عمليا كان تنظيم القاعدة في 3 من ديسمبر من عام 2001 بصدد نعي نفسه، عندما تمكنت القوات الأمريكية من إطباق حصار خانق على جل قياداته الروحية والإستراتيجية في جبال تورابورا، بمن فيهم زعيم ومؤسس التنظيم أسامة بن لادن، كان السيناريوا الأقرب إلى الواقع آنذاك هو أن تتمكن قوات التحالف وبفعل القصف الجوي المكثف بمختلف أنواع القنابل من القضاء على قيادات القاعدة أو إرغامها على الإستسلام، في ظل انحسار الخيارات المتاحة أمامها بسبب السيطرة الميدانية التي كانت تفرضها قوات دستم وتحالف الشمال، من جهة ودعوة الملأ عمر للمهاجرين بالإنسحاب من أفغانستان من جهة أخرى.
بأعجوبة تمكن بن لادن وقيادات القاعدة التي كانت معه من الإفلات من الحصار والوصول إلى مناطق آمنة حيث بدأت مرحلة إعادة بناء التنظيم وتقييم الأضرار التي لحقت به نتيجة فقدان كل قواعده ومعسكراته وتشتت كوادره وعناصره الذين أصبحوا بين معتقل وهارب ولاجئ ومطارد، فبينما انصبت جهود بن لادن والظواهري في الحفاظ على وجود القاعدة وحضورها الرمزي والدعائي عبر الأشرطة المرئية والتسجيلات الصوتية، كان منظرها الكبير وعقل الإستراتيجي البارز أبو مصعب السوري معتكف في مكتبته لصياغة “بيان المقاومة الإسلامية العالمية” أخطر بيان ثوري انقلابي بعد البيان الشيوعي. يعترف أبو مصعب السوري أن ” أخدود ما بعد سبتمبر” حتم على التيار الجهادي تبني أطروحات جديدة ومنطق جديد يضع عولمة الصراع ولا مركزية المواجهة في صلب خطه الجهادي وعقيدته القتالية، كانت فكرة أبو مصعب السوري تتلخص في تدشين سرايا المقاومة العالمية و مهمتها الأساسية استهداف المصالح الغربية في العالم أجمع دون أي روابط تنظيمية بين أفرادها وخلاياها من أجل تجاوز أخطاء التنظيمية الهرمية المحلية التي أثبتت عدم جدواها في ظل العولمة و النظام الدولي الجديد، بينما تمحورت أطروحة بن لادن حول ضرورة جر الولايات المتحدة إلى حروب استنزاف طويلة النفس.
استطاع تنظيم القاعدة في غضون سنوات قليلة إلحاق هزائم متتالية بالولايات المتحدة حيث تمكن بمعية قوى المقاومة العراقية من إخراج الإحتلال من العراق بعد تكبيده خسائر فادحة عسكريا وسياسيا واقتصاديا، ونجح بفضل تحالفه المتماسك مع حركة طالبان من إعادة بسط السيطرة على مساحات شاسعة من أفغانستان، فبات الجميع يخطبون ود طالبان فقط لتفتح مكاتب تواصل وقنوات وتفاوض تابعة لها.
بعد 14 سنة من حصار قيادات القاعدة في تورا بورا أمكن للجميع أن يرى أن بن لادن استطاع انتشال منظمته من موت محقق وأمدها بتنفس اصطناعي حتى عادت إليها الحياة، القاعدة الآن منتشرة في مناطق كثيرة من العالم، وباتت أيديولوجيتها خيارا تتبناه شعوب ما بعد الثورات بسبب موجة المؤامرات و الانقلابات التي اعترضت مسارات تحررها وانعتاقها من الظلم والديكتاتورية.
في سوريا يبدوا مشهد معجزة الانبعاث الذي طبع مسار القاعدة أكثر وضوحا، وأشد دلالة فرايات القاعدة وفكرها ومفاهيمها وأيديولوجيتها وخياراتها الفقهية والعقدية أصبحت جزء لا يتجزأ من الحالة الثورية بل و من المجتمع السوري ما بعد الثورة، وبات شيء مألوفا أن ترى شعارات القاعدة وأعلامها منتشرة في الحارات وفي واجهة المحلات التجارية، ولن يكون غريبا أن تخرج مظاهرة يهتف منظموها دفاعا عن جبهة النصرة فرع القاعدة في سوريا إذا ما تعرضت لقصف التحالف أو غيره. كما ساهمت قوة جبهة النصرة وشراستها في القتال ونشاطها الإغاثي والإجتماعي والأهلي الكثيف في ترسيخ خطها الجهادي بين عموم المواطنين بمختلف شرائحهم وطبقاتهم.
نجح الجولاني في تحويل فكر القاعدة من أيديولوجيا نخبوية محاصرة يتم تداولها سرا على نطاق ضيق، إلى “مقولات” شعبية يتعاطاها الناس ويفهمونها، ويتخذون من شعاراتها وأناشيدها أهازيج في أفراحهم وأتراحهم. إنها نقلة جديرة بالملاحظة والدراسة، القاعدة من فكرة محاصرة في قمة جبل إلى ثقافة شعبية منتشرة في الشوارع والحارات.
