أعادت فقرات كتبها القيادي البارز في حركة طالبان عبد الحكيم حقاني حول الوهابية إحياء الجدل مجددا بين أنصار القاعدة حول شرعية حكم طالبان وطبيعة الموقف الذي يجب اتخاذه إزاءها. الجدل الذي ثار على مواقع التواصل الاجتماعي في الأسابيع الماضية عبارة عن حلقة متصلة من المناكفات التي بدأت مع وصول الجيل الأول من العرب المتشبعين بالفكر السلفي الوهابي إلى أفغانستان نهاية ثمانينات القرن الماضي للمشاركة في الحرب ضد السوفييت، وظل مستمرا على درجات متفاوتة من الحدة والخفوت إلى يومنا هذا.
صدمة أنصار الدعوة النجدية
يستذكر أبو محمد المقدسي أبرز منظري تنظيم القاعدة الذي صاغ أدبياته كلها معتمدا على تراث ونصوص الدعوة الوهابية؛ يستذكر وصوله أفغانستان أول مرة وكيف انتابته مشاعر الخيبة والصدمة وهو يرى المقاتلين الأفغان “ينتهكون جناب التوحيد” عندما يعلقون التمائم على صدورهم، ويتبركون بالأضرحة والمزارات، وهي ممارسات تصنفها الدعوة الوهابية في مربع الشركيات التي تذهب بأصل الدين.
ولعل أول نقاش حاد ثار حول “الممارسات الشركية” للأفغان كان عندما وقف أبو محمد المقدسي واعترض بحماس بالغ على محاضرة كان عبد الله عزام يلقيها في أفغانستان وحث فيها العرب على احترام وتفهم تقاليد الشعب الأفغاني واختياراته الفقهية، احتج المقدسي على ما اعتبره مغالطات عبد الله عزام، وأكد له أن تحفظ الوهابيون العرب ليس على الاختيارات الفقهية للشعب الأفغاني ولكن على “مظاهر الشرك” المستفحلة في المجتمع. أيدت جموع أخرى من الوهابيين موقف المقدسي واعترضوا على عبد الله عزام، وساد الصراخ جنبات المسجد ما اضطر عزام إلى انهاء محاضرته ومغادرة المكان، ومن يومها والفهم الوهابي للتوحيد والشرك كامن في صلب العلاقة بين تنظيم القاعدة ذي الجذور الوهابية وبين طالبان ذات الامتدادات الصوفية.
لم يكن المقدسي بمواقفه المتصلبة هذه يعبر عن أكثر المواقف الوهابية تشددا إزاء التدين الأفغاني لكنها ستؤسس لاحقا لمواقف أشد تطرفا بلغت ذروتها في كتاب “كشف شبهات المقاتلين تحت راية من أخل بأصل الدين” الذي كفر فيه كاتبه حركة طالبان، واعتبرها “راية شركية” لا يجوز الانتماء إليها.
خصص أبو قتادة الفلسطيني أكثر من 100 صفحة للرد على الكتاب، واعتبر أن كاتبه مخالف ” لسبيل المؤمنين.. ومن أهل الغلو والانحراف وأنه أتى بالطامة العظيمة والموبقة التي ترديه في حمأة التكفير البدعي المذموم”. كتب المقدسي مقدمة للكتاب أشاد فيها بمعظم مضامينه لكنه تحفظ على وصف الكاتب ” بالغال الجاهل في دين الله الذي لا يدري ما يخرج من رأسه”.
انتشرت حمى التكفير المستند إلى تعاليم الوهابية بين الجهاديين العرب في أفغانستان، ودفعت كثيرا منهم إلى مغادرة البلاد بحثا عن “راية نقية” يقاتلون تحتها في مكان آخر، وآخرون انكفأوا على أنفسهم واعتزلوا ما اعتبروه “شركيات و منكرات” مستشرية في المجتمع الأفغاني.
حقاني والوهابية
يعتبر عبد الحكيم حقاني من أهم القادة الروحيين لحركة طالبان، وأقرب المقربين إلى زعيمها هبة الله آخنذ زاده، فضلا عن شغله مناصب رفيعة في الحركة أبرزها قاضي القضاة ورئيس الإدارة العالية لمحاكم “الإمارة”. ويصنف حقاني ضمن المرجعيات العلمية للحركة، وكاتب أدبياتها، وأشار “هبة الله” في تقديمه لبعض كتبه إلى أنها بمثابة إطار أيديولوجي ملزم لأعضاء الحركة وقادتها.
كتب حقاني كتابا بعنوان ” تتمة النظام في تاريخ القضاء في الإسلام” هاجم فيه الدعوة الوهابية واعتبرها “فتنة” شغلت الدولة العثمانية في الجزيرة العربية أول ظهورها، و”كثر شرهم وتزايد ضررهم وقتلوا من الخلائق ما لا يحصى واستباحوا أموالهم وسبوا نسائهم” وأضاف في فقرة لاحقة قوضت كل تعاليم الوهابية، واتهم مؤسسها ” بالزيغ والضلال الذي أغوى به الجاهلين، وخالف فيه أئمة الدين وتوسل بذلك إلى تكفير المؤمنين”.
واسترسل في سرد بعض مآخذه على الحركة الوهابية مثل تحريمهم التوسل بقبر النبي وزيارته، واعتبارهم أن من الشرك بالله “نداء الأنبياء والأولياء عند التوسل بهم” و أن ” من أسند شيئا إلى غير الله ولو على سبيل المجاز العقلي يكون مشركا” وأن محمد بن عبد الوهاب ” أتى بعبارات مزورة زخرفها ولبس بها على العوام حتى تبعوه”.
موقف حقاني من الحسم بحيث لم يترك أي مساحة مشتركة مع أتباع الوهابية، ولم تدع صرامة لغته مجالا لتأويلها تأويلا ينأى بها عن التصعيد والقطيعة مع التيار السلفي الوهابي. المعني الأول بموقف حقاني داخل التيار السلفي الجهادي الموالي للقاعدة هو أبو محمد المقدسي الشيخ الأردني الذي بنى أفكاره كلها على أرضية وهابية، ويعتبر أشهر كتبه “ملة إبراهيم” إعادة تدوير لأدبيات محمد ابن عبد الوهاب وتلاميذه.
بذهول تداول أنصار القاعدة في قنواتهم على تطبيق التيليجرام مقتطفات من الكتاب، وسارعوا إلى كتابة رسالة إلى أبي محمد المقدسي لأخذ رأيه مما اعتبروه طعن حقاني في ” الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب” بعدما ” أجاز الاستغاثة بالأموات ونصر القبورية الخرافية وأئمتهم وسب التوحيد والسنة ووصفهما بالفتنة”. فكان رد المقدسي مختزلا في بضع كلمات :” لا ينبغي أن يكون كلامنا وخلافنا معهم حول شخص الشيخ محمد بن عبد الوهاب بل حول مسائل التوحيد والشرك” وهنا يعود المقدسي بالخلاف مع طالبان إلى المربع الأول عندما وقف محتجا على “شركيات الأفغان” أمام عبد الله عزام. حقاني يريد أن يربط الأزمة ويعلق الخلاف في أفكار محمد بن عبد الوهاب، والمقدسي يريد أن يجره إلى “حلبة” الشرك والتوحيد؛ حلبته المفضلة التي اعتاد صرع مخالفيه فيها.
الوهابية وطالبان.. شد وجذب
مواقف عبد الحكيم حقاني لا تعتبر الأولى من نوعها إزاء الوهابية، لكنها من أكثرها وضوحا وحسما، وفي كتاب يعتبر مرجعا دستوريا لطالبان ومترجما إلى العربية و متداولا في أهم معقل للسلفية الجهادية الوهابية “الأردن”. لكن منذ تأسيس القاعدة والخلاف مع معتقدات الأفغان وحنفيتهم يشهد مدا وجزرا حسب طبيعة الموقف المثير للسجال والخلفية الشرعية والأيديولوجية لمنظري القاعدة، ويمكن تصيف هذه المواقف إلى: متشددة ومعتدلة ومنسجمة.
فالمواقف المتشددة هي التي عبر عنها المقدسي والزرقاوي وعدد من شيوخ وكتاب منبر التوحيد والجهاد، وهي مواقف وإن لم تصل إلى درجة التكفير، إلا أنها تؤكد دوما على وجود خلافات مقلقة في مسائل التوحيد والشرك، وتراهن على حركة تصحيحية يقودها السلفيون داخل الحركة للعودة بها إلى “منابع التوحيد الخالص”.
المواقف المعتدلة: ويعرف بها كثير كوادر التيار الجهادي وقادة القاعدة مثل أبي مصعب السوري، وعطية الله الليبي، وأبو قتادة الفلسطيني.. وهؤلاء يعتبرون مسائل الخلاف مع طالبان لا تخرج عن نطاق “الفروع الفقهية” التي يسوغ فيها الخلاف، ويقرأون العلاقة مع طالبان قراءة “جيوسياسية” واستراتيجية، وليس قراءة عقدية مثل الفريق الأول.
المواقف المنسجمة: وهي المواقف التي قطعت مع القاعدة، وانحازت إلى حركة طالبان، ويجادل أصحابها بأن القاعدة والوهابية هم سبب نكبة الأفغان وخراب ديارهم، ويطالبون الحركة بإعلان قطيعة نهائية مع تنظيم القاعدة. ويعتبر مصطفى حامد (أبو الوليد المصري) أهم صوت في هذا التوجه، وقد سخر موقعه الالكتروني وعموده في مجلة “الصمود” التابعة لطالبان لإدانة الوهابية وتحميلها مسؤولية حمامات الدم التي شهدها العالم الإسلامي في العقود الثلاثة الماضي. وعلى منواله سارت شخصيات أخرى في موقفها من الوهابية والقاعدة مثل أبو ماريا القحطاني وكثير من قيادات هيئة تحرير الشام.
تشكل لحظة داعش ذروة الاشتباك بين الوهابية وحركة طالبان، وقد وجدت داعش في المقولات الوهابية مسوغا لحربها على الحركة التي تسميها “الميليشيا الشركية القبورية المرتدة”. واستهدافها للمساجد ودور العبادة في أفغانستان يأتي في سياق ما تعتبره استهدافا لمعابد الشرك في البلاد.