في الأشهر السبعة الماضية تصاعدت هجمات تنظيم داعش بشكل كبير في جميع أنحاء العالم، ولا يزال منحى نشاطاته في ارتفاع ما يعني أن عام 2024 سيكون أكثر الأعوام دموية منذ إعلان هزيمة التنظيم في 2019 وطرده من معاقله في سوريا والعراق.
زخم متصاعد
أطلق تنظيم داعش في النصف الأول من العام الجاري زخما من الهجمات المميتة طالت أنحاء متعددة من العالم. استهل العام بهجوم مزدوج على مدينة كرمان جنوبي إيران، قرب مرقد الجنرال قاسم سليماني وأسفر عن مقتل أكثر من 100 شخص. وكان هذا الهجوم الذي وقع في 3 من يناير بمثابة إشارة مبكرة عن خطط داعش الدموية لعام 2024.
في سوريا والعراق حيث معاقله التقليدية ضاعف التنظيم هجماته، بشكل ملحوظ. وأشارت القيادة المركزية الأمريكية إلى أن التنظيم تبنى في النصف الأول من العام الجاري 153 هجوما في العراق وسويا “وبهذا المعدل، فإن داعش في طريقه إلى الوصول إلى ضعف العدد الإجمالي للهجمات التي أعلن مسؤوليته عنها في عام 2023” حسب بيان القيادة.
وحذر مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، غير بيدرسن، في خطابه أمام أعضاء مجلس الأمن من أن خطر الإرهاب “يعاود الظهور في سوريا مع توقعات بتضاعف هجمات مسلحي تنظيم داعش هذا العام”.
إلى غاية كتابة هذا التقرير تبنى تنظيم داعش 831 عملية في جميع أنحاء العالم، بينما تبنى في عام 2023 838 عملية. أي أن ما نفذه التنظيم في 12 شهرا نفذه هذا العام في 7 أشهر فقط. وشهد شهر يناير الماضي تنفيذ التنظيم أكبر عدد من العمليات، إذ وصلت إلى أكثر من 180 عملية. كما سجل التنظيم في البادية السورية التي يتخذها عمقا جغرافيا له أعلى نسبة نشاط منذ 2017.
لقد كثف التنظيم من استخدام تكتيكات القتل الجماعي، مثل العمليات الانتحارية التي نفذ بعضها في سوريا بعد توقف دام فترة طويلة، واغتال واحد من أبرز خصومه التاريخيين (أبو مارية القحطاني) وشن عمليات دامية في عدد من دول العالم كإيران (أكثر من 100 قتيل) وروسيا (أكثر من 130 قتيل) وداغستان (20 قتيلا) وعمان (9 قتلى). وعرفت ولايات التنظيم في إفريقيا تصعيدا كبيرا، وتركيزا على الأهداف الرخوة التي تحقق أكبر حصيلة من الضحايا، فركز على الكنائس في الموزمبيق، والقرى المسيحية في الكونغو الديمقراطية، ولجأ إلى سلاح المفخخات الانتحارية في نيجيريا، وأطبق سيطرته على منطقة المثلث في الساحل، وأطلق العنان لوحشية فرعه في خراسان.
السؤال المطروح الآن لماذا هذا الزخم العملياتي، وكيف يمكن تفسيره؟
التمدد في الفراغ
يعزى النشاط المتزايد لداعش في سوريا والعراق إلى تداعيات الحرب في غزة، وانخراط مجموعات مسلحة عراقية وسورية بتوجيه إيراني في الصراع، ما أربك جهود التحالف الدولي لمحاربة داعش، وحول انتباهه من التعامل مع تهديدات التنظيم إلى محاولة تأمين قواعده وجنوده.
ففي شهادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ أكد قائد القيادة المركزية الأمريكية مايكل إريك كوريلا أن تصاعد هجمات داعش في سوريا والعراق هذا العام راجع إلى “وابل الهجمات المدعومة من إيران” التي تتعرض لها قواعد التحالف الدولي، وأضاف أن ” الهجمات أجبرت عملية العزم الصلب على الخروج من الخطة إذ أعطينا الأولوية لحماية قواتنا في العراق وسوريا” وخلص إلى أن ” الارتفاع الذي أعقب ذلك في هجمات داعش يظهر خطورة عرقلة الجهود الدولية الرامية إلى هزيمة التنظيم”.
وكما استغل التنظيم تغير أولويات التحالف الدولي في العراق وسوريا، فقد استغل أيضا حالة التأهب وإعادة الانتشار التي أعلنتها المجموعات المسلحة الموالية لإيران هناك، فقد سحبت عناصرها من بعض الجبهات المفتوحة مع التنظيم، وأفرغت عددا من نقاط تمركزها، وشددت من إجراءاتها الأمنية خشية استهدافها من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل. وبعضها توجه إلى تخوم الجولان، وجنوب لبنان، تطبيقا لمبدأ “وحدة الساحات ” الذي ترعاه إيران.
وضمن خطة التمدد في الفراغ أشار مركز جسور للدراسات أيضا إلى أن “انسحاب بعض مجموعات مرتزقة فاغنر والقوات الروسية من محيط مدينة السخنة وجنوبي الرقة وحقول الضبيات وصفيان للنفط والغاز، منح التنظيمَ قدرة على جمع المزيد من المعلومات وتحصيل موارد تمويلية جديدة” مكنته من تكثيف نشاطاته وتوسيع نطاق عملياته.
إثبات الوجود
احتفى تنظيم داعش قبل أسابيع بمرور 10 سنوات على إعلان “الخلافة”. ولاشك أنه كان حريصا خلالها على تأكيد حضوره في المسرح العالمي ككيان مرهوب الجانب، وقادر على إلحاق الأذى بخصومه، رغم مرور عقد على خلافته المزعومة.
هذا ما حاول الناطق الرسمي باسم التنظيم أبو حذيفة الأنصاري إبرازه في كلمة الأخيرة حينما قال ” عقد مضى على دولة الخلافة سطر فيه جنودها أروع ملاحم العصر في الموصل والرقة والباغوز وسرت وماراوي وجلبانة وغيرها.. ومازالت الملاحم تشتعل في ولايات العراق والشام وإفريقية والساحل وخراسان وباكستان وشرق آسيا والصومال وغيرها من ولايات الخلافة القائمة وساحات جهادها الممتدة”. خطاب الأنصاري الطويل مبني كله على فكرة مركزية مفادها أن “الخلافة” مازالت قوية وصامدة، وتخوض حرب استنزاف ضد أعدائها في كل مكان. ولابد أن قيادة داعش قد أوعزت إلى كل ولاياتها وعناصرها بتكثيف نشاطهم وتوسيع نطاق هجماتهم حتى يكون خطاب “الأنصاري” ذو قيمة.
وقد يعزز هذا المعطى ما ذهب إليه بيان القيادة المركزية الأمريكية من أن تصاعد هجمات داعش هذا العام راجع إلى “محاولة التنظيم إعادة تشكيل نفسه بعد عدة سنوات من انخفاض قدراته”.
إلى جانب الرغبة في إثبات الوجود، والسعي لإعادة بناء القدرات من جديد، ثمة عامل آخر قد يكون له دور في المنسوب المرتفع لإرهاب تنظيم داعش هذا العام، وهو رغبة زعيمه الجديد في تأكيد جدارته، وترسيخ شرعيته، خصوصا إذا كانت هذه الشرعية وهذه الجدارة محل شك وجدل داخل التنظيم.
يتعزز هذا العامل مع تضافر المعلومات التي تقول بأن عبد القادر مؤمن هو زعيم تنظيم داعش الجديد، وإذا كانت هناك جهات داخل التنظيم تعارض هذا التعيين فلا يوجد طريقة لإقناعها بوجاهة القرار إلا بمزيد من التوحش والدموية. ففي عالم جماعات الإرهاب لا شرعية تعلو فوق شرعية القتل وحمامات الدم.