في الوقت الذي تبدل جهات إنفاذ القانون، ومؤسسات الرقابة المالية في العالم جهودا مضنية لعزل أنشطة تنظيم داعش الاقتصادية عن النظام المصرفي العالمي، كان التنظيم ينسج شبكته المالية الخاصة، مستفيدا مما راكمته التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة من تجارب، ومستغلا كل الثغرات المتاحة في المنظومة المالية العالمية، لتوسيع وإنعاش أنشطته المدرة للدخل، وتحقيق فعالية أكبر في حركة الأموال بين “ولاياته” وخلاياه المنتشرة في ربوع العالم.
استطاع تنظيم داعش من خلال خططه الاقتصادية، وشبكاته المالية المعقدة تحقيق اكتفاء ذاتي لأخطر فروعه النشطة في وسط إفريقيا، (فرعي الكونغو و الموزمبيق)، وعبر وصلهما بخطوط شبكة دعمه الممتدة بين أوروبا وجنوب إفريقيا والصومال والخليج والشرق الأوسط. وهي شبكة محمية بطبقات من الوسطاء والشركات الاستثمارية ومكاتب تحويل الأموال، لكن جزءً منها جرى تفكيكه وتعطيل فعاليته.
حوالات جنوب افريقيا
كان المعتاد عندما يكون الحديث دائرا حول البؤر المالية التي يستفيد منها الإرهاب العالمي أن تشير أصابع الاتهام إلى الخليج والسودان حيث يتركز أكبر المانحين وتعمل جمعيات أهلية وشركات استثمارية مرتبطة بجماعات متشددة، لكن تنظيم داعش خرق هذه القاعدة وذهب إلى جنوب إفريقيا حيث أسس خلايا دعم مالي ترفد فروعه في إفريقيا بما تحتاج إليه من تمويل.
في 7 من نوفمبر الماضي أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية بيانا ثانيا بشأن الانشطة المالية لداعش في جنوب افريقيا وفرضت بموجبه عقوبات على خلية من 4 أفراد و 8 شركات استثمارية. الشخصيات الخاضعة للعقوبات وهي نوفل أكبر، ويونس محمد أكبر، ومحمد أكبر، وعمر أكبر تعمل تحت إشراف فرهاد هومر وهو جهادي كانت الخزانة الأمريكية قد فرضت عقوبات عليه في مارس من العام الماضي، واستهدفت العقوبات شركاتهم العاملة في مجالات تعدين الذهب والبناء، ويضطلعون بدور حيوي في الاسناد اللوجستي لفروع داعش في وسط إفريقيا والموزمبيق، وتحويل الأموال إليها عبر نظام “الحوالة”.
ومن خلال نظام “الحوالة” تم تحويل حوالي 342 مليون دولار من جنوب إفريقيا إلى فروع داعش وخلايا داعش في الصومال وكينيا ونيجيريا وبنغلادش باستخدام آلاف الشرائح الهاتفية غير مسلجة للتملص من الرقابة، وتمويه هوية القائمين بالمعاملة بين عاعمي 2020 و 2021 بحسب صحيفة الصنداي تايمز الصادرة في جنوب إفريقيا. ويتم تحويلات الأموال على دفعات صغيرة حتى لا تتثير الشكوك.
وكشفت دراسة نشرتها جامعة جورج واشنطن في يونيو الماضي عن جانب من المعاملات المالية التي تتم بين خلايا داعش في جنوب وإفريقيا وبين ولاياتها في الصومال والموزمبيق وشرق الكونغو. وشرحت الدراسة نموذجا لهذه التحويلات التي تتم برعاية شركة Heeryo Trading Entrprise وهي شركة صومالية وجنوب افريقية مسجلة في جوهانسبرغ وتقوم بعملياتها في العاصمة الصومالية مقديشو. الشركة سهلت نقل مئات الآف من الدولارات من الصومال إلى جنوب إفريقيا ومن جنوب إفريقيا إلى كينيا حيث ينتظرها الموزعون الماليون لنقلها إلى أوغندا، ويعبروا بها الحدود لتسليمها إلى فرع داعش في شرق الكونغو، أو تنقل إلى تنزانيا ومنها إلى فرع داعش في الموزمبيق.
سبق لقيادة داعش المركزية في سوريا والعراق أن اعتمدت نظام الحوالة المالية أواخر 2017 لدعم “القوات الديمقراطية المتحالفة” في الكونغو عشية إعلانها الولاء لداعش، وكان وليد أحمد زين المواطن الكيني الذي التحق والده وأخوه بالتنظيم في سوريا، قد تلقى حوالي مليون و 500 ألف دولار عبر حوالات مالية، من أورويا وأمريكا والشرق الأوسط، وقام بإعادة تحويلها فروع داعش في وسط وشمال إفريقيا.
زكاة وجزية!
إلى جانب الحوالات المالية التي تتلقاها فروع داعش في وسط افريقيا، توجد أيضا أنشطة ذاتية تعتمد عليها محليا في تعزيز دخلها المالي، وتمويل عملياتها، ومنها فرض الرسوم والضرائب وجباية ما تسميه “الزكاة” من الأهالي الذين يعيشون في مناطق سيطرتها، ولأن فرعي داعش في الكونغو والموزمبيق ينشطان في مناطق يعيش فيها المسلمون والمسيحيون فإن عوائدهما في هذه الحالة تكون مضاعفة، من خلال فرض “الزكاة” على المسلمين و”الجزية” على المسيحيين.
ففي العام الماضي حذر فرع داعش في المزمبيق عبر بيان خطي تداولته صفحات محلية المسيحيين من عواقب عدم تسليمهم الجزية، وخيرتهم بين الدخول في الاسلام أو دفع الجزية أو “الاستعاد لحرب لا نهاية لها” حسب تعبير الرسالة.
تلجأ فروع داعش في إفريقا إلى فرض الضرائب على السكان المحليين وابتزاز الشركات والمقاولات وفرض رسوم باهضة عليها ضمن خطة تمويلية عممتها قيادة داعش في سوريا والعراق على كل ولاياتها البعيدة، ويشكل مردودها جزءا من ميزانيتها الضخمة. ففي الصومال مركز “مكتب الكرار” الذي يدير شؤون ولايات وسط إفريقيا ويمدها بدعم مالي سخي، يقوم فرع داعش في اقليم بوتلاند شمال الصومال بفرض رسوم شهرية على الشركات التجارية تحت التهديد بتخريب ممتلكاتها ومصالحها. وفي 2018 كانت عوائده الشهرية من هذه الرسوم حوالي 700000 دولار. وفي أبريل الماضي أحرق التنظيم مقاولة محلية بعدما رفض أصحابها دفع 500000 ألف دولار له.
تنخرط أيضا فروع داعش في وسط افريقيا في أنشطة تجارية مشبوهة، مثل التهريب، وتجارة الذهب والأخشاب والكاكاو وغيرها، وأكدت دراسة جامعة جورج واشنطن المشار إليها سابقا أن هذه الأنشطة تشكل نسبة قليلة جدا مقارنة بالأموال التي تصل هذه الولايات من الخارج، وأشارت أن عوائد تجارة الاخشاب التي يديرها فرع الكونغو تزود ميزانيته بحوالي 15000 دولار سنويا.
تجارة والسبي والرهائن
يشكل الاختطاف بغرض الفدية تقليدا مشتركا بين الارهاب والجريمة المنظمة، غير أن فرع داعش في وسط افريقيا أضاف إلى هذا الاقتصاد الاجرامي المربح، قطاعا مربحا آخر وهو تجارة “السبي”.
فقد كشفت مراسلات داخلية للتنظيم أن فرع داعش في الموزمبيق فرض مبالغ مالية معينة مقابل تحرير “السبايا” التي يحتفظ بها في معاقله. وهذه المعاملة تهم أساسا “السبايا” اللواتي لا يصلحن للمتعة، كالمصابات بمرض الإيدز، أو الكبيرات في السن. وتم تخيير أهاليهن بين دفع الأموال أو إعدامهم.
ينهض اقتصاد الارهاب في جزء كبير منه على عوائد الاختطاف واحتجاز الرهائن، والكثير من المعاملات التي تتم في هذا الإطار تكون بعيدة عن الإعلام، ويلتزم أطرافها ووسطائها الصمت في أغلب الأحيان، حتى وإن كانت الدول طرفا فيها، بسبب حظر القانون لهذا النوع من الصفقات، وحتى لا تكون عاملا من عوامل ازدهار هذه الظاهرة، وبالتالي تقويض جهود تجفيف منابع تمويل الإرهاب.
لا توجد أرقام محددة عن العوائد التي يجنيها تنظيم داعش في وسط إفريقيا من اقتصاد الفدية، لكن لا شك أنها إضافة إلى أرقام الحوالات قد أحدثت طفرة في النشاطات الارهابية لفرعي داعش في شمال الموزمبيق وشرق الكونغو. حوالي 68000 الف دولار من أموال الحوالات سلمت مباشرة لأفراد في خلايا تورطت في سلسلة من الهجمات الانتحارية في أوغندا في 2021، وهجمات في رواندا والكونغو.
اقتصاد الإرهاب الذي رعاه مكتب الكرار في الصومال بقيادة عبد القادر مؤمن أفاض ميزانية داعش في شرق ووسط إفريقيا، فكان يرسل بشكل دوري دفعات مالية إلى عدد من ولايات وخلايا داعش في إفريقيا والشرق الأوسط واليمن وتركيا. ووصف في رسالة له إلى أمير إدارة الولايات البعيدة في سوريا الوضع المالي لمكتب الكرار بالقول: “الأموال التي تصلنا من مفصل الاقتصاد كافية للضروريات والكماليات”، وإن إرسال فائضها إلى اليمن مباشرة أسهل، وسيجدون طريقة آمنة لإرسالها إلى الخليج وتركيا. وهي مفارقة لافتة أن تذهب أموال الإرهاب في زمن داعش من إفريقيا إلى الخليج بعدما كان العكس هو الشائع في العقود الماضية.