الوصول السريع للمحتويات

تحولات الخطاب السياسي لدى الجماعات الإسلامية المسلحة (3)

الخطاب السياسي الجهادي قبل وبعد تنظيم الدولة الإسلامية

شكل ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” في 2013 منعطفا حاسما في تاريخ الحركة الجهادية، ولحظة فارقة في مسار التيار الجهادي، ليس لأنها كانت لحظة انقسام وتشظي التيار واختلاف مرجعياته، بل لأنها كانت بداية ظهور وبروز أفكار تصحيحية هي بمثابة الترميم لبعض الثغرات التي تخللت بنية الخطاب السياسي الجهادي، حيت بدأ المنظرون الجهاديون يطرقون مباحث الفقه السياسي ويؤصلون لمفاهيم لم تكن من قبل تثير اهتمامهم.

وقد تكون بداية الخروج عما أسماه أبو مصعب السوري بـ “أحادية الطرح في المنهج الجهادي وعدم شموليته واقتصاره على مسائل الولاء والبراء والحاكمية وضيق أفق المكتبة والإنتاج الأدبي في التيار الجهادي”[1].

في سياق رفض مرجعيات التيار الجهادي لنمط الحكم و “الخلافة“ التي أعلنها البغدادي وردهم عليها أضافوا للمكتبة الجهادية كتابات يمكن اعتبارها باكورة فقه سياسي جهادي في طور التبلور. كانت البداية مع المنظر الجهادي المعروف أبي قتادة الفلسطيني في كتابه “ثياب الخليفة” حيت قرر فيه “أن أمرَ الإمامة لا يكونُ إلا عن رضى، ولا يحصلُ إلا باتفاقِ أصحابِ الأمرِ من أهل الشورى”[2] و أن “أن البيعةَ للإمام لا تنعقدُ بواحدٍ ولا في ما معناه من اثنين أو ثلاثة، بل ويدلُّ على أنِها لا تُفرضُ من قومٍ على قوم”[3] بل إن “الإمامةَ وضعٌ بشري، أي هي عقد ككل العقود تحصل بالرضى”[4] و “بأنه لو أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإمامة لواحد فخالفته الأمة بعده وبايعت غيره لكان الإمام هو من بايعته لا من أوصى به مع معصيتهم في المخالفة”[5]. أبو قتادة الفلسطيني توسع في تأصيل هذه الأفكار في كتابه ومقالات أخرى له على حساباته بمواقع التواصل الاجتماعي، وذلك في معرض نقضه للمقولات التي استند عليها البغدادي وأتباعه في شرعنة إعلانهم للخلافة والدولة الإسلامية. أبو قتادة الفلسطيني استفاد من تجربته الجهادية الطويلة خصوصا مع الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، وكانت كتاباته السابقة تتمحور حول “المنهج السلفي النقي” وربط شرعية الجماعات والحركات الإسلامية بمدى “سلفية عقيدتها ورايتها” ويتجلى هذا في سلسلة مقالاته “بين منهجين” المنشورة في نشرة الأنصار والتي جمعت فيما بعد في كتاب بعنوان “الجهاد والاجتهاد” ويعتبر من الكتب المؤسسة في الفكر الجهادي. يحاول أبو قتادة الفلسطيني اليوم توسيع أفق التيار الجهادي من خلال تشجيع الجهاديين على تنويع قراءاتهم وأشرف في هذا الصدد على برنامج للقراءة سماه “ألف كتاب قبل الممات” شرح فيه أبو قتادة عددا من الكتب ليس فيها كتاب جهادي واحد حتى الآن.

لم يكتف أيمن الظواهري بإدانة تنظيم الدولة الإسلامية وطرده من القاعدة باعتبار التنظيم فرعا من فروع القاعدة[6]، بل تحدث في عدة خطابات عن ماهية الحكم الرشيد وأحكام الإمامة و البيعات وشدد فيها على أن” الحكمَ الذي ينبغي الوصولُ إليه هو حكمُ الشريعةِ التي أمرتنا بالشورى، وجعلت للأمةِ حق اختيارِ حكامها ومحاسبتهم”[7] وأكد على أن من لم تختره الأمة بإرادتها فليس إماما وإن زعم ذلك لنفسه “فلا يكفي أن يكون الشخص أهلا للخلافة مستوفيا لشروط المنصب ليكون خليفة، وإنما لا يكون كذلك إلا باختيار المسلمين”[8]. وتطرق بالتفصيل إلى الطرق الشرعية في اختيار الحكام وتنصيب الأئمة وربط شرعيتهم باختيار جمهور الأمة لهم[9]، وأما “انتزاع الإمارة بالسيف والقتال والتغلب فإنها جريمة شرعية”[10].

ذكر أيمن الظواهري في سياق حديثة عن الحكم الرشيد كلاما يدل على عمق التحول الذي مس الخطاب السياسي الجهادي، ومدى تأثير ظهور تنظيم الدولة الإسلامية على هذه التحولات حيث رد الظواهري على من يقول بجواز بيعة الأقلية ساردا مجموعة من الأدلة على وجاهة ما ذهب إليه[11]، وقال في رسالة أخرى مخاطبا من يزعم جواز بيعة الأقلية “فأقول لمن يزعم أن خلافة النبوة تكون ببيعة سرية من عدد قليل من المجاهيل لشخص لم تختره الأمة، وافتئتوا على المسلمين وأهل الجهاد والعلم والفضل والرئاسة والزعامة فيهم، فأقول لهم: هذا الذي تزعمونه هو عين ما زعمه الرافضي المطر الحلي؛ أن الصحابة رضوان الله عليهم قد فعلوه في بيعة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بأنه صار خليفة ببيعة عدد قليل من الصحابة”[12]. واستند الظواهري إلى سهولة التواصل وإمكانية أخذ آراء الجميع في عصرنا الحاضر. هذه المواقف والآراء الفقهية التي رد عليها أيمن الظواهري وبين “بطلانها” تبناها أسامة بن لادن من قبل واحتج بها على شرعية إعلان دولة العراق الإسلامية عام 2006 فقد قال أسامة بن لادن في معرض دفاعه عن إعلان دولة العراق الإسلامية: “ولقد سمع المسلمون بأن بعض الإخوة من الأمراء والعلماء في بعض الجماعات المجاهدة قد وجدوا في أنفسهم إذ أبرم الأمر ولم يحضروه وقضي ولم يشهدوه (أي إعلان دولة العراق الإسلامية) فأقول إن وَجْدَ هؤلاء لا حرج فيه، وإن لم يغضبوا فذاك السبيل بسبب الأوضاع الأمنية الصعبة مما يُعسِّر الحركة والاتصال بين الإخوة”[13]، وأضاف: “ولو أن الإمارة لا تتم في مثل ذلك الحال إلا بعد مشاورة جميع من يعنيهم الأمر لما أقدم عمر على مبايعة أبي بكر دون استيفاء المشاورة”[14] فأسامة بن لادن هنا يجادل بأن إعلان دولة العراق الإسلامية جائز من الناحية الشرعية وإن لم يُستشر في ذلك بقية الجماعات الجهادية في العراق، وهو الموقف الفقهي نفسه الذي نقضه الظواهري بعد ظهور “تنظيم الدولة الإسلامية” وتمدده. بل إن أيمن الظواهري دافع عن شرعية إعلان دولة العراق الإسلامية في 2006 دون استشارة أهل الشأن من وجهاء الناس وأعيانهم بالقول: “إن إقامة الإمارة أو الدولة الإسلامية فريضةٌ شرعيةٌ وضرورةٌ واقعيةٌ، ولا يمكن تأخيرها لعدم توافر الظروف المثلى لاختيار الحاكم”[15].

من بين المسائل التي ناقشها أيمن الظواهري عندما رد على تنظيم الدولة الإسلامية مسألة “إمارة الاستيلاء والتغلب” حيت بين عدم جوازها وأن التغلب لا يمنح الشرعية لأحد لأن إمارة التغلب و “الاستيلاء تقودنا لمستنقع من الدم تضيع فيه دماء خيار الأمة من المجاهدين والصالحين، وتشعل فتنا يسر بها أعداء الإسلام”[16]. وسنجد أن القيادي في القاعدة عطية الله الليبي كان قد استند على مسألة التغلب ليثبت وجوب بيعة دولة العراق الإسلامية المعلنة عام 2006 فقال: “حصول الغلبة بالقوة المادية العسكرية والسياسية والاجتماعية والعصبية بحيث يخضع لها أكثر الناس في القطر والإقليم، يلزم الباقين الخضوع لها شرعا، والدخول تحث سلطانها (أي دولة العراق الإسلامية) ويحرم عليهم الخروج عنها”[17].

إذن، يبدو واضحا كيف أثر ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في بنية الفكر الجهادي، ودفع بالمرجعيات الجهادية إلى الانخراط في مراجعات فقهية وفكرية أعادت تأصيل بعض المفاهيم، واستدخلت أخرى إلى صميم الخطاب الجهادي. ويمكن رصد بعض ملامح الخطاب الجهادي الجديد في مئات المقالات والكتب والنشرات والإصدارات التي كتبها الجهاديون ردا على تنظيم الدولة الإسلامية.


[1] أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية ص 846 (نسخة إلكترونية)

[2] أبو قتادة الفلسطيني، ثياب الخليفة، ص23 (نسخة إلكترونية)

[3] المصدر السابق 21

[4] المصدر السابق ص 15

[5] المصدر السابق ص 17

[6] بيان جماعة قاعدة الجهاد بشأن العلاقة مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، 3/2/2014 https://up.top4top.net/downloadf-714zfegq1-pdf.html

[7] أيمن الظواهري، الربيع الإسلامي الحلقة الثانية، 10/4/2015 https://archive.org/details/risalaaa-2

[8] أيمن الظواهري، الربيع الإسلامي الحلقة الثالثة، 12/4/2015 https://archive.org/details/selsila-3

[9] المصدر السابق

[10] أيمن الظواهري، الربيع الإسلامي الحلقة الرابعة، 6/10/2015 https://archive.org/details/rabeu4

[11] المصدر السابق

[12] أيمن الظواهري، الربيع الإسلامي الحلقة الثالثة، 12/4/2015 https://archive.org/details/selsila-3

[13] أسامة بن لادن، السبيل لإحباط المؤامرات، 20/12/2007 http://www.ilmway.com/site/maqdis/xyz/vid/audio/5242.zip

[14] المصدر نفسه

[15] مؤسسة السحاب، اللقاء المفتوح مع أيمن الظواهري، 4/4/2008 http://www.ilmway.com/site/maqdis/MS_19720.html

[16] أيمن الظواهري، الربيع الإسلامي، الحلقة الرابعة، 6/10/2015 https://archive.org/details/rabeu4

[17] عطية الله الليبي، كلمات في نصرة دولة العراق الإسلامية، الأعمال الكاملة، جمع وترتيب الزبير الغزي، ص515 (نسخة إلكترونية)

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية