أثار تسجيل صوتي منسوب لضابط الصاعقة المصري السابق هشام عشماوي جدلا واسعا في أوساط الجهاديين، ولم يخف كتاب ونشطاء جهاديون مقربون من الخط الجهادي الذي تتبناه القاعدة فرحتهم بالتسجيل الصوتي الذي حمل فيه العشماوي صفة “أمير جماعة المرابطون” لأنه يكشف كما يقولون انحياز كادر جهادي كبير في مصر إلى معسكر القاعدة ما يعني ضمنيا انشقاقه عن تنظيم أنصار بيت المقدس الذي أعلن ولائه لتنظيم الدولة الإسلامية.
قيمة العشماوي تكمن في كونه العقل المدبر لأشهر العمليات التي قام بها تنظيم أنصار بيت المقدس ضد قوات الجيش المصري في سيناء، وكانت الدقة والنكاية والاحترافية العالية سمتها الأساسية، ولعل آخرها عملية كرم القواديس التي سقط فيها العشرات من عناصر الجيش المصري وأعقبها مباشرة ولاء أنصار بيت المقدس لتنظيم الدولة الإسلامية. كما أن شخصية العشماوي القيادية وإيمانه العميق بجدوى الخيار الصدامي، ووفاءه لتوجهاته الجهادية، التي قدم بسببها للمحاكمة العسكرية التي قضت بفصله من الجيش، حولت الوجود الجهادي بسيناء من مجموعات متفرقة فوضوية الأهداف والإستراتيجية إلى تنظيم مسلح ضارب رمى بثقله كله في المواجهة مع قوات الجيش المصري بعد الانقلاب العسكري.
تاريخيا ينحدر عدد من قادة تنظيم القاعدة والتيار الجهادي المصري عموما من المؤسسة العسكرية، التي استفادوا منها في صقل قدراتهم القتالية ومواهبهم القيادية، فمحمد عاطف المعروف بأبي حفص المصري الذي كان قائدا عسكريا لتنظيم القاعدة (قتل في 2001) كان ضابطا في القوات الجوية المصرية، وزميله سيف العدل أبرز قيادات الصف الأول بتنظيم القاعدة كان ضابطا في الجيش المصري، كما أن حقبة الثمانينيات التي تبلور فيها التيار الجهادي المصري، ودُشنت فيها مرحلة المواجهة القطرية مع النظام المصري باغتيال الرئيس أنور السادات، على أيدي “رواد” يشتغلون بالسلك العسكري نذكر منهم على سبيل المثال: ضابط المدفعية خالد الإسلامبولي وضابط المخابرات الحربية عبود الزمر وضابط الدفاع الجوي عبد الحميد عبد السلام.. وكان هؤلاء على علاقة مباشرة بالمهندس عبد السلام فرج كاتب أول وثيقة جهادية تؤصل فقهيا للصدام مع الأنظمة “الفريضة الغائبة”.
لم تكن القاعدة لتسمح بانفلات ساحة توفرت فيها كل مفاتيح الصراع، وتضافرت فيها عوامل النجاح، من بين يديها لحساب تنظيم الدولة الإسلامية الذي بادر بإعلان سيناء ولاية تابعة له وقبوله بيعة تنظيم أنصار بيت المقدس في نوفمبر 2014. وقد كانت استراتيجية تنظيم القاعدة في بلدان الربيع العربي تتمحور في تجنب أي عمل مادي يخرج عن سياق خيارات الشعوب السلمية، ومطالبها الموحدة بالعيش والحرية و العدالة الاجتماعية.
ثم تعززت هذه الرؤية القاعدية في مصر بعد انتخاب محمد مرسي، ورسائل التطمين غير المباشرة التي بعث بها إلى المكون السلفي الجهادي بمصر عقب فوزه بالرئاسة، ومن ذلك وعده في ميدان التحرير باسترجاع شيخ التيار الجهادي بمصر عمر عبد الرحمن المسجون بالولايات المتحدة مند بداية التسعينيات، والإفراج عن قادة ورموز الحركة الجهادية ومنحهم هامشا واسعا من حرية الحديث والظهور في الإعلام، وأخيرا رعايته لمؤتمر نصرة الشعب السوري الذي حضره قادة الفصائل الجهادية في سوريا. هذه المعاملة قابلتها القاعدة بالمثل وتجلى ذلك في دعاء أيمن الظواهري لمحمد مرسي بالفرج وفكاك الأسر، واستنكار أبو محمد المقدسي وصف العدناني لمحمد مرسي بالعلماني وكتب أن حداء مرسي اشرف من كل العلمانيين.
بعد انقلاب يوليو وما أعقبه من أحداث ومجازر، تغيرت نظرة تنظيم القاعدة إلى الساحة المصرية وبدا واضحا تماما أن الوضع هناك يسير إلى اللحظة المثالية بالنسبة للتنظيم، حيث الجو العام مشحون بمشاعر الغيظ والغضب والانتقام وانسداد أفق الحلول السياسية، والإحباط قد أصاب شرائح واسعة من المجتمع بسبب ضياع استحقاقات الثورة ومكتسباتها، وانحسار خيارات التعامل مع هكذا حال في ظل القبضة العسكرية الصارمة، والمقاربة الإستئصالية القائمة، إضافة إلى إصرار معسكر الإنقلابيين على إعطاء بعد هوياتي للصراع بإغلاقه للقنوات الإسلامية وحربه على مظاهر التدين في المجتمع، وحذفه فقرات الشريعة ومرجعيتها في الدستور، فتفشت المقولات التي تقوم بالفرز على أساس ديني هوياتي (لينا رب وليكو رب، مصر علمانية بالفطرة، اضرب في المليان..). القاعدة راقبت هذا المشهد عن كتب وأيقنت أن مرحلة الإخوان المسلمين قد ولت، و أن شرائح المجتمع المصري خوصا أبناء الحركة الإسلامية صائرة لإستدعاء الخطاب الجهادي بأفكاره ومفاهيمه وعقيدته القتالية، وبالتالي ضرورة الإسراع في بناء إطار جهادي ناظم يتبنى الخط الجهادي الذي تراه القاعدة منضبطا، أولا؛ لحشد الطاقات ومنع تشتتها، وثانيا؛ قطعا للطريق على سرديات جهادية تراها القاعدة منحرفة كالتي يتبناها تنظيم الدولة الإسلامية.
جاءت خطوة بيعة أنصار بيت المقدس لتنظيم الدولة الإسلامية مربكة وغير متوقعة، خصوصا وقيادات من أنصار بيت المقدس ترى أن الخلافة التي أعلن عنها البغدادي غير شرعية، بسبب افتقادها لشرط الشورى، وعدم موافقة كل منظري التيار الجهادي ورموزه عليها. حالة الإستقطاب الحاد بين تنظيم القاعدة و تنظيم الدولة الإسلامية انعكست على المشهد الجهادي في سيناء ففي حين اختار أبو أسامة المصري التواصل مع قيادة تنظيم الدولة الإسلامية للبيعة وإعلان سيناء ولاية تابعة للبغدادي، رفض أبو عمر المهاجر (هشام عشماوي) الخطوة وتواصل في المقابل مع قيادة القاعدة من أجل الإنشقاق هو والعناصر الرافضة لبيعة البغدادي، وتأسيس فرع لتنظيم القاعدة في مصر على غرار ما حصل في سوريا من انشقاق الجولاني وارتباطه المباشر بالقاعدة.
اسم “المرابطين” الذي حمله التنظيم الذي أسسه عشماوي ينبغي أن ينظر إليه في سياق المنافسة بين تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة على تأطير جهاديي الصحراء الكبرى وشمال إفريقيا، فلا يمكن الإعلان عن جماعة باسم “المرابطين” في ظل وجود جماعة أخرى بنفس الإسم ونفس البنية الفكرية والأيديولوجية وتنشطان في مجالات جغرافية متقاربة، إلا أن تكون إحداهما تابعة للأخرى. فمن المعروف أن جماعة المرابطين تأسست في الصحراء الكبرى بعد اندماج “جماعة الملثمين” بقيادة مختار بلمختار مع “جماعة التوحيد والجهاد في غرب افريقيا” بقيادة أحمد التلمسي وتم تعيين أبو بكر المصري أميرا على التنظيم الجديد في أغسطس 2013.
بعد إعلان تنظيم الدولة الإسلامية للخلافة وانشطار التيار الجهادي بين قطاع يتبع الظواهري وآخر يتبع البغدادي انعكس الخلاف على أوضاع الجهاديين في الصحراء حيث أعلن أبو الوليد الصحرواي أمير جماعة المرابطين الذي عين على رأس التنظيم بعد مقتل أبو بكر المصري بيعته للبغدادي، غير أن مختار بلمختار رفض الخطوة متمسكا بتبعية “المرابطون” لتنظيم القاعدة والولاء لأيمن الظواهري. وبالتالي لا يستبعد أن يكون تنظيم المرابطين في مصر الذي يتزعمه هشام عشماوي امتداد لجماعة المرابطين في الصحراء الكبرى، خصوصا وهذه الأخيرة باتت تتخذ من ليبيا معقلا لها أو على الأقل أحد معاقلها الأساسية ولا يخفى أن ليبيا تعتبر خط إمداد بالسلاح ونقطة تدريب والتقاء لجهاديي مصر وشمال إفريقيا. واتصال عشماوي بالقاعدة لن يكون إلا عبر مختار بلمختار أو قيادات أخرى بتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي لأن القيادة العامة للقاعدة لا تتواصل إلا مع الشخصيات التي زكتها قيادات محلية موثوقة.
كان حادث اغتيال النائب العام المصري هشام بركات إيذانا بدخول فاعل جهادي جديد الساحة المصرية، فالعملية من ناحية الهدف والأسلوب لا تشبه العمليات التي تنفذها “ولاية سيناء”، ولا تلك التي تنفذها “أجناد مصر”، فالأولى تنهج أسلوب التفجيرات الإنتحارية الضخمة، وتستهدف بالدرجة الأساس المقار الأمنية والعسكرية وتسعى من ورائها إلى إيقاع أكبر عدد من القتلى والمصابين، وبالنسبة للثانية فعملياتها يغلب عليها طابع البدائية وتستهدف أفراد الشرطة والجيش بعبوات محلية الصنع وتأثرت كثيرا بمقتل قائدها مجد الدين المصري. أما عملية اغتيال النائب العام فتقف ورائها أيدي خبيرة محترفة من الناحية التقنية والعملياتية أما خلفياتها الأيديولوجية فيمكن استنطاق بعض المؤشرات التي صاحبت العملية للوقوف عليها، فالتفجير مثلا لم يتم بواسطة عملية انتحارية، ومعروف أن القاعدة تتعاطى مع مسألة التفجيرات الإنتحارية في أضيق الحدود، ولا ترى التوسع في نمط التفجير الإنتحاري إلا للضرورة القصوى، ومن هنا ابتدعت جبهة النصرة في سوريا أسلوب السيارات المفخخة المسيرة عن بعد تماشيا مع الخيارات الفقهية لتنظيم القاعدة.
كما أن عملية اغتيال هشام بركات تمت وفق حسابات دقيقة فيما يتعلق بحجم المواد المتفجرة ونوعيتها من أجل تقليص دائرة الإنفجار والحيلولة دون خروجه عن السيطرة وإيقاعه خسائر كبيرة في صفوف المارة ومستعملي الطريق، ما يدل على أن خلفيات المنفذين الفقهية لا ترى التوسع في مسألة التترس التي قال بها بن تيمية “جواز قتل المسلم إذا تترس به الكافر وكان المسلم في حكم المقتول” وقاس عليها منظروا التيار الجهادي ما يحصل اليوم من التفجيرات التي يصل ضررها إلى الأبرياء ومعصومي الدم، و القاعدة لا ترى التوسع في فتاوى التترس وترى وجوب إلغاء العمليات إذا غلب على الضن عدم إمكانية السيطرة على نتائجها، عكس تنظيم الدولة الإسلامية الذي تبنى فتاوى أخرى في هذا الصدد منها فتاوى “قتل المصلحة” وغيرها.
نقطة أخرى لا تقل أهمية هي أن عملية اغتيال النائب العام لم تتبناها أي جهة حتى الآن، ولو كانت “ولاية سيناء” من يقف خلفها لتبنتها في التو واللحظة سيرا على منهجيتها المعروفة في تبني العمليات بعد تنفيذها, و عملياتها في السعودية اليمن والكويت وتونس ومصر خير مثال على ذلك. وأيضا تنظيم الدولة لا يؤمن بشيء إسمه ” السياسة” حتى يجد نفسه مرغما على تأجيل الإعلان عن بعض عملياته أو إنكارها مراعاة “للسياسة” و ” المصلحة”. بينما القاعدة تنفذ عمليات كبيرة فلا تعلن عن مسؤوليتها عنها وربما أخرت الإعلان عن تبنيها لفترات طويلة، حسب ما تراه “مصلحة راجحة” فلم تعلن مسؤوليتها مثلا عن تفجيرات نيويورك وواشنطن عام 2001 إلا بعد مرور فترة طويلة عليها.
بناء على ما سبق نستنتج أن عملية اغتيال النائب العام قامت بها جماعة على علاقة بتنظيم القاعدة، قد تكون جماعة المرابطين بقيادة هشام عشماوي، أما عن تأخير الإعلان عن تبنيها فأعتقد أن الجماعة ستعطي لتلك اللحظة زخما إعلاميا أكبر وربما هي بصدد إنتاج إصدار مرئي تتبنى فيه العملية وتوثق فيه لانطلاقتها، ويكون في الوقت نفسه منافسا لإصدارات ولاية سيناء و لـ” صولة الأنصار” على وجه الخصوص.
إذن القاعدة تراهن على جماعة المرابطين وعلى قائدها هشام عشماوي، في تمثيل سرديتها بمصر، وتأطير شباب التيار الجهادي هناك في أفق تأسيس مشروع جهادي صلب وناضج، ورهانها أكبر على إرث الحركة الجهادية بمصر ورموزها وتجاربها الطويلة من أجل قطع الطريق على أيديولوجية الغلو والتكفير، فلا تكون مصر كتونس التي تغلغلت سردية تنظيم الدولة الإسلامية بين شبابها بسبب غياب الرمز و النضج والتجربة.