مرت فترة طويلة على تمرد ولاية خراسان على توجيهات القيادة المركزية لداعش في سوريا والعراق بشأن ملف الإعلام، ويبدو أن التنظيم رضخ أخيرا للأمر الواقع، وتعايش مع فشله في فرض سياسته الإعلامية ومواقفه الشرعية على واحد من أخطر فروعه وأكثرها دموية.
الثابت أن قيادة داعش غير راضية على خروج الفرع الخراساني عن سياسته الإعلامية الموحدة، وتشكيله منظومة إعلامية موازية، لكنها تدرك أيضا أن مسايرة عناد أمراء هذه الولاية “المارقة” أقل ضررا من الدخول في مسارات العزل والإبعاد وما ستفضي إليه من متاهات الانشقاق والصراعات الداخلية كما حدث في نيجيريا.
الإعلام الموحد
يعتبر ملف الإعلام من أهم الملفات لدى تنظيم داعش، وأكثرها تعقيدا وحساسية، لذلك حرصت منذ البداية على ضبطه وفق سياسية مركزية لا مجال فيها للإجتهاد أو الارتجال، وهذا ما عبر عنه أبو محمد العدناني بصفته ناطقا رسميا، ورئيسا للجنة العامة المشرفة في رسالة خاصة عممها على كافة دواوين وولايات التنظيم قائلا:” يُمنع الاجتهاد مطلقا في عمل أو نشر إصدارات مقروءة أو مسموعة أو مرئية باسم الدولة الإسلامية على شبكة الإنترنت”.
ولأن كل ولاية بعيدة تابعة لداعش لديها مكتبها الإعلامي المكلف بتوثيق العمليات، والبيعات، وتحرير الأخبار.. فقد أرسلت القيادة المركزية في سوريا والعراق وثيقة من 7 صفحات إلى مسؤولي المكاتب الإعلامية نظمت فيها عملهم، وبينت حدود صلاحياتهم، متوخية في ذلك أدق التفاصيل، وإن كانت تفاصيل تقنية بحتة مثل الألوان، والخطوط، وزوايا التصوير وغيرها.
وقد شددت الوثيقة على أن النشر يكون حصرا من صلاحيات “ديوان الإعلام المركزي” وأن لا يتم نشر أي مادة إلا بعد المصادقة عليها من ” لجنة المتابعة الإعلامية”، وأن وكالة أعماق وصحيفة النبأ وإذاعة البيان هي النوافذ الإعلامية الرسمية الوحيدة التي يجب أن تنشر كل ما يتعلق بأخبار التنظيم، وفرضت على المكاتب الإعلامية إرسال موادهم وخاماتهم إليها.
يمسك “ديوان الإعلام المركزي” بكل خيوط الترسانة الدعائية لداعش، ولا يقبل بأي خروج عن ” نصه” حتى إنه حظر على عناصر التنظيم فتح حسابات شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا إن كانت لأغراض شخصية، ومنع تواصلهم مع المنابر الإعلامية أو الإدلاء بتصريحات صحفية تحت أي ظرف.
ويبدو أن كل ولايات التنظيم قد امتثلت لتوجيهات الإعلام المركزي، باستثناء “ولاية خراسان” التي تمردت على أوامره، وأنشأت مؤسساتها الإعلامية المستقلة. ورغم التنبيهات التي جاءتها من قيادات داعش، إلا أنها لا تزال متمسكة بنهجها المستقل.
خارج السرب
دأبت بعض القنوات والصفحات التي ينشط فيها أنصار داعش على وصف سلوك ولاية خراسان على أنه “تغريد خارج السرب”. فقد أسست الولاية ترسانتها الدعاية الخاصة، تضم ناطقا رسميا، ومجلات، ومؤسسات للإنتاج المرئي، ووكالات إخبارية وغيرها.
أرسل أبو عبد الله الأسترالي أمير ديوان الإعلام توبيخا إلى ولاية خراسان، في رسالة شدد فيها على ضرورة الامتثال لتوجيهات الديوان ومستنكرا “نشر صور وفيديوهات دون الرجوع للإعلام المركزي لدولة الخلافة”. ونبه إلى أن ” الإعلام المركزي يسعى إلى توحيد لغة الخطاب بمراقبة الإنتاج، والإشراف عليه، ومراجعته قبل نشره، سواء كان خبرا أو صورة أو فيديو أو إصدار أو كلمة صوتية”.
وخاطب قادة ولاية خراسان بالقول:” نوصيكم أن تلزموا الإخوة الإعلاميين بالسير وفق السياسة التي رسمها ديوان الإعلام، وعدم الاجتهاد في نشر أي مادة من داخل سلطان الخلافة في خراسان، دون مراجعة لجنة المتابعة الإعلامية” وأضاف ” ونود منكم أن تأمروا جميع الإعلاميين أن لا يقوموا بفتح أي حسابات أو مواقع أو قنوات أو مؤسسات لجعلها منصات نشر حصرية لما يقوموا بتوثيقه، وغلق كل القنوات والحسابات والمؤسسات التي خصصوها لذلك”.
لكن الذي جرى بعد هذه الرسائل وربما رسائل أخرى بعدها أن “ولاية خراسان” تمادت في رفضها الانصياع لتوجيهات قيادة داعش في سوريا والعراق، بل نشطت في توسيع منظومتها الإعلامية وتكريس استقلاليتها عن “ديوان الإعلام”.
فقد أطلقت “الولاية” مؤسسات للإنتاج الإعلامي أبرزها مؤسسة العزائم، ومجلات دورية ب7 لغات، أهمها صوت خراسان التي تصدر باللغة العربية والانجليزية والتركية والطاجكية والأذرية والبشتو والأردية والهندية والأوزبكية وغيرها من اللغات. وعينت الولاية “سلطان عزيز إمام” ناطقا رسميا باسمها. وقد فاق إنتاجها الإعلامي ما تنتجه ولايات داعش كلها مجتمعة.
وبدا أن “ولاية خراسان” قد ذهبت أبعد من مجرد التمرد على تعليمات “ديوان الإعلام” فأعلنت في منشور لها أن ” مؤسسة العزائم هي المؤسسة الإعلامية الرسمية لولاية خراسان”. وتأكيدا منها على رسميتها فقد قامت حصريا بنشر صور ومقاطع فيديو لمنفذي عملياتها، وبعضها لم تنشره وكالة أعماق، ما يعني أن المؤسسة لا ترسل معظم موادها إلى ديوان الإعلام المركزي.
تنظيم داعش من جهته يرفض حتى الآن الاعتراف بالانتاج الإعلامي لولاية خراسان، ولا يعتبر مؤسساتها مؤسسات رسمية ولا حتى مناصرة. فالموقع الالكتروني الأكبر على الانترنت التابع لديوان الإعلام المركزي لم يدرج أي مادة لمؤسسة العزائم ضمن أقسامه، ولم يقم بإضافة أعداد مجلة “صوت خراسان” إلى قائمة المجلات “الأعجمية” التي أتاحها للتحميل على غرار مجلات “دابق” و”رومية” و”دار الإسلام”، ولم يضف قسما خاصا بمؤسسة العزائم مع أنه خصص أقساما لكل مؤسسات التنظيم الأخرى، بما فيها تلك التي توقف نشاطها منذ سنوات كمؤسسة الحياة والفرات والاعتصام.
حتى “مؤسسة إنتاج الأنصار” التي كلفها ديوان الإعلام بأرشفة وإعادة نشر كل ما يصدر عن المؤسسات المناصرة للتنظيم لم تقم بنشر أي مادة تعود لمؤسسة العزائم، ما يعني أن قيادة داعش لا تعترف بالمؤسسة وإصدارتها.
مكتبة العزائم وفتاوى الموت
لم يكن إنشاء “ولاية خراسان” منظومتها الدعائية المستقلة التجلي الوحيد لتمردها على توصيات المركز، بل أسست أيضا هيئة شرعية متخصصة في الفتاوى الدينية، وتحرير المسائل الفقهية وفق رؤيتها الخاصة سمتها “مكتبة العزائم” على غرار “مكتبة الهمة” التي تتبع رسميا لداعش. المثير أكثر أن بعض الفتاوى التي تصدرها “مكتبة العزائم” تخالف تلك التي يعتمدها تنظيم داعش في سوريا والعراق.
من بين الفتاوى التي روجتها “مكتبة العزائم” تلك التي تجيز تفجير مساجد السنة باعتبارها مساجد ضرار لا يرتادها إلا المشركون. واستنادا إلى هذه الفتوى قامت “الولاية” بتفجير عدد من مساجد أفغانستان لقتل قادة في طالبان، وهي العمليات التي لم تتبناها وكالة أعماق لأنها تخالف الموقف الشرعي لداعش بخصوص استهداف مساجد السنة.
لا تجرؤ قيادة داعش المركزية على فتح نقاش شرعي مع “ولاية خراسان” حول تفجير مساجد السنة، لأنها تدرك تماما أنها ستدخل بذلك مجددا في دوامة ذلك السجال العقدي المزمن عن ” العذر بالجهل” و”الناقض الثالث” و” التسلسل في التكفير” ومفهوم “الكفر بالطاغوت” وهو الجدل الذي سينتهي بالضرورة بتبادل تهم التكفير والتبديع والخروج من الملة. وستحكم “ولاية خراسان” على قيادة داعش بالردة، لأنها أسلمت المشركين، ولم تحقق أحد شروط الإيمان وهو “الكفر بالطاغوت”.
تعاني قيادة داعش في علاقتها مع “ولاية خراسان” من المشاكل ذاتها التي كان تنظيم القاعدة وحركة طالبان يعانون منها في علاقتهم مع حركة طالبان باكستان. فهذه الأخيرة كانت تسوق نفسها باعتبارها تابعة للقاعدة وطالبان في وزيرستان وباكستان، لكنها في الوقت ذاته لا تأبه بالأوامر والتوجيهات التي كانت تأتيها من قيادة القاعدة أو طالبان أفغانستان.
فقد غص حاسوب أسامة بن لادن بعشرات الرسائل التي كانت تأتيه من رجاله أمثال عطية الله الليبي، وأبو يحيى الليبي، وعزام الأمريكي، يطالبونه فيها بوضع حد لتمرد طالبان باكستان، أو على الأقل إخراج بيان ينوه إلى عدم وجود أي علاقة بين التنظيم وبين الحركة.