مند سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات شاسعة في العراق وسوريا، وبدئه تطبيق نموذجه المتشدد في الحكم والإدارة، وقفت النخبة المفكرة في التيار الجهادي على إشكاليات كثيرة مرتبطة بصميم ما يتبناه التيار من أفكار وقناعات، وتساءل كثير من كتاب ومنظري التيار هل فعلا هذا النموذج يعتبر تتويجا لمسيرة المشروع الجهادي ؟ بمعنى هل “تنظيم الدولة الإسلامية” إفراز طبيعي لأيديولوجيا الحركة الجهادية العالمية أم عرض جانبي من أعراض حربها الشرسة مع الغرب؟ فلا يعنيها إذن في شيء بقدر ما يعني خصومها الذين استفادوا من هذا النموذج المنحرف ووظفوه في سياق حربهم على “الفكرة الجهادية” والفكرة الإسلامية بشكل عام.
ورغم النجاح غير المتوقع الذي حققه نشطاء ومفكروا وقادة التيار الجهادي في مساعيهم لوضع حدود فاصلة بين ما يعتبرونه خطابا جهاديا أصيلا ومعتدلا وبين ما رأوه امتدادا لفكرة الخوارج استفادت من ظروف وملابسات الحالة العراقية إبان الاحتلال لتتحول إلى كيان ضخم قدم نفسه على أنه “خلافة شرعية” و “دولة إسلامية”. رغم هذا النجاح النسبي في الفصل بين “الخطاب الأصيل” و “الفكرة المستحدثة” فإن هذه الأخيرة لا تزال تقتات على بعض “المقولات” الجهادية التي تحرص على استحضارها في منتجوها الدعائي الكثيف.
ترفض النخبة الجهادية بشكل قاطع أن يُحسب ” تنظيم الدولة الإسلامية” على الحركة الجهادية العالمية، وتقول بأن تنظيم الدولة مشروع مشبوه بروافد متعددة، قد يكون من بينها رافد “الفكرة الجهادية” لكنه ليس الرافد الأساسي و الحيوي بدليل أن جميع أعمدة التيار الجهادي ونخبه المفكرة التي صاغت الأطروحة الجهادية العالمية تبرأت من تنظيم الدولة الإسلامية وسحبت اعترافها به وكتبت ضده الكثير بلغة عنيفة وصارمة ومع ذلك لا يزال التنظيم يعمل بفاعلية لا تترك مجالا للشك في أن الفكرة الجهادية ليست رافده الأساس، وإن نجح البغدادي في إقناع عناصره بعكس ذلك.
أدرك مفكرو التيار الجهادي الثغرات الكثيرة التي اعترت بنية الفكرة الجهادية خصوصا على صعيد الخطاب السياسي، وهذا راجع إلى غياب هذا الخطاب في الطرح الجهادي الذي غلب عليه البعد العسكري والعقدي، فالتنظير السياسي في أدبيات التيار الجهادي يكاد يكون منعدما، مع مسيس الحاجة إليه خصوصا ومساحات جغرافية شاسعة تضم مدنا ومحافظات تسقط كل يوم في أيدي الجماعات الجهادية. و ما يستتبعه ذلك من ضرورة تبني خطاب سياسي ناضج و متوازن يحفظ المنجز العسكري ولا يبعثره، ويتوج مسيرة الانتصارات لا أن يعيدها إلى المربع الأول. و بالتالي أهمية التحلي بذكاء سياسي يوازي الذكاء العسكري، لأن غياب أحدهما يعني الدوران في حلقة مفرغة.
يرى مراقبون للشأن الجهادي أن التيار الجهادي عرف في الفترة الأخيرة تحولات جذرية، توخت توطين خطاب سياسي ناضج في صميم بنيته الكلية، أولا لردم الثغرات وشفط ” المقولات” التي أفرزت ظاهرة “داعش”، وثانيا من أجل تقديم الحركة الجهادية كأطروحة إسلامية ثورية متكاملة بعمق عقدي شرعي وامتداد عسكري قوي وخطاب سياسي ناضج من أجل مواجهة التحدي الذي يفرضه صعود تنظيم الدولة الإسلامية في مقابل انكسار حركة الإخوان المسلمين، وبالتالي الدفع بسردية أو أطروحة إسلامية بديلة في زمن الثورات والانقلابات والحروب الطائفية.
يمكن اعتبار كتاب ” تياب الخليفة” لأبي قتادة الفلسطيني أول محاولة تنظيرية سياسية في دائرة التداول الجهادي، وقد طرح فيه أبو قتادة عددا الأفكار غير المسبوقة في أدبيات التيار الجهادي، و التي يمكن أن تشكل مقدمة شرعية لطرح سياسي جهادي.
في نفس السياق وإن بشكل أوضح وأكثر تحديدا وملامسة للواقع قدم المفكر الجهادي المعروف عبد الله بن محمد مجموعة من الأفكار المؤسسة لممارسة سياسية جهادية متوازنة، طرح فكرته الأولى في مقال بعنوان “حرب العصابات السياسية ” وقد استعار مفهوم “حرب العصابات ” من الحقل العسكري إلى الفضاء السياسي، منوها إلى أن الصراع السياسي الواضح والمكشوف بين النظام الدولي والتيار الجهادي يعني خسارة هذا الأخير للصراع، تماما مثل خسارته المتوقعة لأي نزال عسكري مكشوف لا يتبع فيه أسلوب حرب العصابات المعتمد على تكتيكات الكر والفر، وبالتالي ضرورة عدم التموقع الواضح للكيانات الجهادي بخطاباتها العتيقة الصارمة في مراحل البناء السياسي، وأكد على أهمية تبني خطاب سياسي تشاركي شوروي لا ينشغل بالجزئيات خصوصا في لحظات معاناة الشعوب وحاجتها لمن يكفكف دمعها ويوفر لها ضرورات العيش ويحفظ لها أمنها وحياتها، لا أن يؤلب عليها العالم تحث شعارات عاطفية غير مجدية ولا أهمية تذكر لها.
في المقال الثاني المطروح من عبد الله بن محمد المعنون ب “صناعة القرار الجهادي” أشار إلى المشكلة المرتبطة بصناعة القرار الجهادي حيث يحتل ” المشايخ” مكانة بارزة في عملية صناعة القرار داخل الجماعات الجهادية، وما ينطوي عليه ذلك من سلبيات على مستوى التوجيه السياسي والإستراتيجي، التي تعتبر مجالات لا يفهم فيها ” الشيخ” وإن كان دوره حيويا على صعيد الفتيا النوازل الفقهية، ونبه الجماعات الجهادية إلى “عدم ربط سياساتها بآراء شرعيين لا يفقهون الشأن السياسي”، في الوقت التي تطلع فيه مراكز الدراسات ومستودعات الفكر ومعاهد البحث بصناعة القرار وتوجيه السياسات في الغرب والمجتمعات الحديثة بشكل عام.
في المقال الثالث ” التمكين في العصر الحديث” حاول عبد الله بن محمد تقديم تصور جديد لمفهوم التمكين مخالف لما هو دارج في الأدبيات الجهادية، ويرى الكاتب ” أن مشكلة التيار الجهادي مع مصطلح التمكين تكمن في أنه يختصره في السيطرة المسلحة ” وعندما يواجه في ظل ما يراه تمكينا بحاجات الناس المعيشية وما يتصل بها من خدمات إدارية ورعاية شؤونها في الداخل والخارج يقف عاجزا أمام ملائمة تمكينه المفترض مع ضرورات الناس الحيوية، وبالتالي تتزعزع ثقة الناس بالشعارات المرفوعة، ويصطدم الجهاديون مع واقع أرادوا تغييره جملة فلفضهم جملة، ويذهب المنجز العسكري الباهر ضحية غباء سياسي صارخ، لا يراعي التدرج و لا يرى السيطرة والنفوذ سوى في إخضاع الآخر وإرغامه.
يكشف المسح السريع لخريطة النفوذ الجهادي وجود هذا التحول في بنية الخطاب الجهادي، وهناك أمثلة كثيرة يمكن أن تقرأ في هذا السياق لعل أهمها ما يسمى بوثيقة أزواد التي كتبها قائد القاعدة في الجزائر والصحراء أبو مصعب عبد الودود، وفيها توجيهات للقوى الجهادية المسيطرة على شمال مالي، حيث يمكن ملاحظة المرونة الكبيرة في اللغة التي صيغت بها الوثيقة حتى يُخيل إليك أنك بصدد بيان صاغه مناضل ديمقراطي أكثر منه جهادي مخضرم.
وأيضا نموذج الحكم والإدارة الذي قدمته جبهة النصرة بمعية الجماعات الأخرى في جيش الفتح خصوصا في إدلب، حيث اتفق الجميع على تسليم المدينة لإدارة مدنية، وتحييدها في أي صراع نفوذ بين الجماعات، وتفريغها من التجمعات والحواجز العسكرية الضخمة، وعلى هذا المنوال سرت الجماعات المشكلة لجيش الفتح في كل مدينة يقومون بتحريرها، في اليمن أيضا سيطر تنظيم القاعدة على مدينة المكلا وانسحب منها تاركا إياها لإدارة محلية أهلية لتسيير شؤونها. إذن هناك تحول عميق في استراتيجية التيار الجهادي، تحول سيرغم كل خصومه على تغيير نمط المواجهة والصراع معه.
يقول كتاب ونشطاء في التيار الجهادي عبر وسوم فعلوها على مواقع التواصل الإجتماعي إن هذا التغيير في نمط المواجهة والاشتباك مع التيار الجهادي قد بدأ فعلا من خلال استهداف قادة ورموز يتبنون هذا التوجه الجديد داخل التيار الجهادي ففي أسابيع قليلة صفيت نخب بارزة في التيار كالقيادي حارث النظاري وإبراهيم الربيش ونصر الانسي في اليمن وأحمد فاروق وقاري عمران في باكستان وأنباء عن تصفية عزام الأمريكي أيضا هناك. فيما لم يتم استهداف قيادي واحد في تنظيم الدولة الإسلامية مند تدشين التحالف الدولي ضده في السابع من أغسطس من عام 2014 حتى مع الانكشاف الأمني للتنظيم وقادته، واعتماده السيطرة المكانية واستخدامه المفرط لوسائل الإتصال الحديثة التي يسهل تعقبها واستهداف كل من يستخدمها بسهولة ودقة. ما يلقي بظلال من الشك حول النوايا الحقيقية للغرب اتجاه تنظيم الدولة الإسلامية، هل يسعى فعلا للقضاء عليه، أم يريده جاثما على المنطقة ككيان وظيفي يعترض مسار تحرر الشعوب ويمنح مسوغات استعبادها واحتلالها.