات الجهادية الأخرى في سوريا كان لها دور معتبر في صياغة مواقف جبهة النصرة في كثير من المحطات التي مرت بها الثورة السورية، وقد صرح الجولاني في عدة مناسبات أن “جبهة النصرة لن تتفرد بقيادة المجتمع السوري”[2] وأنه حينما يسقط النظام “ستجتمع لجان شرعية ويجتمع أهل الحل والعقد وعلماء ومفكرون من الناس الذين ضحوا وشاركوا ومن الناس الذين لديهم رأي وحتى وإن كانوا من الخارج بهذه البلاد، يجتمع علماء أهل الشام مثلاً ويجتمعون فتعقد مجالس للشورى وتعقد مجالس لأهل الحل والعقد ثم توضع خطة مناسبة لإدارة هذا البلد”[3].

مثلما كان لشركاء “الجهاد” والثورة دور في انفصال جبهة النصرة عن “دولة العراق الإسلامية” كان لهم دور أيضا في انفصالها عن تنظيم القاعدة، إذ اشترطت عدد من الفصائل الثورية والجهادية فك جبهة النصرة ارتباطها بتنظيم القاعدة كخطوة أولى للتوحد معها في كيان واحد. ومن أجل إنجاح مشروع التوحد هذا؛ قطعت جبهة النصرة علاقتها بالقاعدة وغيرت اسمها وعلمها، ثم توحدت مع فصائل أخرى في كيان جامع أطلقوا عليه اسم “هيئة تحرير الشام”، أشرف الكيان الأخير على تنظيم مؤتمر عام في مدينة إدلب لدراسة مشروع الإدارة المدنية للمناطق المحررة، وانبثق عن هذا المؤتمر هيئة تأسيسية كُلفت بتشكيل حكومة انقاذ لإدارة المناطق المحررة وتم الإعلان فعلا عن الحكومة في 2/11/2017 ولا يوجد في الحكومة أي شخصية تنتمي إلى التيار الجهادي بل أغلب أعضائها من الأكاديميين والمستقلين.

ربما في الحالة السورية يتضح أكثر عمق التغيرات التي طرأت على الخطاب الجهادي، فقبل عقد تقريبا أعلن الجهاديون في العراق عن تشكيلة وزارية تتبع “دولة العراق الإسلامية” ومعظم الأسماء التي أعلن عنها آنذاك محارب الجبوري كانت أسماء مستعارة لا يُعرف أصحابها[4]، ثم خرج أبو عمر البغدادي في تسجيل صوتي يذكر ثوابت “حكومته” ودولته فقال:” نرى كفر وردة الساحر ووجوب قتله ، وعدم قبول توبته في أحكام الدنيا بعد القدرة عليه.. ونرى تحريم كل ما يدعو إلى الفاحشة ويدعو عليها كجهاز الستالايت ، ونوجب على المرأة وجوباً شرعياً ستر وجهها والبعد عن السفور والاختلاط ولزوم العفة والطهر”[5] فهذه الجزئيات الصغيرة صنفها البغدادي في عداد الثوابت التي لا يمكن التنازل عنها، بينما حضرت نساء بوجه مكشوف للمشاركة في مداولات المؤتمر السوري العام الذي غطاه عدد كبير من الصحفيين والناشطين تحت إشراف “هيئة تحرير الشام. ما بين إعلان “دولة العراق الإسلامية” في العراق 2006 و “حكومة الإنقاذ” في سوريا 2017 عاش التيار الجهادي فصولا من المراجعة الذاتية وتقييم الحصيلة أسفرت عن صراعات بينية دامية وانقسامات لم تهدأ تداعياتها حتى اللحظة.

في 2012 تمكنت كل من جماعة أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي والحركة الوطنية لتحرير أزواد من السيطرة على إقليم ازواد شمال مالي وإقامة “حكم إسلامي” هناك، تحالف الضرورة الذي جمع هذا الخليط المتنوع من الحركات الوطنية والجهادية لم يستطع الصمود لفترة طويلة لكنه كشف عن قناعات جهادية جديدة سادت وسط جهاديي الصحراء الكبرى وغرب إفريقيا، هذه القناعات عبرت عن نفسها بوضوح في الوثيقة المعروفة بوثيقة أزواد، وهي عبارة عن توصيات وتوجيهات كتبها أبو مصعب عبد الودود قائد تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي إلى الجماعات الجهادية المسيطرة على شمال مالي، وتضمنت بنودها ما يمكن اعتباره تحولا عميقا في الخطاب الجهادي، ويمكن ملاحظة عمق هذا التحول عندما تتم مقارنة هذه الوثيقة بوثائق أخرى أصدرها تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي قبل سنوات.

طالب أبو مصعب عبد الودود الجماعات الجهادية في الصحراء بـمد الجسور مع كافة شرائح المجتمع الأزوادي  وعلى رأسها القبائل الكبيرة وحركات التمرد الرئيسية[6] وعدم الهيمنة على المشهد السياسي والعسكري والسعي لإشراك القوى الرئيسية الفاعلة فيه كحركة تحرير أزواد وحركة أزواد العربية وغيرهما، وتبني فقه تحييد الخصوم وتجنب سياسة الاستفزاز والاستعداء وتهييج الخصوم، والحرص على كسب الحلفاء والمرونة في التعامل مع الواقع والتنازل عن بعض الحق تحقيقا للمصالح الكبرى[7]. ثم كتب أبو مصعب عبد الودود ما رآها أخطاء وقع فيها الجهاديون في الصحراء وحثهم على تداركها وتصحيحها مثل: قرار إعلان الحرب على الحركة الوطنية لتحرير أزواد الذي اعتبره خطأ يجب تصحيحه باعتبار الحركة أهم مكون في المجتمع الأزوادي، ولذا من المهم التصالح معها وتذليل كل العقبات التي تحول دون ذلك “توحيدا للصف الأزوادي الداخلي”[8]، وأكد عبد الودود ضرورة التدرج في تطبيق الشريعة[9] ومراعاة ظروف الناس والمجتمع واستنكر بعض التصرفات التي تسيء للجهاديين ولا تخدم قضيتهم مثل: هدم الأضرحة والمزارات وإقامة الحدود دون اعتبار المصالح والمفاسد المترتبة على ذلك ومنع النساء من التجول وتحريم اللعب المباح وتفتيش البيوت..[10]

وردت فقرة في وثيقة أزواد المشار إليها تعكس بوضوح تأثير الشركاء الجهاديين في الخطاب السياسي الجهادي حيث قال أبو مصعب عبد الودود: “مما لا شك فيه أن وضع تنظيم القاعدة الآن وطبيعة نشاطه في إقليم أزواد يختلفان عما سبق، نظرا لما حملته هذه الأوضاع الجديدة المهمة من تحديات تقتضي منا وضع تصور جديد يضبط العلاقة التنظيمية مع حركة أنصار الدين ويحدد طبيعة النشاط الملائم الذي يجمع بين الاستمرار في مشروعنا الجهادي العالمي وبين رعاية المشروع الإسلامي الأزوادي وتطويره وتجنب أسباب فشله”،[11] في هذه الفقرة يعترف أمير تنظيم القاعدة أن حال التنظيم قبل تحالفه مع جماعة أنصار الدين لن يكون كحاله بعد التحالف معها، بمعنى أن التنظيم عليه أن يبحث عن صيغة أخرى للتوفيق بين توجهه العالمي وبين ما تقتضيه المرحلة من ضرورة من الاهتمام أكثر بالشأن المحلي ومراعات الشراكات مع الفاعلين الآخرين. وخلص عبد الودود إلى أهمية “حشد كافة القبائل بمختلف توجهاتها والحركات المحلية على الأهداف الكبيرة، وتجنب الخوض في مسائل التكفير وتبني سياسة ناضجة ومعتدلة تقدم التطمينات وتوحي بالتهدئة ولا تستفز دول الجوار[12]. وقد نشرت القاعدة لاحقا نص الاتفاق بينها وبين جماعة أنصار الدين والحركة الوطنية لتحرير أزواد المتعلق بتشكيل حكومة شراكة فيما بينهم[13].

تحدث القيادي في القاعدة (منطقة الصحراء الكبرى) عبد العزيز حبيب في حوار مطول عن الخطوط العريضة للسياسة التي انتهجوها في إقليم أزواد وذكر منها:

  • اعتماد المذهب المالكي المدلل، ويقصد به عبد العزيز حبيب مواقف فقهاء المالكية المسنودة بالأدلة الشرعية
  • عدم استعداء مكونات المجتمع الأزوادي بأي شكل من الأشكال
  • عدم إعلان إمارة إسلامية حتى لا تتخذها بعض القوى مسوغا للهجوم على المنطقة واستهداف الشعب الأزوادي
  • صياغة البيانات بطريقة لا تستعدي الخارج
  • فتح باب التفاوض والحوار مع حكومة باماكو
  • تحييد الخصوم والحركات المسلحة في البلد
  • الاجتماع بأطياف المجتمع وقادة الناس ووجهائهم
  • الحوار مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد والسعي لإيجاد صيغة توحد واندماج معها بما يخدم المشروع الإسلامي في أزواد
  • التدرج في تطبيق الشريعة
  • السماح للمرأة بالخروج من المنزل والعمل وفق الضوابط الشرعية المعروفة
  • عدم هدم القبور والقباب إلا بعد إقناع الناس بشرعية ذلك، واستعمال الفؤوس في عملية الهدم وليس المتفجرات أو الجرافات، وذكر القيادي في القاعدة أن عناصر تنظيمه يمرون يوميا بجوار بعض القباب والأضرحة النائية قبل سيطرتهم على أزواد ولم يفكروا في هدمها، لأن ذلك يخالف مقاصد الشريعة، إذ يجب أولا إبلاغ الناس بحرمة القباب ثم هدمها لاحقا بإرادتهم[14].

لقياس حجم التحول الذي مس خطاب الحركات الجهادية في الصحراء الكبرى وشمال افريقيا سنعود إلى أهم وثيقة تأسيسية نشرتها الجماعات الجهادية هناك وهي الوثيقة المسماة “ميثاق الجماعة السلفية للدعوة والقتال”، هذا الميثاق يعود للجماعة التي غيرت اسمها لاحقا من “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” إلى تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي بعد بيعتها لأسامة بن لادن في 2006. لقد حصر الميثاق نطاق التعاون والتحالف مع الجماعات الأخرى وفق ما يقتضيه المنهج السلفي ويفتي به العلماء السلفيون فقد نص على أنه “إذا اختلفت اتّجاهات النّشاط و العمل مع غيرنا من الجماعات العاملة باختلاف الأولويّة والأهمّيّة أو اختلاف الظّروف و المحيط الذي تتواجد فيه، أن نتّخذ من هذا الاختلاف وسيلة تكامل و قوّة، بدل أن يكون سبب تطاحن و ضعف، ما دام ذلك وفقا لمنهج السّلف، و في إطار السنّة، و أقوال العلماء السّلفيين، بعيدا عن البدعة، و المناهج المخالفة للسّنّة”[15] ولا شك أن مكونات المجتمع الأزوادي العرقية والقبلية والسياسية التي تحالفت معها الجماعة فيما بعد ليست على المنهج السلفي، كما أن الحركات التي دخلت معها في مشروع حكومة مؤقتة لا تدين كلها بالعقيدة السلفية.

ما حصل في شمال مالي حصل أيضا في اليمن حينما سيطر تنظيم القاعدة بمعية رجال القبائل على مدينة المكلا الواقعة في محافظة حضرموت شرقي اليمن في العام 2015، حيث بادر التنظيم إلى تشكيل مجلس محلي لإدارة المدينة، وسلم المدينة إلى مؤسسات أهلية لتدبير شؤونها، ولم يعمد كما هو معهود عن الجماعات الجهادية إلى فرض نمطه في الحكم والإدارة. تنظيم القاعدة اليمن انخرط أيضا في مراجعة نقدية للمقاربات الجهادية التي تبناها في السابق، ولعل المحاضرة المرئية لقائد التنظيم أبو بصير ناصر الوحيشي عن مفهوم تطبيق الشريعة مؤشر واضح على قدر التحول والتغير الذي عرفه أهم فرع من فروع القاعدة، حيث حاول الوحيشي تصحيح بعض المفاهيم عند التيار السلفي الجهادي المتعلقة بتطبيق الشريعة وأكد أن “من تطبيق الشريعة عدم تطبيق الشريعة”[16] واستنكر التطبيق الحرفي لتعاليمها من قبل بعض الجماعات الجهادية في المناطق التي يسيطرون عليها.

تنشط في ليبيا جماعات جهادية كثيرة، منها تلك المحسوبة على الجهاد العالمي كجماعة أنصار الشريعة وبعض الكتائب الأخرى العاملة في بنغازي ودرنة، وأخرى قصرت اهتمامها بقضايا القطر الليبي فقط، تحالفت هذه القوى الجهادية ضمن مجالس للشورى وغرف للعمليات المشتركة؛ كمجلس شورى ثوار بنغازي ومجلس شورى مجاهدي درنة، هذه الجماعات الجهادية مع قربها من تنظيم القاعدة وبعضها مبايع له فعلا، إلا أن أسلوب إدارتها للمدن والمناطق التي سيطرت عليها يبدو فريدا ومختلفا، حيت اعترف بعضها بحكومة طرابلس التابعة للمؤتمر الوطني العام، وتحالفت مع قوات فجر ليبيا الحكومية، واعتبرت دار الإفتاء الليبية مرجعية لها، كما حاربت تنظيم الدولة الإسلامية بشراسة وطردته من مدينة درنة وبعض المناطق الليبية الأخرى.


[1] أبو محمد الجولاني، حول ساحة الشام، 10/4/2013 https://justpaste.it/2dgw

[2] قناة الجزيرة، لقاء مع أبي محمد الجولاني، 19/12/2013 https://www.youtube.com/watch?v=DIr1HoHJlQA

[3] المصدر السابق

[4] مجموع كلمات قادة دولة العراق الإسلامية، إعلان التشكيلة الوزارية، ص230، 19/4/2007 http://www.ilmway.com/site/maqdis/MS_37531

[5] أبو عمر البغدادي، قل إني على بينة من ربي، 13/3/2007 https://archive.org/details/abo_omer

[6] أبو مصعب عبد الودود، توجيهات عامة بخصوص المشروع الإسلامي في أزواد،20/7/2012 ص 7 https://archive.org/details/tawjehajehh

[7] المصدر السابق، ص 8

[8] المصدر السابق ص10

[9] يتحفظ التيار الجهادي على مسألة التدرج في تطبيق الشريعة، أنظر مثلا: أيمن الظواهري، الحصاد المر، الطبعة الثانية ص61 (نسخة الكترونية)

[10] المصدر السابق ص10

[11] المصدر السابق ص 11

[12] المصدر السابق ص 13

[13] مؤسسة الأندلس، رسالة وتوضيح من مؤسسة الأندلس للإنتاج الإعلامي، 26/5/2012https://azelin.files.wordpress.com/2015/04/al-qc481_idah-in-the-islamic-maghrib-22a-message-and-clarification-a-right-call-and-a-sincere-message22.pdf

[14] شبكة المرصد الإخبارية، القصة الكاملة للإمارة الإسلامية في شمال مالي، 14/1/2014 http://marsadpress.net/?p=17211

[15] ميثاق الجماعة السلفية للدعوة والقتال، (بدون تاريخ) ص12 http://www.ilmway.com/site/maqdis/MS_599

[16] أبو بصير ناصر الوحيشي، مفهوم تطبيق الشريعة، 22/7/2015 https://archive.org/details/basir-sharia

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية