الوصول السريع للمحتويات

شرعيو داعش.. من الاحتجاج إلى الانشقاق

إلى جانب سلطة “الحجاجي” التي تحكمت في تنظيم الدولة، انتصب المفصل الشرعي داخل التنظيم المتمثل في “مكتب البحوث والدراسات” أو ما يعرف أيضا بتيار البنعلي والقحطاني كتنظيم موازي يتحين الفرص للإعلان عن نفسه كبديل لما يرونه “الخرافة الساقطة”.

بدأ ما يسمى بـ “حراك طلبة العلم” داخل تنظيم الدولة مبكرا وإن كانت صيغه الأولى لا تتعدى النصائح الودية التي يرسلها رموز تيار البنعلي والقحطاني إلى قادة التنظيم أو تحرير بعض الردود العلمية أو إبداء التحفظ على بعض الأحداث والمواقف في المجالس الخاصة. لكن كل هذا يتم مع الإقرار بشرعية ووجوب البيعة للتنظيم والعمل تحت مظلته. بعد صدور البيان الأول عن المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية بدأت لهجة هؤلاء الشرعيين في التبدل وصاروا يجهرون بالمخالفات الشرعية التي يعتقدون أن التنظيم واقع فيها، ويكتبون في ذلك الردود المطولة. وإلى هذه المرحلة مازال هؤلاء الشرعيون يرون أن الانحراف الحاصل في التنظيم محصور في بعض المفاصل وسببه عدم إحاطة البغدادي بحقيقة كل ما يجري. لكن بعد صدور تعميم “ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة” عن اللجنة المفوضة، أخذت مواقف تيار البنعلي والقحطاني منعطفا جديدا حيث بدأ شرعيو التيار باستخدام لغة حادة وتصعيدية ضد قيادات التنظيم. فوصف أبو بكر القحطاني أعضاء اللجنة المفوضة ” بالرعاع والجهال وسفلة القوم”، واستنكر البنعلي من جانبه صدور ذلك النوع من البيانات المليء بالمخالفات الشرعية والأخطاء الإملائية عن نائب الإمام ويقصد أبي زيد العراقي. كما وصف أبو عبد البر الكويتي مضمون البيان بأنه “ركيك ولم يقرره أهل السنة في مصنفاتهم”[1].

بعد إلغاء تعميم “ليهلك من هلك عن بينة” بدا أن تيار البنعلي والقحطاني استطاع أخيرا فرض مواقفه الشرعية كعقيدة رسمية للتنظيم، خصوصا بعد الشروع في بث السلسلة المنهجية التي كتبها أبو محمد المصري عبر إذاعة البيان. غير أن هذه السيطرة لتيار البنعلي والقحطاني لم تدم طويلا إذ سرعان ما تم إبعاد رموزه عن دائرة التأثير من جديد، ومنع باقي حلقات السلسلة المنهجية من البث، ومطاردة الشرعيين واعتقال العشرات منهم، والحكم على بعضهم بالإعدام. لأن برنامجهم التصحيحي لم يقتصر على إعادة تأصيل المسائل العقدية المثيرة للجدل، وإنما أرادوا إخضاع منظومة الحكم برمتها إلى رقابتهم الشرعية، تزامنت الحملة على تيار البنعلي والقحطاني مع حدة القصف الجوي من قوات التحالف الدولي على معاقل التنظيم، فأدت غارات جوية على سجون التنظيم إلى مقتل عدد كبير من الشرعيين المعتقلين كان من بينهم كل من أبي محمد المصري وأبي مصعب الصحراوي وأبي أسامة الغريب وأبي حفص الهمداني وغيرهم.

انتقل احتجاج طلبة العلم بعد إلغاء السلسلة المنهجية إلى مرحلة جديدة عنوانها الرئيسي سحب الشرعية الدينية عن تنظيم الدولة، والتأصيل لحرمة الانضمام إليه ونقض بيعة البغدادي. تجلى هذا التحول في عشرات المقالات والدراسات الشرعية التي نشرها شرعيو التيار، والتي لم تعد تسعى إلى الإصلاح أو المناصحة، وإنما إلى الإطاحة بقيادة التنظيم أو تأسيس تنظيم بديل. يمكن ملاحظة هذا التحول في خطاب “تيار البنعلي والقحطاني” في الرسالتين المشهورتين لأبي محمد الهاشمي القيادي البارز في التيار، فالأولى سماها “النصيحة الهاشمية لأمير الدولة الإسلامية” والثانية سماها “كفوا الأيادي عن بيعة البغدادي”، الأولى كانت تتوخى النقد والإصلاح والثانية النقض والتغيير.

كان وضاحا من كتابات “تيار البنعلي والقحطاني” أنهم أدركوا أخيرا أن المتحكم في تنظيم الدولة هم مجموعة من الرجال المتنفذين، ولم يكن البغدادي سوى أمير شرفي بصلاحيات محدودة و”خليفة وهمي صوري”[2]. لذلك كان هجومهم مركزا أكثر على تلك المجموعة من الرجال التي توصف في مقالاتهم ومداولاتهم بـ ” حجاج السوء”[3] أو ” آل بغداد” أو “أجلاف العراق[4]“. وعلى الجهاز الأمني الذي يسيطرون عليه أي “ديوان الأمن العام” فوصفوه “بالجستابو”[5] و “كلاب ديوان الأمن الذين يلاحقون المجاهدين[6]” و “الدولة العميقة التي تتحكم بكل شيء”[7] ونشروا شهادات ومقالات تفضح ما يرتكبه من تعذيب واغتصاب وقتل جماعي وتحرش.[8]

 لقد بلغ الصراع والانقسام ذروته فتم وصف البغدادي بـ “أحيمق القوم وخليفة العار”[9] ووصف أبو عيسى المصري التنظيم بالخوارج الأزارقة.[10] وبـ ” مملكة آل بغداد الزائلة”[11]. ووجه أبو محمد الهاشمي خطابا إلى أتباع التيار قائلا:” واعلموا أن جهادكم للطاغية ابن عواد وحزبه الظلمة الفجرة من أعظم القربات”.[12] وكتب الشرعي المعروف في أوساط تيار البنعلي “بمقتفي الأثر” مقالا وصف فيه البغدادي: “بالخليفة الكرتوني المتسردب”.[13] وتم وصف تنظيم الدولة في كثير من مقالات الشرعيين المنشقين ” بالتنظيم الأجوف” و”وصنم العجوة” و”الخلافة الوهمية” و” الرعية الرقمية” و”دولة الإجرام” و”التنظيم الأخرق” وغيرها.

إلى جانب هذا النشاط النظري المكثف لشرعيي تيار البنعلي والقحطاني فإن لهم أيضا أفكارا حول ماهية التنظيم الذي ينبغي أن يكون بديلا لتنظيم الدولة. ويعتقدون أنه يجب أن يكون جماعة جديدة تسير “على خطى أسامة بن لادن”[14]. ووجه أبو محمد الهاشمي في هذا السياق خطابا إلى بقايا جنود وعناصر تنظيم الدولة قائلا:” سارعوا إلى خلع ابن عواد وحاشيته وذلك بالسيطرة على مخازن السلاح والطعام وإحكام الأمر مع دقة تنظيم وترتيب ورباطة جأش وثبات قلب.. وبايعوا رجلا تجتمع عليه كلمتكم وإن لم يكن قرشيا فإنها بيعة إمارة لا بيعة خلافة عامة”.[15] ومن المعروف أن أغلب أتباع هذا التيار يختبؤون في تركيا وفي مدينة إدلب السورية، ولإن كانت المقاربة الأمنية الصارمة التي تعتمدها هيئة تحرير الشام اتجاه فلول تنظيم الدولة قد حالت دون ظهور أي نشاط علني لهم، فإن ذلك لا يعني أنهم لا يتحينون الفرص للإعلان عن أنفسهم في صيغة جماعة منظمة. لذلك فإن أي فوضى أو اجتياح لمدينة إدلب سيكون فرصة مثالية للإعلان عن وجودهم. ولقد اعتبروا عملية قصف سجن إدلب المركزي وفرار عشرات الموقوفين من عناصر تنظيم الدولة عاملا إيجابيا بالنسبة لمشروعهم المرتقب.[16]  

استطاع “تيار البنعلي والقحطاني” الحفاظ على وجوده في خضم الحملات الأمنية التي تعرض لها من طرف “ديوان الأمن العام”. كما لم يتأثر بحل المؤسسات التي كان يتخذها معقلا له مثل “ديوان البحوث والإفتاء” ثم” مكتب البحوث والدراسات”، ولا بانهيار وهزيمة تنظيم الدولة وذلك بفضل مجموعة من العوامل والإجراءات التي اتبعها رموز وقادة هذا التيار منها:

  • الالتفاف حول رموز وزعامات التيار والولاء لها كأبي بكر القحطاني وتركي البنعلي وأبي عبد الرحمن الزرقاوي وأبي عبد البر الكويتي وأبي محمد المصري وبعد مقتلهم تصدرت قيادات جديدة الواجهة مثل أبو محمد الهاشمي وأبو عيسى المصري.
  • تقع القضايا العقدية المثيرة للخلاف داخل تنظيم الدولة في صلب اهتمام وتخصص رموز هذا التيار، لذلك دائما ما ينظر هؤلاء الرموز إلى نشاطهم باعتباره فريضة مقدسة يمليها عليهم واجب الحفاظ على “صفاء العقيدة” و”حماية جناب التوحيد”.
  • عندما قام تنظيم الدولة بحل “ديوان البحوث والإفتاء” ثم “مكتب البحوث والدراسات” استحدث الشرعيون مؤسسة بديلة لتأطير نشاطهم وهي “المجلس العلمي”. وعندما قام التنظيم بوقف بث السلسلة المنهجية، وحرمان أتباع التيار من استعمال الإعلام الرسمي، أنشأ التيار مؤسساته ومنابره الإعلامية الموازية التي أخذت على عاتقها نشر مواد الشرعيين وإسماع صوتهم وهذه المؤسسات هي: “مؤسسة التراث العلمي” و”مؤسسة الوفاء” و”مؤسسة معارج” و”قناة النصيحة”. إضافة إلى مجموعة حوارية على تطبيق التيلغرام تحمل اسم “مجموعة النقد البناء بين أهل الإسلام” وهي مجموعة نشطة يتخذها أتباع التيار كفضاء للنقاش وتداول الأفكار والمواد الجديدة التي يصدرها الشرعيين.
  • حافظ التيار على أرشيفه كاملا واستطاع شرعيوه تهريبه معهم خارج مناطق سيطرة التنظيم، وقاموا لاحقا بإعداد وترتيب أجزاء منه ونشرها على الأنترنت[17]. بل قاموا أيضا بطبعها وإخراجها على شكل مجلدات ورقية فاخرة، ولا يعرف بالضبط أين وكيف تم طبعها وتوزيعها.

[1] رد أبي عبد البر الصالحي على اللجنة المفوضة، https://www.gulf-up.com/9rl9ipgtkw8c

[2] جابر اليماني، في ضيافة بن قترة، مؤسسة الوفاء، 2019

[3] ابن جبير، في ضيافة الفرار قاتل الأبرار، مؤسسة الوفاء 2019 ص:4

[4] ابن جبير، سقوط الخرافة، مؤسسة الوفاء 2019 ص:3

[5] أبو محمد الهاشمي، كفوا الايادي عن بيعة البغدادي، ص92

[6] أمة الرحمن المسلمة، التنظيم الأجوف، مؤسسة الوفاء 2019، ص:4

[7] أبو مصعب الصحراوي، إلى عقلاء أمن الدولة، مؤسسة الوفاء، 2019 ص: 1

[8] أبو عيسى المصري، الأمنيون في الميزان، مؤسسة التراث العلمي، 2019

[9] ابن جبير، في ضيافة الفرار قاتل الأبرار، مؤسسة الوفاء، 2019 ص: 4

[10] أبو عيسى المصري، مجزرة المستتابين، مؤسسة التراث العلمي، 2019 ص:7

[11] أبو عيسى المصري، الامنيون في الميزان، مؤسسة التراث العلمي، 2019

[12] أبو محمد الهاشمي، كفوا الأيادي عن بيعة البغدادي، ص: 66

[13] مقتفي الأثر، الكماشة في هتك أوهام أدعياء الخلافة، مؤسسة الوفاء، 2019 ص:4

[14] أمجاد الأمة، جماعة على خطى الإمام أسامة بن لادن، مؤسسة الوفاء، 2019

[15] أبو محمد الهاشمي، كفوا الايادي عن بيعة البغدادي، ص: 218

[16] المصدر السابق ص:18

[17] نشرت على سبيل المثال مؤسسة التراث العلمي معظم فتاوى مكتب البحوث والدراسات في ستة مجلدات بعنوان” مجموع رسائل ومؤلفات مكتب البحوث والدراسات”.

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية