الوصول السريع للمحتويات

خلاف بين العسكريين والاعلاميين.. انقسام جديد يعصف بتنظيم داعش

كشف الانقسام العقدي الذي عصف بتنظيم داعش ابتداءا من سنة 2015 فيما عرف بصراع تيار البنعلي والحازمي والفرقان عن النفوذ الواسع الذي تمتع به “ديوان الإعلام المركزي” بقيادة أبي محمد فرقان داخل التنظيم، وكيف كانت قراراته سارية على عدد من المؤسسات والشخصيات البارزة، حتى اضطر كثير منها إلى رفع شكاوى إلى البغدادي تطالبه بوضع حد لتغول ديوان الإعلام على المفاصل الأخرى للتنظيم، وتقليص الصلاحيات التي استبد بها على حساب المؤسسات الأخرى.

وجد تنظيم داعش نفسه وسط دوامة جديدة من الخلافات الداخلية، لكن هذه المرة يبدو أن ديوان الإعلام هو الحلقة الأضعف فيها بعدما آل النفوذ إلى القادة العسكريين الذين يقودون خلايا التنظيم في الولايات الأمنية نتيجة لخسارته معاقله في العراق وسوريا وتفكك بينته البيروقراطية.

ولايات جانحة

عكس ما يحاول تنظيم داعش الإيحاء به إلى العالم من خلال منظومته الإعلامية النشطة من تماسك وانسجام في مواقفه وقراراته، كشفت مراسلات داخلية مسربة حديثا أن هناك تصدعا عميقا، وخلافات حادة، أطرافها الرئيسية هذه المرة هم الإعلاميون والعسكريون في التنظيم.

تكشف الوثائق أن تنظيم داعش في سوريا تحديدا يواجه صعوبات بالغة في إلزام الاعلاميين والعسكريين بموقف موحد حيال قضايا عديدة أبرزها توثيق العمليات ونشرها في الإعلام.

فقد بعث على سبيل المثال المدعو “أبو ماهر ” مسؤول ديوان الإعلام المركزي رسالة سرية إلى “أبي الحارث” والي ولايات الشام يستنكر فيها سياسات الأمير العسكري لولاية الصحراء (حمص)، وتخبطه في القرارات، واستبداده بصلاحيات تتجاوز مركزه القيادي، وطالبه بالتحرك ووضع حد “لتدخلاته غير المنطقية وغير المفهومة وغير المبررة فيما يتعلق بالنشر” وحذر من أن حال ولاية حمص ” يشعرنا أنهم فصيل خارج بنية الخلافة” على حد تعبيره.

رسائل كثيرة كتبها مسؤولو الاعلام في سوريا إلى قادة كبار في التنظيم من بينهم والي الشام ونائبه وغيرهم يتلخص فحواها في الشكوى من ” إقصاء الإعلاميين وتهميشهم” وتدخل العسكريين في مهام تخص “ديوان الاعلام” ورفضهم الانصياع لسياسة موحدة سار عليها الإعلام منذ تأسيسه. والولايات المعنية هي كل من “ولاية حوران” و “ولاية البادية” و”ولاية حمص” و”ولاية إدلب” و”ولاية وحلب” وأجزاءا من “ولاية الخير” (دير الزور) ولم تستثن الشكاوى سوى ” ولاية البركة” وتشمل شرق الفرات والحسكة شمال شرق سوريا.

سياسة التكتيم

أبرز نقاط الخلاف بين العسكريين والولاة في سوريا وبين ديوان الإعلام المركزي تتمثل في “سياسة التكتيم”. وهي أن العسكريين يصرون على عدم توثيق وتبني العمليات في الولايات المذكورة، بينما يلح ديوان الإعلام على توثيقها ونشرها في منصات التنظيم الرقمية. أو أن يقرر العسكريون نشر تفاصيل مجتزأة عن العمليات بينما يشدد الاعلاميون على نشر كافة التفاصيل أو عدم نشرها بالمرة.

فقد تحدث أمير ديوان الاعلام في سوريا صقر أبو تيم في رسالة مطولة بعث بها إلى “والي الشام” عن الوضع الإعلامي لولايات سوريا، واستعرض في ثناياها مطالبه المتمثلة في تأهيل الاعلاميين تقنيا، ودعم الإعلام الرسمي، وتوفير المعدات، وأكد على أن أهم المشاكل والصعوبات التي تواجه الإعلام هي “سياسة التكتيم الإعلامي و تهميش الإعلاميين” حتى أصبح “عدم تبيني العمليات سياسة متبعة”. 

الخلاف بين الاعلاميين والعسكريين وصل إلى الحد الذي يعتمد فيه “ديوان الإعلام” على الصفحات الاخبارية المحلية لتقصي أخبار العمليات التي ينفذها التنظيم خصوصا في البادية والجنوب. ويعترف أمير ديوان الاعلام أن “أخبار العمليات في ولاية الخير لا تصل إلى المسؤول الإعلامي إلا بعد وصولها إلى الصفحات الاخبارية الأخرى”.  وعبر عن أسفه لكون البادية ” وهي بقعة التمكين الوحيدة لدينا في الشام” حسب وصفه تعاني أكثر من غيرها من “سياسة التكتيم الإعلامي واعتبار المسؤول العسكري للولاية الإعلام أمرا ثانويا”. 

وفي رسالة بعث بها أمير مفصل الإعلام في الصحراء أبو المثنى الفراتي إلى أمير ديوان الإعلام في سوريا صقر أبو تيم تحدث  أبو المثنى عن المشاكل اللوجستية والتقنية التي يعاني منها إعلاميو داعش في البادية مثل نقص معدات التصوير والاتصال والمواصلات وعدم تفرغهم للعمل الإعلامي بسبب إشراكهم في مهام أخرى. والأهم من كل هذا حسب تعبيره “هو نبذ الإخوة للإعلام والإعلاميين” و”إقصائهم من المشاركة في الغزوات والمناوشات” حتى لا يتسنى لهم توثيق العمليات أو إرسال تفاصيلها إلى الاعلام المركزي المكلف بالنشر في مواقع التنظيم الإلكترونية.

إشكالية أخرى أشار إليها أبو المثنى الفراتي في رسالته وهي تضارب الصلاحيات بين قادة التنظيم وكوادره، وأعطى مثالا بذلك وهو عندما يتم توثيق عملية ما من قبل المسؤول الإعلامي يأتيه توجيهان متعارضان الأول؛ من الأمير العام يأمره بنشر تفاصيل العملية في الإعلام والثاني من المسؤول العسكري يحذره من النشر، ويظل حائرا بين التعليمات المتضاربة، وغالبا ينصاع إلى أوامر المسؤول العسكري الميداني ذي النفوذ المباشر عليه وعلى المجموعات المسلحة التي يقودها.

سطوة العسكريين

يدافع القادة العسكريون في داعش عن سياستهم إزاء الإعلام بالقول -كما تظهر رسائل داخلية مسربة- بأن عدم تبني العمليات رسميا “يجنب حملات النظام والقصف الجوي السوري والروسي، ويجنب انتقام الثوار في حوران من عناصر التنظيم وعائلاتهم” و أن ” النشر الرسمي يؤكد المعلومة ويثبت تواجدك في المكان”. 

ويرون أن عدم تبني العمليات في بعض المناطق التي تشهد احتقانا عشائريا وخلافات بين فصائل الثورة يخدم أجندة التنظيم، إذ سيؤدي عدم تبني العمليات في درعا مثلا إلى تبادل الاتهامات بين العشائر والفصائل ثم عمليات انتقام متبادلة بينهم تفضي إلى مزيد من الفوضى والاحتراب الأهلي وهو ما يصب في النهاية في مصلحة التنظيم.

وفي لحظة ارتفعت فيه حدة الجدل بين الإعلاميين والعسكريين حول سياسة النشر قال القائد العسكري لولاية البادية ” مشروعي مشروع أمة طويل الأمد أما مشروع الإعلام فمشروع مِفْصَل” أي أنه لم يعد يعترف بالأدوار الحيوية التي كان إعلام تنظيم داعش يزعم الاضطلاع بها في بدايات تأسيسه وتمدده.

يعتقد بعض كوادر ديوان الإعلام كما توضح رسالة من صقر أبو تيم إلى الزبير الشامي نائب والي الشام أن العسكريين الذين يرفضون توثيق العمليات ونشرها في الإعلام “لديهم أسباب أخرى” غير تلك التي أفصحوا عنها في رسائلهم ونقاشاتهم، وأن المسوغات التي يحتجون بها لا تكفي لتبرير مواقفهم المعادية للإعلام والإعلاميين. لأنهم يرفضون نشر العمليات حتى مع وعد الإعلاميين بتمويه الوجوه والأماكن وتغيير الأصوات وعدم الاشارة إلى النطاق الجغرافي المحدد لمكان حدوثها.

استطرد ديوان الاعلام في بيان ما اعتبره تهافتا للمسوغات التي يستند إليها العسكريون في سياسة “حظر النشر” التي يتبعونها، وقال في رسالة له إلى والي الشام بأن “ولايات العراق” رغم أنها تتعرض لضغط عسكري وأمني أكبر إلا أنها توثق وتنشر كل عملياتها في الإعلام” فماهو الفرق العسكري والميداني بين جبهة ديالى كركوك والأنبار وصلاح الدين وبين جبهة حمص”.

خلاف مزمن

الملفت في الانقسام الحاصل بين الاعلاميين  والعسكريين في داعش أن قادته الكبار لم يستطيعوا حسمه بمن فيهم “والي الشام” رغم نفوذه الواسع وصلاحياته المفترضة. وبعد تحذير ديوان الإعلام من أن “استمرار الوضع على هذا الحال فيه مفاسد كثيرة” و” سيتمادى أصحاب القرار بالولاية في تدخلهم بالإعلام حتى ينهوه ويقضوا عليه” وأن ” الإعلاميين عاجزون عن العمل بالصلاحيات التي تخص الإعلام” حاول أمراء داعش الكبار البحث عن حلول توافقية هي أقرب إلى جبر الخواطر منها إلى قرارات صارمة تنهي الخلاف وتلزم الأطراف بسياسة موحدة.

رغم أن قيادة داعش تفضل إحاطة عملياتها بزخم إعلامي يبالغ في تصوير حجمها ونتائجها، إلا أنها لم تعد قادرة على فرض هذه السياسة على قادتها العسكريين في الميدان. وكان مما توصلت إليه بعد حوارات ومراسلات بين الإعلاميين والعسكريين أن يتم تبني جميع العمليات ضد النظام السوري في منطقة حوران وعدم تبنيها ضد الفصائل الثورية، وأن يتم تبني كل العمليات في مناطق حلب، أما إدلب فقرروا عدم تبني العمليات فيها “لاعتبارات سياسية”.

يبدو أن هذا التوجيهات لم تصمد كثيرا أمام سطوة العسكريين الميدانيين، إذ دخلت العمليات ضد النظام ضمن “سياسية التكتيم” أيضا، وهو ما احتج عليه الإعلاميون. ولا تزال خلايا داعش في البادية تعمل في الظل قاطعة صلتها بديوان الإعلام المركزي. مما حدى بمسؤول الإعلام إلى تحذير والي ولايات الشام أبي الحارث بالقول:” إذا استمر الأمر على هذا الحال سنرفع أيدينا عن متابعتهم بحيث لن يكون لنا حرص في تتبع عملياتهم والاستفسار عنها كل مرة”.

معظم الوثائق التي تناولت هذه الخلافات مؤرخة بتاريخ 2020 و 2021 لكن إلى غاية هذه اللحظة لا تزال عمليات داعش في البادية وحوران ودير الزور غائبة في التحديثات الاخبارية اليومية لوكالة أعماق، وفي الحصاد الأسبوعي  لصحيفة النبأ التي تراجعت صفحاتها إلى 8 صفحات معظمها مشغول بالمواعظ الدينية مع حصيلة عمليات لا تتجاوز 13 عملية في كل ولايات داعش في العالم. ما يعني أن حاجز عدم الثقة مازال قائما بين العسكريين والإعلاميين، والعداوة بينهم لم تحسم إلى غاية هذه اللحظة.

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية