الوصول السريع للمحتويات

تيار تكفيري جديد يتمدد في الفضاء الإلكتروني 

قد تبدو أفكار داعش التجلي الأبرز لأكثر النزعات التكفيرية إيغالا في التطرف، لكن في الواقع لا هي ولا حتى أفكار التيار الحازمي الأكثر تشددا يمكن أن تنافس في غلوها أفكار تيار تكفيري جديد آخذ في التبلور يتخذ من مواقع التواصل الاجتماعي فضاء لتداول مواقفه واستقطاب مؤيديه والدخول في جدل محموم مع معارضيه. ظهور هذا التيار راجع في بعض أسبابه إلى إخفاق الإسلام السياسي ومعه التيار الجهادي في تحقيق مشاريعهم التي وعدت الناس بالخلاص، وكرس انهزام تنظيم داعش وسقوط الخلافة المزعومة هذه النزعة في نفوس أصحابها لأنهم اعتبروا هذا السقوط دليل على فساد عقيدة التنظيم الذي “يؤسلم” المشركين ويأخذ البيعة ويجبي الزكاة منهم، ويصلي في مساجدهم، على أساس أن المجتمعات التي حكمها في العراق وسوريا هي مجتمعات كافرة لم تدخل في الإسلام بعد ولا يجوز أخذ البيعة والزكاة منهم إلا بعد دخولهم في الإسلام، بعض رموز هذا التيار كانوا أعضاءا سابقين في داعش وكثير منهم كانوا معتقلين في سجونه مثل محمد بن سعيد الأندلسي.

الشعوب كافرة

ثمة نقاط اختلاف كثيرة بين رموز هذا التيار لكنهم مجمعون على كفر كافة الشعوب في العالم العربي والإسلامي، ونشروا محاضرات صوتية ومقالات ودراسات في هذا الصدد.  وذهبوا أبعد من ذلك عندما أصلوا الكفر في المجتمعات الاسلامية، بمعنى أنهم لا يعتبرون هذه الشعوب مرتدة عن الاسلام بل يرون أنها كافرة كفرا أصليا أي لم تدخل في الإسلام بعد، ويلحق حكم الكفر أطفالهم أيضا، كما هو موضح في مقال بعنوان “التأصيل المبين في حكم أطفال المشركين”.

جادل محمد بن سعيد الأندلسي وهو من أبرز المنظرين لهذا التيار في كثير من كتاباته وتسجيلاته الصوتية عن مسألة كفر الشعوب العربية، واعتبر في مقال له بعنوان ” البراهين الجلية في كفر الشعوب العربية” أن “هذه الشعوب قد دخلت في دين الطواغيت أفواجا فصار الحكم عاما غير مقتصر على الطبقة الحاكمة وجنودهم وأوليائهم.. ويحكم عليهم بعموم الكفر على التعيين” وحشد الأندلسي عشرات النصوص القرآنية التي رأى أنها تدعم موقفه، وخصص 15 صفحة من مقاله لسرد الأدلة على كفر الشعوب الإسلامية، معتبرا أن انتشار ثقافة حقوق الإنسان والمظاهرات المطالبة بالديمقراطيات دليل على تفشي الشرك في كافة الفئات والطبقات. وفي مقال آخر بعنوان “فصل المقال في حكم قومنا، هل هم مرتدون أم كفار أصليون” بحث مسألة تأصيل الكفر في المجتمعات الإسلامية وخلص فيه بعد جرد مختزل لنصوص من القران والسنة إلى أن الشعوب الإسلامية ” نشأت على غير دين الإسلام الصحيح، لكنهم يتكلمون بالإسلام وينسبون أنفسهم إليه، لكن هذه النسبة غير معتبرة في الأسماء والأحكام.. ولا يصدق عليهم أنهم مرتدون لأنهم لم يدخلوا في دين الإسلام حتى يخرجوا منه” وأضاف أن ” التوصيف الصحيح لقومنا أنهم أحفاد المرتدين، فقد وقعت الردة في أجدادهم القدامى فنشأوا على هذا الكفر والردة عبر أجيال” وقد نحا أبو عمر الليبي منحى الأندلسي في تكفير الشعوب في مقاله “طاغوتية الشعوب العربية”.

وجدت هذه القناعات على غرابتها مئات المؤيدين على مواقع التواصل الاجتماعي فأسسوا عشرات الصفحات والمجموعات لترويجها، واختصارها على شكل تصاميم (بوسترات) ومقاطع صوتية قصيرة ليسهل تداولها ووضعها على حالات الحسابات الشخصية في الفيسبوك والواتساب وغيرها. 

هذه القناعات لم يسبق أن عبرت عنها أي من جماعات التكفير التي ظهرت على مدار العقود الماضية أو شيوخها ومنظريها، ولم تكن جزءا  من أي مذهب فقهي أو كلامي أو مدرسة إسلامية في تاريخ الإسلام، بل هي نزعة جديدة قامت على أنقاض الإسلام السياسي وفاقمها انهيار “الخلافة” المزعومة.

علماء مضلون

ينظر إلى تراث ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وابن القيم الجوزية باعتباره رافدا مركزيا من روافد الفكر الجهادي، لقد ارتبطت نصوص الدعوة الوهابية بمعظم الجماعات المتشددة، ولا يزال كتاب التوحيد ونواقض الإسلام لمحمد بن عبد الوهاب وشروحهما المختلفة أساسا نظريا لتنظيم داعش، ويعتمد عليها في تبرير عدوانيته وتطرفه، كما ينذر أن تجد صفحة واحدة من أدبيات القاعدة وشيوخها دون أن تحتوي على إحالة إلى كتاب من كتب ابن تيمية. لكن هذا التيار التكفيري الجديد يرى في هؤلاء الدعاة والعلماء مجموعة من أهل “التجهم والإرجاء” ضللوا الأمة الإسلامية عبر التاريخ وأفسدوا عقيدتها،  فقد نشر التيار سلسلة من المقالات حولهم توخى منها تحطيم رمزيتهم ومكانتهم التي خدعت جماهير المسلمين على مدى قرون حسب تعبيرهم، لعل من أهمها سلسلة مقالات بعنوان “كشف الستار عن شيوخ الضلال” وسلسلة أخرى بعنوان “فضح أئمة الشرك والضلال” نشرت على حلقات في صفحات ومجموعات يرتادها أنصار التيار على الأنترنت وحوت تأصيلات مقتضبة حول كفر علماء المسلمين وانحراف عقيدتهم بمن فيهم ابن تيمية والقرطبي وابن حزم وابن عبد الوهاب وأبنائه وأحفاده وغيرهم، وقد نال أبو حنيفة النعمان أحد الأئمة الأربعة المعتبرين عند المسلمين السنة النصيب الأكبر من النقد، فكتبت عنه عشرات المقالات والمنشورات التي تقطع بكفره وخروجه من الإسلام. 

مآخذ هذا التيار على هؤلاء العلماء أنهم لم يحكموا بكفر من ثبت كفره، ويراهم بالتالي امتدادا لأفكار التجهم والإرجاء وهي نزعات كلامية ظهرت في التاريخ الإسلامي المبكر وتعلق أحكام التكفير بمجموعة من الشروط والاعتبارات التي يصعب تحققها. اللافت أن عمر الحازمي الذي يعد أحد أقطاب التكفير في الوقت الراهن، وصاحب إحدى أكثر الآراء العقدية جموحا وتشددا، يعتبره شيوخ هذا التيار من “مرجئة الفقهاء” أي أنه ليس متشددا بما يكفي لينال رضاهم وثقتهم، ونشر الأندلسي محاضرة صوتية بعنوان “الرد على الحازمي في أسلمته للمتلبس بالشعيرة في ديار الكفر” فحواها أن الحازمي أخطأ عندما اعتبر القيام بالشعائر الإسلامية الظاهرة مثل الصلاة دليلا على الإسلام، بينما بالنسبة لهم لا معنى لهذه الشعائر في مجتمع أخل بأصل الدين وهو التوحيد ولم يدخل في الإسلام بعد!

الأرض مسطحة

من المواقف الغريبة التي روج لها أتباع هذا التيار في مجموعاتهم الرقمية، وحرروا دفاعا عنها عشرات المقالات والمنشورات المعززة أحيانا بالصور والخرائط أن الأرض مسطحة وليس كروية، وأن وكالة الفضاء الأمريكية ناسا ضللت الناس، وصور نزول المركبات على سطح القمر هي مجرد مشاهد مفبركة صنعتها شركات إنتاج سينمائية، فقد كتب أبو عبد الله الشمري وهو واحد من أنشط المروجين لهذه التوجهات مقالا بعنوان ” رسالة موجزة.. هدم صنمي ناسا والأرض الكروية” خصصه لتأويل عشرات النصوص القرآنية التي قال بأنها أدلة إثبات قاطعة على كون الأرض مسطحة، واستنتج من خلال تفسيرها بأن ” الفضاء عند ملاحدة ناسا هو فراغ لا متناهي أي أنه لو أمكننا الصعود لأعلى فإنه لا يمكن أن نصل لنهاية الفضاء وهذا مخالف لكلام الله تعالى، فإن الله جعل السماء سقفا للأرض، ومخالف أيضا لما ورد عن الرسول في حديث المعراج، فقد أخبرنا بأن المسافة بين السماء والأرض مسيرة 500 عام وأنه لا يمكن عبور السماء بدون إذن من الله وأن لكل سماء خازن من الملائكة والمسافة بين كل سماء وسماء مسيرة 500 عام وأن عرش الرحمن فوق السماوات السبع وأنه لاشيء فوق العرش وأن الله فوق العرش استوى”. وبما أن النصوص القرآنية -حسب ظنه_ قطعت بكون الأرض مسطحة فإن من يعتقد خلاف ذلك فقد عارض القرآن وهو بذلك كافر بالله، وأنهى الكاتب مقاله بالقول ” كفرنا بناسا وأخوتها وآمنا بالله وحده لا شريك له ولا معقب لأمره”.

تسود في العالم اليوم جماعات عدة تروج لنظريات المؤامرة، وتعتقد أن العالم كان ضحية خداع بشأن كثير من القضايا ضمنها “كروية الأرض” لكن ما يميز تيار التكفير هذا أن حججه كلها مبينة على نصوص دينية وقراءات لغوية لبعض المصطلحات والمفاهيم في القرآن، ورتب على ذلك أحكاما بالكفر والردة.

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية