الوصول السريع للمحتويات

تحولات الخطاب السياسي لدى الجماعات الإسلامية المسلحة (2)

الخطاب السياسي الجهادي.. تجليات التحول

يمكن لأي متابع ومطلع على أدبيات التيار الجهادي ملاحظة التحولات التي طرأت على خطابه خلال السنوات الست الماضية، حتى أنه في بعض الأحيان يمكن أن يعاين تضاربا في مواقف بعض مرجعيات التيار قبل وبعد الربيع العربي وظهور تنظيم الدولة الإسلامية. هذه الدينامية هي التي حفظت للتيار الجهادي وجوده وزخمه في وقت انحسرت فيه الخطابات الإسلامية الأخرى وظل صوت مرجعياته مسموعا ومؤثرا حتى اللحظة.

الخطاب الجهادي قبل وبعد الربيع العربي:

تفاجأ التيار الجهادي بالربيع العربي كما غيره من التيارات والحركات، واكتشف بعد سقوط عدد من الأنظمة في ليبيا واليمن ومصر وتونس أن أدبياته التي تركز على النقض والهدم؛ لا تسعفه في التعامل مع الأوضاع الجديدة لاسيما مع الفراغ في السلطة، ومركزية الجماهير وأجواء الحرية السائدة، فتوصل إلى صيغة يجمع بها بين عمقه الجهادي وطموحه في الامتداد الشعبي والتوغل بين الجماهير، وهي التي عبرت عنها ظاهرة “أنصار الشريعة” التي تم تدشينها في اليمن مع بداية الحراك الثوري في 2011 وامتدت فيما بعد إلى تونس وليبيا ومصر، “لقد غاب أنصار الشريعة عن الواجهة سنوات طويلة بسبب الحرب التي شنتها عليهم هذه الأنظمة المحاربة لشرع الله .. لكنهم اليوم بإمكانهم أن يعودوا إلى ميادين العمل في أكثر من بلد”[1].

انخرطت جماعات أنصار الشريعة في الأنشطة الدعوية والخدمية والإغاثية في البلدان التي تأسست فيها، وهي أقرب إلى حزب سياسي جهادي يسعى لاستقطاب الأفراد والكيانات المجتمعية الأخرى حتى وإن لم يتقاسم معها نفس القناعات شرط أن يكون تطبيق الشريعة هدفها النهائي[2].

كان لافتا احتفاء قادة التيار الجهادي في خطاباتهم بالشعوب العربية أثناء الربيع العربي وتثمينهم لتضحياتهم، ولا يكاد أي منهم ينشر كلمة إلا وتطرق فيها لمواضيع “العدل” و”الشورى” و”الحرية” مسايرة لما هو سائد وحتى لا يظهر الجهاديون كنشاز في سياق الربيع العربي، فقد كشفت وثيقة من وثائق أبوت اباد أن أيمن الظواهري بعث خطابه “رسالة الأمل والبشر لأهلنا في مصر الحلقة 4” إلى القائد عطية الله الليبي قصد التصحيح والمراجعة قبل نشره في الإعلام وكان مما استدركه عليه أن لا يستخدم مفردات توحي بالتبجح واحتكار الإنجاز وأن يستبدلها بأخرى تدل على المشاركة والمساهمة وتظافر جهود الأمة[3].

واكب أيمن الظواهري تطورت الربيع العربي وأحداثه عن كتب فأصدر سلسلة من الخطابات منها 11 خطابا مطولا وجههم إلى ثوار مصر بعنوان “رسالة الأمل والبشر لأهلنا في مصر” وتضمنت ملامح خطاب سياسي معتدل كان سببا في تكفيره لاحقا من قبل “تنظيم الدولة الإسلامية”، ويمكن رصد ملامح هذا الخطاب في قوله مثلا: “تحيّةٌ لكل هؤلاء الشرفاء الأوفياء الصادقين، وأسأل اللهَ أن يرحم شهداءهم.. وأن يمنحهم القوة والثبات والبصيرة والوعي حتى يواصلوا نضالهم وكِفاحهم وجهادهم لكي يحقِّقوا أمل الأمّة المسلمة بقيام دولةٍ مسلمةٍ حرّة في بلاد الإسلام تحكم بالشريعة، وتنشر العدل، وتبسط الشورى، وتحرِّر ديار المسلمين وتُقيم حكمًا شوريًّا تختار الأمّة فيه حكّامها بلا قهرٍ ولا غِشٍّ ولا تزوير”[4] ويضيف: “على أهل تونس الشرفاء أن يُقيموا حكمًا يكون قدوةً لإخوانهم في الشورى والعدل، ومحاسبة الحكام، وملاحقة اللصوص، وسد منافذ الإثراء الحرام، والعدالة في توزيع ثروة الأمّة على أبنائها[5] ورأى أن حل الأزمة في مصر يكمن في “استئصال النظام الفاسد وأن يقوم مكانه نظام صالح عادل يتحاكم للشريعة وينشر الشورى ويبسط العدل ويحقق مشاركة الأمة في اختيار حكامها ومحاسبتهم ومشاركتها الفعالة في سياسة أمورها عبر مندوبيها”[6] وستتخلل عبارات “الشورى“ و”العدل” و “اختيار الأمة لحكامها” خطابات أيمن الظواهري على مدار الفترة التي أعقبت الربيع العربي وستتأصل أكثر في خطاباته بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية كما سنرى.

في الحلقة الخامسة من “رسالة الأمل والبشر لأهلنا في مصر” حث أيمن الظواهري من وصفهم بالشعبين الكريمين في مصر وتونس على مواصلة “النضال والكفاح والجهاد والإصرار على القضاء على الفساد وإقامة النظام العادل، الذي يحكم بالشريعة، وينشر العدل، ويبسط الشورى، ويحقق استقلال البلاد والحرية السياسية والعدالة الاجتماعية”[7] وهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها منظر جهادي عن “الحرية السياسية”، ثم استطرد الظواهري متحدثا عن النظام السياسي المنشود الذي لن يسمح الغرب بقيامه في البلدان العربية وهو حين “يكون النظام إسلامياً شورياً، يكتسب الحكام فيه صلاحياتهم من الأمة، ويحاسبون أمامها، ويرفض احتلال ديار المسلمين وسرقة ثرواتهم”[8] ويبدو واضحا كيف يحتفي الخطاب الجهادي بالشعوب العربية ويربط شرعية أي نظام سياسي قد يحل محل الأنظمة البائدة بمدى تعبيره عن إرادتها ونيله لرضاها، وهذا التوجه لم يكن حاضرا من قبل في أدبيات التيار الجهادي.

وفي خضم معركة الدستور في مصر والجدل حول المادة الثانية أكد الظواهري على ضرورة “الإصلاح القضائي والتشريعي” عبر “تعديل المادة الثانية من الدستور، بحيث تنصّ على أنّ أحكام الشريعة الإسلاميّة هي مصدر التشريع”[9] وفي السياق الليبي تحدث القيادي في تنظيم القاعدة عطية الله الليبي عن قضية الدستور فقال:” أدعو أي وضع جديد في ليبيا إلى أن ينص دستور البلد بشكل واضح على الالتزام بدين الله الإسلام وأن شريعة الإسلام هي مصدر التشريع”[10]، ومعروف أن التيار الجهادي يرفض الإصلاحات الدستورية وتعديلها، ويعتبرها معارك هامشية تستنزف الحركة الإسلامية على حساب المعركة الأهم ضد “الصهيونية والصليبية العالمية” كما تبين هذه الفقرة لأيمن الظواهري والتي كتبها قبل الربيع العربي: “إن الإخوان يطالبون الآن بالإصلاح، ولكنهم وللأسف يقصرونه على تغيير بعض المواد التفصيلية في الدستور العلماني، دون التعرض لداء الأمة الحقيقي المتمثل في الحملة الصليبية اليهودية على الإسلام والمسلمين التي احتلت قطعاً عزيزة من أراضي المسلمين، والمتمثل في العملاء الحاكمين لديارنا الذين سخرونا ومقدساتنا وثرواتنا لخدمة الصليبيين واليهود”[11] غير أن الظواهري في إحدى رسائله إبان الربيع العربي أشار إلى الإصلاح الدستوري كوسيلة لمواجهة المخططات الأمريكية حيث قال: “إنّ أول خطوةٍ في إفشال المخطط الأمريكي وفي إقامة النظام السياسي النزيه هو الإصلاح التشريعي، وأول خطوةٍ فيه أن يُنص على أن تكون الشريعة هي مصدر التشريع ويبطل كل ما يخالفها من مواد الدستور والقانون”[12]

إذن، طرأت تحولات في الخطاب السياسي الجهادي وساهم الربيع العربي في بلورة بعضا من ملامحها، صحيح أنها تحولات لم تمس جوهر الفكر وأفكاره الكبرى حيث ظل أيمن الظواهري وغيره من قيادات ومنظري التيار الجهادي يُلحون على قضية “حاكمية الشريعة“ و”دفع الصائل” ورفضوا الاعتراف بالأوضاع والأنظمة التي أفرزها الربيع العربي كالنظام في تونس والمجلس العسكري في مصر، لكنهم تعاطوا بإيجابية مع نظام محمد مرسي، وحكومة الإنقاذ الليبية.


[1] أبو المنذر الشنقيطي، نحن أنصار الشريعة ص 6 (نسخة إلكترونية)

[2] حسن أبو هنية، ظاهرة أنصار الشريعة من الكمون إلى التكيف، 3/3/2014 http://arabi21.com/story/732107/%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A9-%D8%A3%D9%86%D8%B5%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%85%D9%88%D9%86

[3] وثائق أبو أباد، الوثيقة رقم SOCOM-2102-1111100

[4] أيمن الظواهري، رسالة الأمل والبشر لأهلنا في مصر الحلقة الثالثة، 28/2/2011 https://archive.org/details/Terrorism-27

[5] المصدر السابق

[6] أيمن الظواهري، رسالة الأمل والبشر لأهلنا في مصر الحلقة الرابعة، 4/3/2011 https://archive.org/details/Terrorism-28

[7] أيمن الظواهري، رسالة الأمل والبشر لأهلنا في مصر الحلقة الخامسة، 16/4/2011 https://archive.org/details/MASEER-1

[8] المصدر السابق

[9] أيمن الظواهري، رسالة الأمل والبشر لأهلنا في مصر الحلقة السادسة، 15/5/2011 https://archive.org/details/amal_w_becher

[10] عطية الله الليبي، تحية لأهلنا في ليبيا، 15/2/2011 https://archive.org/details/Terrorism-34

[11] أيمن الظواهري، الحصاد المر، الطبعة الثانية ص20 (نسخة إلكترونية)

[12] أيمن الظواهري، رسالة الامل والبشر لأهلنا في مصر الحلقة السابعة،12/10/2011 https://archive.org/details/amal_w_becher#

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية