عبد الغني مزوز—
أثار آخر ظهور لأيمن الظواهري قائد تنظيم القاعدة الكثير من الجدل، واستدعى التكهنات حول الطابع الذي ستأخذه العلاقة بين تنظيمه وبين حركة طالبان التي آل إليها حكم أفغانستان بعد دخولها العاصمة كابل في 15 من أغسطس/آب الماضي. فقد نشرت مؤسسة السحاب تسجيلا مرئيا للظواهري في23 من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي هاجم فيه الأمم المتحدة، باعتبارها “منظمة أنشئت لتسيطر على العالم ولتفرض عليه عقيدة لا دينية ولا أخلاقية تتناقض مع الشريعة” حسب تعبيره، وأضاف في الخطاب الذي حمل عنوان “نصيحة الأمة بحقيقة الأمم المتحدة” أن ” الموقع على ميثاق الأمم المتحدة قد ارتضى أن يوحد جهوده مع الكفار لتحقيق هذه الأغراض المصادمة لأحكام الشريعة الإسلامية”. ولا شك أن المعني الأول بخطاب الظواهري هم حلفائه من حركة الطالبان، التي بدلت جهودا حثيثة لاستدار الاعتراف الدولي بحكومتها الجديدة، والدخول تحت مظلة الأمم المتحدة، واصلة بذلك ما انقطع من جهودها السابقة قبل سقوط نظامها عقب الاجتياح الأمريكي لأفغانستان في 2001.
انطوت كلمة الظواهري سواء في توقيتها ومضمونها على كثير من الدلالات والإشارات التي لم ينتبه إليها الكثير من المراقبين.
انطوت كلمة الظواهري سواء في توقيتها ومضمونها على كثير من الدلالات والإشارات التي لم ينتبه إليها الكثير من المراقبين. اعتبرها البعض دليلا على أن أيمن الظواهري مازال على قيد الحياة، وأنه عاد إلى مزاولة نشاطه القيادي، والنظر في ملفات تنظيمه العالقة مثل تفكك فرعه في سوريا، والتصدعات التي أصابت الفرع اليمني. وذلك بعد فترة غياب؛ رشحت أخبار شبه موثوقة أنها ناتجة عن وعكة صحية ألمت به. لكن الذي ينبغي الانتباه له أن ظهوره المرئي الأخير ربما لم يكن دليلا كافيا على عودة الظواهري إلى مسؤولياته. لأن الخطاب خال تماما من أي إشارة إلى انتصار حركة طالبان، فلم يبارك لها دخول كابل، وانسحاب القوات الأجنبية، ولم يعلق على الأحداث والتطورات الكثيرة التي تزامنت مع ذلك، وهو ما يخالف المألوف من خطاباته وخطابات غيره من قادة الجماعات الجهادية. وبالتالي نرجح أن يكون الظواهري سجل كلمته قبل السيطرة الكاملة لطالبان على أفغانستان وعقب توقيعها اتفاق السلام مع الولايات المتحدة. ورغم ذلك فإن نشر مؤسسة السحاب للخطاب في هذا التوقيت يعني أن الظواهري ليس مرتاحا للمسار السياسي الذي اختارته “الإمارة الإسلامية” في طورها الثاني، تحيلنا هذه الملاحظة على تضارب واضح في مواقف القيادة العامة للقاعدة إزاء ما يجري.
الكمون والتفويض
بعد سقوط العاصمة كابل على يد مقاتلي حركة طالبان الصيف الماضي، واكتمال سيطرة الحركة على كل أرجاء البلاد، أصدرت في حينه جميع التنظيمات الجهادية بيانات تهنئة وتأييد للحركة، بما فيها جميع أفرع تنظيم القاعدة، بينما تأخر بيان القيادة العامة بضعة أيام، وقد تكون الإكراهات الأمنية سببا في ذلك، أو اختلافا بين المعنيين في صياغة البيان. جاء البيان حاسما في دعم حركة طالبان، وتضمن عبارات لا تقبل اللبس والتأويل في تأييد كل توجهات الحركة واختياراتها، ودعا الشعب الأفغاني إلى” الإلزام بما يصدر عنها من قرارات وعهود وسياسة شرعية وعدم الافتئات عليها “، والافتئات مفهوم شرعي فيه الحث على طاعة قرارات وأوامر السلطة السياسية القائمة، وعدم إقامة سلطة موازية يصدر عنها ما يخالفها. ودعوة البيان إلى الالتزام “بعهود الحركة وسياستها الشرعية”، يريد به كاتبوا البيان -قطعا- وجوب الالتزام بما وقعته الحركة من اتفاقيات مع الجهات والقوى الدولية المختلفة، واحترام ما اختارته من “سياسة شرعية”. لكن أليس في خطاب أيمن الظواهري الأخير نوع من الافتئات على اختيارات طالبان، واحتجاج مضمر على “سياستها الشرعية”. كيف يمكن التوفيق بين بيان القيادة العامة الصارم في دعوته إلى احترام قرارات الحركة مشفعا ذلك بالآية الكريمة ” يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” وبين تحذير الظواهري من دخول الأمم المتحدة واعتباره ذلك مناطا من مناطات الكفر والخروج عن الدين. هل للأمر علاقة باستراتيجية “الكمون والتفويض” التي نهجها الظواهري في تدبير شؤون القاعدة؟ وكانت سببا في بعض الأزمات التي حاقت بالقاعدة.
اتبع أيمن الظواهري استراتيجية أمنية تقضي بكمونه لفترات طويلة، يقطع فيها صلته بالعالم الخارجي، مع تفويض نوابه ومستخلفيه لإدارة شؤون القاعدة، حتى يتسنى له مجددا مباشرة مهامه في ظروف أمنية أفضل
اتبع أيمن الظواهري استراتيجية أمنية تقضي بكمونه لفترات طويلة، يقطع فيها صلته بالعالم الخارجي، مع تفويض نوابه ومستخلفيه لإدارة شؤون القاعدة، حتى يتسنى له مجددا مباشرة مهامه في ظروف أمنية أفضل. لكن يحدث في كثير من الحالات أن يتخذ نوابه قرارات لم يكن ليتخذها لو كان مزاولا لمهامه. فيكون مضطرا بعد ذلك لإلغائها، فعلى سبيل المثال وافق نائبه السابق أبو الخير المصري على قرار فك ارتباط جبهة النصرة بتنظيم القاعدة، وخرج في تسجيل صوتي يعلن فيه قبول ومباركة القيادة العامة له. لكن خرج أيمن الظواهري بعد ذلك مستدركا على نائبه ومعلنا رفض القرار وتثبيت البيعة بين القاعدة وجبهة النصرة، الأمر الذي خلق أزمة داخل التيار الجهادي لم تنته تداعياتها حتى الآن. ولا يستبعد أن يكون خطاب أيمن الظواهري حول الأمم المتحدة استدراكا منه على قرار نوابه ممن صاغوا بيان التأييد غير المشروط لطالبان، والذين دعوا إلى عدم الافتئات على الحركة ووجوب الالتزام بعهودها وسياستها الشرعية. خصوصا وأن الظواهري بايع قادة طالبان بعد مؤسسها الملا محمد عمر بيعة مشروطة.
هل أزفت لحظة القطيعة
ثمة الآن موقفين صدرا من القاعدة؛ موقف التأييد التام من القيادة العامة والمثبت في بيان التهنئة لطالبان، وخطاب أيمن الظواهري وإن سجل قبل دخول طالبان للعاصمة كابل؛ والذي يُستشف منه الحذر والتوجس من “السياسة الشرعية لطالبان” خاصة في جانب سعيها الدؤوب لاستجلاب الاعتراف الدولي بها، والحصول على العضوية في الأمم المتحدة كدولة مستقلة ذات سيادة. ويبدو أن الأردني أبا محمد المقدسي المنظر الجهادي المعروف فطن إلى شيطان التفاصيل، فاستبق استشراء الخلاف داخل التيار الجهادي المحسوب على القاعدة وحرر مجموعة من الفتاوى والمواقف الشرعية شدد فيها على دعم طالبان في توجهاتها ملتمسا الأعذار والمخارج لبعض تصريحاتها المخالفة لقناعات الجهاديين. ولا أعتقد أن الخلاف بين القاعدة وحركة طالبان سيصل إلى مستوى القطيعة فضلا عن الصراع، أولا: لأن الخلاف القائم الآن بخصوص انضمام الحركة إلى الأمم المتحدة ليس وليد اللحظة، بل هو خلاف قديم بدأ في الشهور الأولى لدخول طالبان العاصمة كابل في 1996، ووقفت القاعدة حينها إلى جانب الحركة في وجه الشخصيات والجماعات الجهادية التي عارضت ذلك، وخصص أبو مصعب السوري حيزا في كتاباته ومحاضراته للدفاع عن طالبان، وبين أن سعيها للدخول تحت مظلة الأمم المتحدة لا يعني خروجها عن الدين. ثانيا: لأن أفغانستان لم تعد مجالات حيويا للقاعدة بنفس الدرجة من الأهمية التي كانت عليها قبل عقود. بل يمكن القول إن مهمة القاعدة في أفغانستان قد انتهت بخروج القوات الأجنبية منه، لقد خطط أسامة بن لادن لضرب الولايات المتحدة في 11 من سبتمبر/ أيلول 2001 بهدف استدراجها إلى أفغانستان وخوض نزال مباشر معها، لأنه تصور أن الهزيمة العسكرية لها ستؤدي إلى تفككها وانحسار نفوذها كما حدث للاتحاد السوفياتي. وقد نجحت خطة القاعدة في استدراج الولايات المتحدة وإلحاق الهزيمة بها في أفغانستان، وصعود قوى دولية منافسة لها في المسرح العالمي. ثالثا: لم يصدر حتى الآن عن مختلف المستويات القيادية لحركة طالبان أي تصريح ضد القاعدة، ما يعني أن ثمة اتفاقا ولو ضمنيا بينهما على مراعاة “الود” السابق بينها، وعدم إثارة نوزع الخلاف.
مستقبل القاعدة في أفغانستان
لقد تحول اهتمام تنظيم القاعدة إلى ساحات أخرى في العالم، خصوصا في ظل المنافسة الشرسة مع غريمه تنظيم الدولة الإسلامية. ولعل قيامها منذ عسكرة الربيع العربي بإرسال كوادرها إلى مختلف الساحات الملتهبة دليل على تحول في أولوياتها الاستراتيجية. لقد توافد كبار قادة القاعدة على سوريا منذ 2013 وعلى اليمن وليبيا وغيرها، رهانها الآن في إيجاد موطئ قدم في المناطق التي تعرف فراغا في السلطة، أو تلك المرشحة لتكون كذلك في المستقبل القريب، خصوصا تلك التي استعصت فيها الحلول السياسية وبلغ فيها الانقسام الاجتماعي والسياسي ذروته. هذا فضلا عن أزمات تعيشها بعض فروع القاعدة وتتطلب الإسراع في التعامل معها، مثل الفرع اليمني الذي يعيش أزمة عاصفة تمثلت في انشقاق قيادات عنه على خلفية الحملة الأمنية التي أطلقها التنظيم هناك ضد من سماهم بالجواسيس، وتسببت في إعدام قيادات جهادية بتهمة التجسس. إضافة إلى مشكلة تنظيم حراس الدين في سوريا الذي يعاني من العزلة والتفكك بسبب رفضه الدخول في مشاريع التوحد التي اقترحتها هيئة تحرير الشام، وعدم اعترافه بمنظومة الحكم التي تسير شؤون الشمال السوري المحرر. دون أن ننسى الإشارة الى منطقة الساحل والصحراء التي اشتد فيها الصراع والتنافس بين القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، وبات هم القاعدة هناك تحصين معاقلها من أطماع تنظيم الدولة، وترسيخ ارتباطها بالقبائل والمجتمعات المحلية.
أفغانستان أو خراسان باتت بعدا هوياتيا في الخطاب الجهادي، العمامة واللباس الأفغاني تحول من تقليد محلي إلى نسق سيميولوجي يحيل على فكرة الجهاد والمقاومة
رغم ذلك، ستبقى لأفغانستان أهميتها في الخطاب الجهادي للقاعدة، ليس فقط لأن عددا من قياداتها البارزة ماتزال عالقة هناك، بل لأن أفغانستان أو خراسان باتت بعدا هوياتيا في الخطاب الجهادي، العمامة واللباس الأفغاني تحول من تقليد محلي إلى نسق سيميولوجي يحيل على فكرة الجهاد والمقاومة، ويمارس تأثيره على وجدان الجهاديين وخيالهم. وتجادل القاعدة عبر أنصارها على منصات التواصل الاجتماعي أنها وإن كانت سببا في احتلال أفغانستان قبل عشرين عاما، فإنها أيضا من أسباب تحريره، نظرا لمساهمتها العسكرية على مدار سنوات الحرب، وإذا كان لتكتيك الانتحاريين وتكتيك العبوات الناسفة دورهما المحوري في كسب طالبان للحرب فإن القاعدة هي من أدخلت هذين التكتيكين إلى أفغانستان، ووظفتهما في المعارك ضد قوات الناتو.