يمتلك تنظيم داعش ترسانة هائلة من المسوغات الدينية التي يستطيع الاستناد عليها لارتكاب ما يحلو له من الجرائم. وهي مسوغات صاغها شيوخه بناء على قراءة شديدة التعصب لنصوص شرعية، وتوظيف ملفق لبعض القواعد الأصولية، ويمكنه تبعا لذلك مد دائرة التكفير واستحقاق القتل لتشمل كل مخالفيه دون استثناء. لكن ماذا يصنع إذا دفعته حساباته التنظيمية إلى ضرورة تصفية فئة لم تفلح تأويلاته الدينية في حشرها داخل دائرة الكفر والردة واستحقاق والقتل. هنا يلجأ إلى ما يسمى “فتوى قتل المصلحة”.
جذور قتل مصلحة
رغم احتفاء تنظيم داعش بأفكار محمد بن عبد الوهاب، واعتماد نصه الشهير “نواقض الإسلام العشرة” وتأويله تأويلا ولد نواقض أخرى كثيرة، وتقليد شيوخ متمرسين في “فقه الدماء” مناصب رفيعة في التنظيم وتفريغهم لوظيفة التسويغ الديني للفظاعات التي يرتكبها إلا أن حاجة داعش إلى القتل أكبر مما يستطيع كل هؤلاء تغطيته. فلجأ قادته إلى تأويل قاعدة أصولية أتاحت لهم هامشا غير محدود من الحرية في إزهاق الأرواح، وأطلقت يدهم في تصفية من شاؤوا تحت لافتة (المصلحة الشرعية).
في المدونة الفقهية الإسلامية لا توجد أحكام بالقتل تبررها المصلحة الشرعية التي يراها الإمام أو أي أحد آخر. الرأي الوحيد الذي تداولته بعض المراجع الفقهية المتقدمة منسوب إلى الإمام مالك مفاده أن مالكا كان “يرى جواز قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها” إذا قدر الإمام وجود مصلحة في ذلك. غير أن فقهاء المذهب المالكي حرروا ما نسب إلى إمام مذهبهم وأكدوا أن “قتل المصلحة” لم يقل به إطلاقا، ولا يوجد في كتب مالك ولا في كتب تلاميذه.
قال محمد فضل العجماوي في مقال حقق هذه المسألة بأن أول من نسب فتوى قتل المصلحة إلى مالك كان الإمام الجويني، عندما قال: “أن مالكا لما زل نظره، كان أثر ذلك تجويز قتل ثلث الأمة مع القطع بتحرز الأولين عن إراقة محجمة دم من غير سبب متأصل في الشريعة” وقال الجويني في موضع آخر :” نقل النقلة عنه أنه قال: للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها”.
وقد جاء رأي مالك في هذه المصادر بصيغ التمريض، وهي الصيغ المبنية للمجهول مثل (رُوي، ذُكر،) دون أن يعزى القول إلى ناقل محدد وبالتالي الشك في صحة الرواية. وبعد نقاش مركز من العجماوي وسرد لأقوال كبار شيوخ المذهب المالكي خلص إلى نتيجة في المسألة وهي أن ما نسب إلى مالك غير موجود في كتبه ولا في كتب مقلديه، ويحتمل أن القول نسب إلى مالك بمقتضى لازم مذهبه. ومعنى ذلك أن “المصالح المرسلة” مادامت من الأصول الكبيرة في المذهب المالكي فإن هناك احتمال أن ينُسب “قتل المصلحة” إلى مالك استنادا إلى هذا الأصل المعتمد عنده. لكن القاعدة تقول “لازم المذهب ليس بمذهب”.
أثناء المظاهرات المطالبة باسقاط نظام الرئيس عمر البشير في السودان طالب الرئيس حينها في اجتماع مع كبار مسؤوليه العسكريين والأمنيين بتفعيل فتوى قتل المصلحة، وقال محمد حمدان حميدتي نائب رئيس المجلس العسكري في السودان أن البشير قال في الاجتماع بأن السودان بلد مالكي المذهب، وأن مالك أجاز قتل ثلث الأمة لاستصلاح الثلثين الباقيين، في تلويح واضح منه إلى إبادة المتظاهرين في ساحات الاعتصام.
داعش وقتل المصلحة
يلجأ تنظيم داعش الى فتوى قتل المصلحة في حالات كثيرة منها التصفيات الداخلية التي يرتكبها بحق عناصره وقادته لأسباب تتعلق بالولاء المشكوك فيه أو تباين المواقف التنظيمية والعقدية. كما يبرر بها سقوط عشرات الضحايا ممن يسميهم “عوام المسلمين” في عملياته الانتحارية التي تستهدف الاسواق والشوارع المكتضة بالمارة، وعمليات تصفية أخرى لا سبيل إلى تبريها إلا عن طريق “المصلحة” مثل تصفية عشرات المنتسبين للجيش والشرطة في العراق ممن استتابهم تم تراجع عن وعده لهم بعدم تصفيتهم.
أخبر أبو أسامة المهاجر والي داعش السابق على اليمن قيادته في سوريا في رسالة سرية أنه قرر تصفية زوجة شرعي الولاية السابق أبو بلال الحربي لأنه يرى مصلحة في ذلك. كما برر معظم عمليات الاغتيال الداخلية التي نفذها بداعي المصلحة. المهاجر يعفي نفسه بتوظيفه لفتوى قتل المصلحة من الجدل حول مسائل التكفير المعقدة، لأن هذه الفتوى يطبقها التنظيم ضد من يعتبرهم مسلمين لكن ينبغي لسبب ما تصفيتهم.
وفي وثيقة أخرى مسربة حديثا كتب قيادي في اللجنة المفوضة إلى أبي بكر البغدادي زعيم داعش الأسبق يطلب منه الإذن بتصفية كل من أبي ذر الجزراوي وأبي محمد المصري وأبو كريم المجاطي لأنهم أصحاب فتنة. ورد البغدادي على الرسالة بالقول ” إذا رأيتم من الناحية الشرعية قتلهم أولى من حبسهم وأن في قتلهم مصلحة متعدية على الجماعة وتتحملون المسؤولية أمام الله فلكم الأمر بعد مشاورة إخوانكم”.
والشخصيات التي صدر الأمر بقتلها هنا هي من أكبر الشخصيات القيادية في التنظيم وبعضها كان مقربا جدا من البغدادي لاسيما أبو محمد المصري الذي تقلد مناصب رفيعة في مكتب البحوث والدراسات وهو الذي كتب السلسلة المنهجية وسجلها بصوته في إذاعة البيان بعدما طلب منه البغدادي تصحيح عقيدة التنظيم بعد الجدل الذي أعقب البيان الشهير المعنون ب “ليهلك من هلك عن بينة”. أما المجاطي فهو نجل فتيحة المجاطي زوجة القائد السابق لتنظيم القاعدة في السعودية، وقد عمل المجاطي -بعد التحاقه بداعش رفقة والدته- كادرا في ديوان الإعلام المركزي.
إلى جانب الجزراوي والمصري والمجاطي قتل التنظيم أيضا عشرات من كوادره وقادته في الأزمة المعروفة بالصراع بين تيار البنعلي والفرقان والحازمي. ونشر أتباع البنعلي نعي الكثير من شيوخه الذين جرى تصفيتهم في سجون ديوان الأمن العام.
اخفاء معالم الجريمة
يتجنب تنظيم داعش في اصداراته الرسمية الاشارة إلى عمليات القتل التي ينفذها تحت دريعة المصلحة. وحرص كبار قادته على إبقاء تفاصيل العمليات في نطاق ضيق، ولا يتطلع عليها سوى قادة كبار في ما يسمى ” ديوان الخليفة” و”ديوان الأمن العام” وبعض الشخصيات في “اللجنة المفوضة”.
ففي رسالة سرية بعثت بها اللجنة المفوضة إلى خلاذ الجزراوي أمير لجنة المتابعة والإشراف التي أنشأتها البغدادي لمتابعة عمل المفاصل الحساسة في التنظيم، نبهت اللجنة خلاذا إلى ضرورة توخي السرية التامة في عمله ولقاءاته مع مسؤولي “ديوان الأمن العام” وأن لا يشارك فيها أحد آخر غيره، لأن الملفات التي يعالجها المفصل الأمني لها علاقة بقضايا قتل الغلاة والمرجئة تعزيرا “ولا نقبل البتة أن يطلع أحد على تفاصيل عملهم”.
الوثيقة شددت بعبارات صارمة على أن موضوع التصفيات ينبغي أن يبقى طي الكتمان، مع أن التنظيم يتباهى في اصداراته المرئية بمشاهد الذبح والقتل الجماعي، لكن قيادة داعش تدرك أن “المصلحة” كمسوغ للقتل وسفك الدماء قد لا تستسيغه شرائح واسعة من مؤيديه لاسيما أن كثيرا ممن حصدتهم مكينة “قتل المصلحة” هم من الشيوخ الذين لهم أتباع بالمئات داخل التنظيم وعلى شبكة الأنترنت، سواء كان هؤلاء الشيوخ من الغلاة (تيار الحازمي) أو من المرجئة (تيار البنعلي) أو من الناس العاديين (عوام المسلمين).
من أجل التغطية على جرائم القتل التي ينفذها التنظيم بداعي المصلحة يلجأ إلى عدة طرق منها على سبيل المثال أن يدعي أن القتلى سقطوا في قصف للتحالف، أو أن يقوم بإخفاء جثثهم فيظل مصيرهم مجهولا، أو أن يدرج أسمائهم في قوائم “الشهداء” ويخلط أسماء من قام بتصفيتهم مع أسماء من قُتلوا في المعارك.
فقد كشفت وثائق سرية سربها حديثا منشقون عن التنظيم أن ديوان الأمن يرسل قوائم بأسماء شخصيات قام بقتلها ويطلب من “أمير مركز الشهداء” إدراجها ضمن قائمة الشهداء، حتى يعتقد دويهم أنهم سقطوا في المعارك.
الوثائق تضمنت بيانات تخص عشرات الأسماء ممن قتلوا تعزيرا من جنسيات مختلفة وبأسمائهم الحركية والحقيقية وحالتهم العائلية، وتاريخ ومكان قتلهم، مما يدل على أن القتل تحت ذريعة المصلحة كانت متفشيا إلى الدرجة التي يتعذر فيها طمس معالم الجريمة، وإخفاء جثث الضحايا إلا بتمويه أسمائهم بين أسماء من سقطوا في المعارك وغارات التحالف.