شيئا فشيئا تتضح ملامح الاختيارات الشرعية والاستراتيجية لتنظيم القاعدة في ظل القيادة العامة الجديدة والتي لم يُفصح التنظيم عن هويتها بشكل صريح حتى الآن، مع أن كل المؤشرات تقول بأن سيف العدل هو من يمسك الآن بزمامها.
ففي خطوة حافلة بالدلالات والرسائل أصدرت القيادة العامة لتنظيم القاعدة بيان تعزية ومواساة لرئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس إسماعيل هنية في مقتل ثلاثة من أبنائه وعدد من أحفاده في قصف إسرائيلي غرب مدينة غزة في العاشر من أبريل الجاري.
لا شك أن البيان يشكل انعطافة غير مسبوقة في مواقف تنظيم القاعدة، وتوجها استراتيجيا وشرعيا جديدا سيؤثر على الخريطة الجهادية في العالم لاسيما إذا أخذت هذه المواقف طابعا “منهجيا” و”عقديا” ولم تكن مجرد خرجات إعلامية عابرة، وانفعالات عاطفية فرضتها الظروف الراهنة.
يؤسس البيان لتحول جوهري في تعامل تنظيم القاعدة مع حركة حماس؛ التي تراوحت مواقفه منها سابقا بين الادانة القاسية لقيادتها السياسية وبين الإشادة الحذرة بجناحها العسكري كتائب عز الدين القسام، إدانة وصلت في أحيان كثيرة حد التكفير الصريح من بعض الشيوخ المحسوبين على القاعدة، خصوصا بعد مشاركة حماس في الانتخابات الفلسطينية ودخولها إلى المجلس التشريعي الفلسطيني في 2006، وترسخ العداء بين الطرفين عقب اقتحام حماس مسجد ابن تيمية وقتلها للقيادي السلفي عبد اللطيف موسى، الذي أعلن في غشت 2009 قيام إمارة إسلامية في غزة انطلاقا من مدينة رفح.
اسماعيل هنية الذي وصفه بيان القاعدة الجديد ” بالشيخ الفاضل أبو عبد” مع عبارات ثناء أخرى متنوعة، وإشادة بتضحياته من أجل فلسطين، هو نفسه إسماعيل هنية الذي خصه أيمن الظواهري مع زملائه في المكتب السياسي بخطاب لاذع بعنوان ” عظم الله أجركم في قيادة حماس” حيث اتهمهم “بتسليم معظم فلسطين لليهود وبيع القضية الفلسطينية وقبلها بيع التحاكم بالشريعة للاحتفاظ برئاسة الحكومة الفلسطينية وثلث أعضائها” وأضاف الظواهري “يؤسفني أن أواجه الأمة بالحقيقة المؤلمة فأقول عظم الله أجرك في قيادة حماس فقد سقطت في مستنقع الاستسلام لإسرائيل.. وفي زمن الصفقة تُسلم قيادة حماس لليهود معظم فلسطين”.
يأتي بيان القاعدة الجديد بعد أشهر من بيان أصدره فرع القاعدة في شبه القارة الهندية نعى فيه مقتل صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي في حركة حماس الذي قتل في غارة اسرائيلية استهدفت شقة ببيروت في يناير الماضي. وأثار حينها عاصفة من الجدل في أوساط المناصرين للقاعدة الذين رأى كثيرون منهم أن القيادة العامة ربما لم تكن على علم بفحوى البيان قبل صدوره في الإعلام، وأنها لم تكن لتوافق عليه لو علمت بمضامينه مسبقا، ثم جاء البيان الجديد ليؤكد أن القاعدة بصدد إرساء توجه جديد في مواقفها.
فعلى الرغم من الانتقادات الحادة التي عبر عنها قطاع عريض من مؤيدي القاعدة بسبب تعزية العاروري باعتباره مقربا من إيران وحزب الله إلا أن بيان القاعدة بشأن اسماعيل هنية جاء ليؤكد أنها غير عابئة بما يروج في قنوات ومجموعات أنصارها في الفضاء الإلكتروني.
بل بدا أن القيادة الجديدة للقاعدة لم تعد تحفل بتحذيرات ومقالات أبو محمد المقدسي أحد أبرز منظريها التاريخيين الذي كتب مقالا ازدرى فيها مواقف الجماعات بما فيها القاعدة بسبب تماهيها مع ” طوفان الأقصى ” جاء فيه:” فقد ركب جل الشيوخ والجماعات أمواج هذا الطوفان حتى أوشكوا أن يغرقوا أتباعهم في شبهات الجماعات البدعية ويوقعوهم في التناقضات وكأن كل ما فعلته وتفعله حكومة حماس من موبقات معفو عنه”.
بيان القاعدة حول اسماعيل هنية أثار جدلا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي التي يرتادها أنصار القاعدة، واتهم بعضهم القيادة الجديدة بالانحراف والضلال، ووجهوا رسائل إلى أبي محمد المقدسي مطالبين إياه بالحسم والصرامة مع القاعدة.
فهم التوجه الجديد للقاعدة يحيل على مجموعات من الفرضيات التي سنناقشها في المقالات القادمة، لعل من أبرزها:
أن سيف العدل والقيادة الجديدة بحكم إقامتها الطويلة في إيران، صارت أكثر تفهما لعلاقة حماس مع إيران، والاكراهات التي زجت بالحركة في مسارات سياسية وخيارات اسراتيجية تراها القاعدة في السابق ضربا من ضروب ” الكفر والردة”، ثم غيرت موقفها منها بعد ظهور داعش، ورغبتها في النأي بنفسها بعيدا عن ذات المواقف التي يتبناها تنظيم داعش اتجاه باقي التيارات الإسلامية.
أن شخصيات قيادية فرضت مواقفها على القاعدة بعد صعودها في الفترة الأخيرة إلى دوائر صنع القرار في التنظيم، ولعل من أبرزها ” عبد الرحمن المغربي” الذي يعتبر مقربا في السابق من عطية الله الليبي وعزام الامريكي وهما من القيادات المناوئة للتوجهات التي تكفر الجماعات الاسلامية الأخرى، وكانا من المعارضين لما سمي “دولة العراق الاسلامية” في 2006 قبل تحولها إلى داعش في 2013.
أن القاعدة تريد أن تحسم في قضايا التكفير، وتجرد من مظلتها كل الشخصيات التي تروج لتأصيلات تكفر الجماعات الاسلامية الأخرى، وتضع حدا للجدل القائم حول مسائل ” تكفير الجماعات المشاركة في الانتخابات” ومسائل ” العذر بالجهل” وغيرها وأول المعنيين بها التوجه هم منظري القاعدة التاريخيين وفي مقدمتهم أبو محمد المقدسي.
فرضية أخرى راجت حتى في المنصات التي ينشط فيها أنصار التنظيم وهي أن أبو الوليد المصري صار له دور في تشكيل مواقف القاعدة بعد تولي صهره سيف العدل قيادة التنظيم، وهي فرضية مستبعدة، لكنها تبقى منطقية لمن يفهم عمق العلاقة التي تجمع بين الرجلين.