عبد الغني مزوز
بينما تلفظ حملة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب أنفاسها الأخيرة في السعودية على وقع ضربات أمنية دقيقة وجهتها السلطات هناك لقادة وخلايا التنظيم منذ 2003 إلى 2007 اختار جهادي شاب مفعم بالحماس ومتشبع بأفكار القاعدة القفز من سفينة التنظيم الغارقة في السعودية والبحث عن ساحة جهادية أخرى يصنع فيها اسمه كأحد المنظرين الجهاديين الصاعدين. هكذا قرر الذهاب إلى أفغانستان والاقتراب من دائرة صنع القرار الجهادي، والجلوس مع أكثر الرؤوس المطلوبة في العالم، اختار لنفسه اسما حركيا هو ” أبو مريم الأزدي” وشرع في كتابة أولى نصوصه العنيفة ونشرها على المواقع والمنتديات الإسلامية. بعد حوالي عشر سنوات وجد أبو مريم الأزدي نفسه في زنزانة مظلمه مكبل اليدين ومعصوب العينين، في مكان ما باليمن، ينتظر تنفيذ حكم بالإعدام في حقه بتهمة التجسس، صدر الحكم من قضاة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، التنظيم نفسه الذي نظر له “الأزدي” وحرر إشادة به نصوصا كثيرة ضمن ما حرره من نصوص في مسيرته الجهادية الغريبة والمثيرة. فماهي قصة أبي مريم الأزدي؟ وما هو موقعه في الحيثيات والسياقات التي صنعت وأججت الأزمات والتصدعات داخل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب؟ وماهي تفاصيل هذه الأزمات وكيف بدأت؟
حبكات بوليسية مدهشة
الامتياز الذي يتمتع به أي كاتب متخصص في شؤون تنظيم القاعدة في اليمن هو أنه لن يحتاج إلى خيال خلاق ليصنع حبكات مثيرة لتحقيقاته وقصصه عن التنظيم، لأن تاريخ التنظيم وواقعه حافل بالتفاصيل الغريبة التي يمكن أن تتحول إلى حبكات تتحدى خيال جون لوكاريه وألفريد هتشكوك ومارتن سكورسيزي، لقد عززت القاعدة في اليمن حضورها في المشهد العالمي كمجموعة جهادية خارجة عن المألوف منذ عملية الهروب من السجن في 2007 والتي نفذها من سيصبح لاحقا قادتها المؤسسون.
فصول كثيرة من قصة تنظيم القاعدة في اليمن تجلت فيها الاثارة والتشويق مثل الهروب الجماعي لقادته من السجون في مناسبات عدة، وعمليات الاغتيال النوعية التي خطط لها؛ كاستهداف طاقم تحرير مجلة شاري إبدو، ومحاولة اغتيال محمد بن نايف، وتصنيع العبوة الخفية، والطرود البريدية المفخخة، وعملية عمر عبد المطلب، ودخوله في حرب أمنية مع أجهزة المخابرات الدولية أودت بحياة معظم قادته الكبار، وإعلانه عن اكتشاف خلايا تجسسية داخل صفوفه كانت على تماس مباشر مع مؤسسيه وأمراءه وأخرى تشغل مناصب رفيعة في التنظيم. آخر المنعطفات التي وجد التنظيم نفسه عالقا فيها كان عبارة عن أزمة داخلية أصابت بنيته التنظيمية وخلفت تصدعات عميقة لم يختبر مثلها منذ تأسيسه. وخلافا لطبيعة الخلافات التي تعصف عادة بالتنظيمات الجهادية لم تكن أسباب الخلافات داخل القاعدة في اليمن مرتبطة بالمسائل العقدية والشرعية أو تنافسا على المناصب القيادية، وإنما راجعة في أساسها إلى احتجاج مجموعة من أمراءه على الأحكام القضائية التي صدرت وجرى تنفيذها بحق شخصيات أخرى بارزة في التنظيم، وما استتبع ذلك من رفض للمساطر والإجراءات القضائية التي اعتمد عليها جهازه الأمني في القضايا المتعلقة بالتجسس وأمنه الداخلي. على الأقل هذا ما أجمعت عليه الوثائق والبيانات الرسمية التي صدرت عن طرفي الخلاف، وسنحاول في الفقرات اللاحقة رسم صورة واضحة عن ملابسات ما جرى من حرب أمنية وخلافات وتصفيات عاشها الفرع الأخطر من فروع التنظيم.
بداية الأزمة
عقب اغتيال قائد التنظيم ناصر الوحيشي في حزيران يونيو 2015 دشن الجهاز الأمني التابع لتنظيم القاعدة حملة أمنية واسعة هدفها الكشف عن العناصر والخلايا التي تستعين بها المخابرات الدولية في تحديد أماكن قادته. فناصر الوحيشي ليس أميرا لتنظيم القاعدة في اليمن فحسن بل كان أيضا نائبا لأيمن الظواهري، ومرشحا بارزا لتولي منصب القائد العام للقاعدة، وقد فوض إليه الظواهري صلاحيات كثيرة تتعلق بالحسم في الخلافات التي تحصل داخل الوسط الجهادي. حسب بيانات وإصدارات التنظيم اللاحقة سيبدو للجميع أنه نجح فعلا في تطويق الاختراقات الأمنية في صفوفه، وأنه استطاع توقيف معظم الخلايا والعناصر التي زرعت شرائح التعقب في سيارات ومقرات ومضافات التنظيم وأدت إلى استهداف قادته وعناصره. تفاعل أنصار التنظيم على المنصات الإلكترونية مع المنجز الأمني غير المسبوق للقاعدة في اليمن، وعبروا عن إعجابهم بالضربة النوعية التي وجهتها للاستخبارات الدولية. وظنت القاعدة -كما أنصارها- أن واحدة من معضلاتها الكبرى قد تم حلها. ولم تكن تدري أنها قد فتحت لتوها الباب على مصراعيه لواحدة من أكبر التحديات في تاريخها، تحديات قادرة على تمزيقها وتقويض فاعليتها الميدانية.
بعد سنتين من مقتل أبي بصير ناصر الوحيشي، تصاعد نفوذ الجهاز الأمني في تنظيم القاعدة، وتمتع عناصره ومسؤوليه بصلاحيات كبيرة بقيادة المصري إبراهيم البنا، ولم يكن يسمح لقادة كبار في التنظيم بالاطلاع على الملفات الأمنية الحساسة، وما عرضته مؤسسة الملاحم للإنتاج الإعلامي في إصداراتها لم يكن -باعترافها- سوى جزء يسير مما سُمح لها بالاطلاع عليه. وطغت قضايا التجسس على اهتمامات الجهاز الأمني فشن حملة تطهير داخل التنظيم استهدفت أعدادا كبيرة من المشتبه بهم من ضمنهم قادة ميدانين وشرعيين وإعلاميين وغيرهم.
في سياق هذه الظروف التي خيم فيها هاجس التجسس والخيانة على التنظيم، وتراكمت فيه القضايا الأمنية المثيرة للجدل، اعتزل مجموعة من القادة وعلقوا عملهم في التنظيم احتجاجا على استفحال التصفيات الأمنية داخل تنظيمهم، وطالبوا بتفسيرات منطقية لما يجري، و”إصلاح حال الجماعة إصلاحا جذريا” ومن أبرز هؤلاء المعتزلين: أبو عمر النهدي وهو أحد قيادات التنظيم وشرعييها، كان أميرا على مدينة المكلا أثناء سيطرة القاعدة عليها، ولعب دورا مهما في المعارك ضد الحوثيين وتنظيم الدولة. والقائد العسكري لمنطقة قيفة منصور الحضرمي، ومصعب الشرقي وحسان القصيمي وعزام الإبي وحسين قروش العدني وأبو داوود الشروري، وعزام الحوطي وعشرات آخرون من العناصر والقادة الذين شغلوا مناصب رفيعة ومتوسطة في التنظيم. طالب المعتزلون باعتماد مسارين لحل أزمتهم مع قيادة القاعدة في اليمن، الأول؛ يتمثل في وضع أيمن الظواهري في صورة ما جرى عبر مذكرة ترفع إليه وانتظار موقفه الملزم للطرفين. والثاني؛ عبر إنشاء محكمة مستقلة تبث في دعوى المعتزلين وتصدر حكمها النافذ بحق كل الأطراف.
فتحت قيادة القاعدة ممثلة في الأمير السابق قاسم الريمي قنوات اتصال مع المعتزلين، وأوفدت للحوار معهم في 29 من تشرين الثاني نوفمبر 2019 كل من خالد باطرفي وسعد عاطف العولقي. بعد جلسة مطولة من النقاش وقع الطرفان اتفاقا لتسوية الخلاف؛ ينص على كتابة المعتزلين لمذكرة لا يطلع عليها أحد ترسل إلى أيمن الظواهري بواسطة خالد باطرفي. تتضمن المذكرة شرحا لحيثيات الأزمة وشكاوى بعض الشخصيات المتضررة من السياسة الأمنية للتنظيم. ونص الاتفاق أيضا وإن لم يرد في بنوده المكتوبة على إقامة محكمة شرعية مستقلة للحسم في القضايا المتنازع عليها بين الطرفين. لم يتم التنصيص على هذا البند كتابة لأن المعتزلين طلبوا مهلة للتشاور، هل يذهبون رأسا إلى محكمة مستقلة أم ينتظرون رد أيمن الظواهري على مذكرتهم أولا. لاحقا أبلغ المعتزلون قيادة القاعدة أنهن سينتظرون رد أيمن الظواهري أولا ثم يمضون بعد ذلك إلى محكمة مستقلة، وطلبوا منها إدراج بند المحكمة في النسخة الأصلية من الاتفاق الذي تحتفظ به وارسال نسخة منه إليهم، لكن مرت ثلاثة أشهر وقيادة القاعدة لم ترسل النسخة المعدلة من الاتفاق. في غضون ذلك كتب المعتزلون المذكرة التي سيقوم خالد باطرفي بإرسالها إلى أيمن الظواهري دون أن يطلع عليها أحد، لكن باطرفي -كإجراء أمني- أراد إعادة تحرير الرسالة بنفسه في مستند آخر وإرساله، الأمر الذي اعترض عليه المعتزلون، فتعطل بالتالي هذا الجزء من الاتفاق. بعث قاسم الريمي أمير التنظيم رسالة خطية إلى أحد المعتزلين أكد فيها رفضه القاطع ” التحاكم إلى طرف ثالث خارج التنظيم” يطلع على مجريات التحقيق وأسرار التنظيم، وطالب بدلا من ذلك بمراسلة الظواهري وإرسال ملف التحقيقات إليه وهو يتكلف بحل الإشكال إما بمتابعة القضية بنفسه أو تكليف من يقوم بذلك، ورأت قيادة القاعدة أن التحاكم إلى طرف ثالث هو اعتداء على صلاحيات القيادة العامة في أفغانستان، وستكون هذه القضية مقدمة لفوضى من القضايا التي يريد أصحابها أن يُفوض حلها إلى محاكم خارجية. حاول الطرفان حل الخلافات بينهم عبر الوساطات والرسائل إلا أن الأمور ضلت عالقة، فقررت قيادة القاعدة -حسب رواية المعتزلين- منعهم من الذهاب لجبهة قيفة لقتال الحوثيين وتنظيم الدولة الإسلامية.
في 29 من يناير /كانون الثاني 2020 قُتل قاسم الرسم الريمي في قصف جوي لطائرة من دون طيار، فتولى خالد باطرفي (أبو المقداد الكندي) إمارة التنظيم. وفي 26 فبراير/شباط 2020 أرسل المعتزلون رسالة إلى باطرفي يذكرونه فيها بقضيتهم، ويطلبون موقفه الصريح من المسارين الذين جرى التوافق عليهما سابقا لحل الخلاف وهما، أولا: الالتزام بمحكمة مستقلة سواء داخل التنظيم أو خارجه. ثانيا: إرسال مذكرة إلى الظواهري لا يطلع عليها أحد آخر سواه، وهددوا بإرسال المذكرة إلى الظواهري بطرقهم الخاصة إن لم يلتزم باطرفي بشرط عدم اطلاع أحد آخر عليها. رد خالد باطرفي على الرسالة وكتب إليهم مطمئنا إياهم بأنه قد كلف القياديان أبي أسامة العولقي وريان الحضرمي بالجلوس معهم، ونقل ما استجد من مواقف التنظيم إليهم.
في 28 من آذار /مارس 2020 جلس ريان الحضرمي وأبو أسامة العولقي مع المعتزلين وأبلغوهم أن خيارات القيادة الجديدة لحل الخلاف هي: التحاكم إلى محكمة داخلية أو إرسال مذكرة إلى الظواهري، وإن لم يتفاعل المعتزلون إيجابا مع هذين الخيارين في ظرف 10 أيام فإن قيادة التنظيم ستبادر بنفسها إلى الفصل في القضية بالطريقة التي تراها مناسبة. احتج المعتزلون على موقف التنظيم وأخبرا المبعوثين أنهم لن يقبلوا بمحكمة داخلية لأن قضاة التنظيم هم أنفسهم قضاة القضايا الأمنية وبالتالي فهم جزء من المشكلة وطرف في النزاع، كما أن معظمهم يفتقدون الأهلية اللازمة للبث في الملفات المعقدة. وكمحاولة اجتهادية من المبعوثين لإيجاد صيغة توافقية بشأن المحكمة اقترحا عقد محكمة داخلية على أن يتم توثيق مجرياتها بالفيديو، وفور صدور أحكامها ترسل الأشرطة إلى شيوخ التيار الجهادي لتمييز الأحكام قبل تنفيذها. وافق المعتزلون على هذه الصيغة، لكن قيادة القاعدة رفضتها وأعلنت أن المبعوثين تصرفا من تلقاء أنفسهما وتجاوزا صلاحياتهما، و”عاتبهما باطرفي على اجتهادهما وبين لهما أسباب رفضه للمحاكمة بتلك الصيغة”. على إثر ذلك خاطب المعتزلون قائد التنظيم في رسالة خطية خاصة قائلين:” لن نرسل المذكرة من طرفكم وسنتعامل معها بما يرضي الله.. وإن رفضكم للمحاكمة هو عندنا تهرب من شرع الله”. اضطر ريان الحضرمي وأبو أسامة العولقي إلى نشر شهادة داخلية في 07 من أبريل /نيسان 2020 بعد وصول الخلاف إلى نقطة الاستعصاء، وأكدا من خلالها أنهما طرحا خيار تصوير جلسات المحاكمة من تلقاء أنفسهما وهو غير ملزم للطرفين إلا بعد موافقتهما عليه وإرسال الفيديو إلى خمسة من مشايخ التيار الجهادي لتمييز الأحكام، وسيكون لقضاة هذه المحكمة وهما أبو عبد الله الحضرمي وأبو أسامة العولقي ولهيئة التمييز المقترحة صلاحية الاطلاع و”مراجعة كل الهاردرات والفلاشات والتصاوير والرسائل ومسائلة السجانين والمحققين” وأكدا أن مجموعة أبو عمر النهدي وافقت على المحكمة بهذه الصيغة إلا أن قيادة القاعدة رفضت الجزء الخاص بوثيق أطوارها بالفيديو، واقترحت بدلا من ذلك أن يكون للقاضيين حق استشارة من شاؤوا من مشايخ التيار الجهادي.
أقدم المعتزلون (مجموعة أبو عمر النهدي ومن معه) على خطوتين تصعيديتين بعد تأزم الخلاف، الأولى: عبر تأكيدهم أن جميع عناصر وقادة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب معنيون بالمحاكمة لأن أغلبهم كانوا أمراء أو مكلفين بعمل ما في التنظيم. وأبدوا من جانبهم استعدادهم للمثول أمام أي محكمة مستقلة لحسم النزاع القائم، والخطوة الثانية وهي الأهم هي: قرار التوجه إلى الإعلام ونشر قضايا الخلاف على منصات التواصل الاجتماعي لكسب تعاطف الرأي العام الجهادي.
التصعيد الإعلامي
في 19من أبريل/نيسان 2020 هز تسجيل صوتي بعنوان “معذرة إلى ربكم” الأوساط الجهادية المحسوبة على تنظيم القاعدة، التسجيل عبارة عن بيان صوتي صادر عن مجموعة من قيادات تنظيم القاعدة في اليمن، ينعون فيه شخصيات جهادية وازنة تم إعدامها من قبل التنظيم بتهمة التجسس، واعتبروا ذلك ” كارثة وفاجعة ارتكبها فرع اليمن بحجج هي أوهن من بيت العنكبوت” وهي أفعال “تذكر بجرائم دولة البغدادي بحق العلماء والمجاهدين” وعبروا عن استعدادهم لتأكيد “براءة من قتلوا في المحاكم المستقلة” وبطلان الإجراءات المتخذة في حقهم “بدءا من أسباب القبض ومجريات التحقيق وما يسمى بالقرائن إلى المحاكم الصورية الخالية من كل الضمانات العدلية” وشبهوا ما قامت به القاعدة في اليمن بما قامت به الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر من قتل لمحمد السعيد والرجام، وأضافوا أن الأمير الجديد للتنظيم كما الأمير السابق قاسم الريمي لم يتفاعلوا كما يجب مع مطالبهم، المتمثلة أساسا في التحاكم إلى محكمة شرعية مستقلة وإن كان قضاتها من القاعدة نفسها على أن يقوم شيوخ التيار الجهادي بمراجعة الأحكام حال صدورها. وطالبوا أيمن الظواهري وشيوخ التيار الجهادي في نهاية البيان بالتدخل ” وإلزام القوم بالتحاكم إلى الشريعة”. ومن أبرز القادة الذين أعدمهم التنظيم وجاء نعيهم في الكلمة الصوتية كل من: ” أبو مريم الأزدي” وهو من مشايخ وكتاب التيار الجهادي المشهورين، و “فياض الحضرمي” ويشغل منصب المسؤول الأمني الميداني، وهو ممن التحق بالساحة العراقية منذ بداية الاحتلال الأمريكي في 2003، وانضم إلى “كتيبة الاستشهاديين” التي شكلها أبو مصعب الزرقاوي في ذلك الحين، كلفه هذا الأخير بمهمة في السعودية فاعتقل هناك لمدة ستة سنوات، ثم دخل إلى اليمن مستأنفا مشواره الجهادي. كما نعى البيان الصوتي القيادي في التنظيم “عبد الله باوزير” المعروف أيضا بسعيد شقرة وهو رئيس اللجنة المالية، أمضى عشر سنوات مقاتلا في صفوف تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. أربك البيان الصوتي الأوساط الجهادية المحسوبة على القاعدة، وامتنعت أغلب المؤسسات والمنصات المناصرة للتنظيم عن التعليق مكتفية بالصمت والانتظار، بينما احتفى أنصار تنظيم الدولة الإسلامية بالتطور الجديد الذي طرأ على غريمهم في اليمن، وتناقلت مجموعاتهم البيان الصوتي في شماتة ظاهرة، وقد واكبوا من قبل هذه الأحداث قبل نزول البيان الصوتي، عندما نشرت قناة مناصرة للتنظيم تقريرا بعنوان” تنظيم القاعدة في اليمن.. الاعتزال الكبير” تضمن جانبا من أزمة القاعدة في اليمن.
في 16من أبريل/نيسان 2020 أصدر هؤلاء المعتزلون -انشقوا لاحقا- ملحقا تفصيليا لبيانهم الصوتي، أدانوا فيه قيادة التنظيم، لكنهم حرصوا على تأكيد تمسكهم بأفكار التيار الجهادي وشيوخه واعترافهم غير المشروط بأيمن الظواهري أميرا عاما للقاعدة، بل لم يسجلوا اعتراضهم على تولي خالد باطرفي قيادة الفرع اليمني خلفا لقاسم الريمي. وشددوا في نهاية الملحق على مطلب المثول أمام محكمة شرعية مستقلة يرضاها الطرفان و” أما إن رفضت قيادة فرع اليمن إلا مصادرة حقنا في الرضى فإننا نقول للشيخ أيمن حفظه الله ولمشايخ التيار الجهادي ولعموم الحركة الجهادية خذوا على أيدي قيادة التنظيم في اليمن وأطروهم على الحق أطرا كيلا تغرق السفينة ولئلا يكون سكوتنا على دماء هؤلاء القادة وغيرهم من المظلومين سبب لانحراف المسيرة وضياع التضحيات وخشية أن تكون النهاية كنهاية دولة البغدادي”.
في 11من مايو/ أيار 2020 تحدث تنظيم القاعدة في اليمن أخيرا، وأصدر بيانا من 18 صفحة بعنوان” ولا تكن للخائنين خصيما” لخص فيه روايته لما جرى. ووصف من نعاهم البيان الصوتي الأول (الأزدي و شقرة وفيض) بالجواسيس، وأكد استعداده لعقد محكمة داخلية للنظر في القضايا موضع الخلاف، على أن تكون لقضاتها صلاحية استشارة من شاؤوا من شيوخ التيار الجهادي، ووافق على إرسال مذكرة بما جري إلى أيمن الظواهري واتهم الطرف الآخر بالمماطلة في إرسال المذكرة، وذكر البيان أن قائد التنظيم السابق قاسم الريمي طالب مرارا من أبي عمر النهدي عقد جلسة حوار بينهما لاطلاعه على ملف التحقيقات مع القادة الموقوفين قبل تنفيذ حكم الإعدام بحقهم إلا أن النهدي تهرب من اللقاء مرارا، فاضطر التنظيم أخيرا إلى تنفيذ أحكام الإعدام. وعبر التنظيم عن إدانته لخطوة التصعيد الإعلامي التي لجأ إليها الطرف الآخر واعتبرها خيانة وتسريبا “لوثائق المجاهدين التي كانت في الكتمان والسرية”.
كشف بيان القاعدة عن معطيات مهمة من ضمنها أن رؤوس المجموعة المعتزلة كانوا في الواقع جزءا من المنظومة الأمنية للتنظيم، وبعضهم اُسندت إليه مهمة التحقيق مع القادة الذين جرى إعدامهم بعد ظهور مؤشرات على تورطهم في أعمال تجسسية. فأبي عمر النهدي كان من المكلفين بالقبض على الجواسيس تنفيذا لأوامر اللجنة الأمنية وهو من قام بالقبض على القياديين “فياض الحضرمي” و” عبد الله باوزير” المعروف بسعيد شقرة، الذين نعاهم المعتزلون في كلمتهم الأولى ووصفوهم بالشهداء. يزعم التنظيم في بيانه أن أبا عمر النهدي لم يبد أي تحفظ على مساطر الاعتقال والتحقيق المعتمدة لدى اللجنة الأمنية، ولم يحتج على أحكام الإعدام إلا بعد 8 أشهر من تنفيذها. أما أبو داود الصعيري فقد واكب المجهود الأمني للتنظيم، والتقى بالمحققين والقضاة المعنيين بقضايا التجسس، وكان من المكلفين بمتابعة ” أبي مريم الأزدي” بعد ظهور شبهات التجسس عليه، ولم يستنكر أيا من الإجراءات المتبعة إلا بعد 8 أشهر من تنفيذ أحكام الإعدام.
إبراهيم أبو صالح المسؤول الأمني وخالد باطرفي يشرفان على عمليات الإعدام
إذن، فالمعتزلون كانوا مطلعين على الملفات الأمنية المثيرة للجدل، وكانوا في وقت ما جزءا من النشاط الأمني للتنظيم، وجاء احتجاجهم بناء على مشاهداتهم وتماسهم المباشر مع المحققين والقضاة وأيضا مع المشتبه بهم في قضايا التجسس. أراد التنظيم في بيانه الإيحاء بأن هؤلاء الذين اعتزلوا التنظيم بسبب منظومته الأمنية كانوا في الواقع جزءا من هذه المنظومة، ولمح أيضا إلى وجود دوافع خفية وراء اعتزال من اعتزل غير ما زُعم في بياناتهم الصوتية والنصية. ولم ينس التنظيم في بيانه التشديد على أن ” الجواسيس تم القبض عليهم بموجب شرعي ونالوا جزائهم” ونوه بـ ” استقلالية القضاء في الجماعة وحريته وهيبته ونفاذ أحكامه وكفاءة قضاته” وأن” القضايا لا تعالج بالتشهير والإشاعة وزرع الفتنة وتفريق الكلمة والتأثير على سير الجهاد”.
إبراهيم أبو صالح المسؤول الأمني لتنظيم القاعدة في اليمن
في 19من يوليو /تموز 2020 أصدر المعتزلون بيانا جديدا بعنوان” وقفات مع بيان الطرف الأول” وهو عبارة عن رد مفصل على بيان القاعدة السابق، جددوا من خلالهم مطالبهم بـ “محكمة شرعية مستقلة في الدماء والأموال والأعراض” وخاطبوا قيادة قاعدة اليمن بالقول إنه “من الخيانة لله ورسوله السكوت عن جرائمكم” وأن هدفهم هو” الدفاع عمن ثبت ظلمكم وقتلكم له بغير موجب شرعي” بسبب ” وقوعكم في مرض التشكيك والتخوين” و”نحن نحاول صد عاديتكم وصيالكم على الأبرياء لا على العملاء” وذكر البيان أن قيادة القاعدة هي التي بدأت بتصعيد الموقف عندما وزعت بين أفراد التنظيم كلمات صوتية تهاجم المعتزلين وتشبههم بالمنافقين. ورفض المعتزلون في البيان الاعتراف بكون القضاء داخل القاعدة مستقل ونزيه ونافذ الأحكام كما زعمت القاعدة في بيانها واعتبروا القاعدة” جَماعة متخفية مشردة لا يعلم أهل اليمن بقضائهم العام إلا فِي بعض المناطق القبلية الوعرة أو المناطق التي سيطروا عليها وأما جَمهور أهل اليمن فلا يعلمون عن قضائهم شيء”
قاضي تنظيم القاعدة في اليمن أبو بشر(يسار) في جلسة قضائية
وفي ردهم على ما اعتبره تنظيم القاعدة في اليمن إفشاء لأسرار التنظيم قال المعتزلون في البيان:” وما ذكروه من إفشاء الأسرار هو في حقيقته جرائم ومنكرات يجب انكارها وعدم السكوت عليها فلا تسمى أسرار بل هي جرائم الظالمين ولا كرامة” وختم المعتزلون بيانهم المطول بإعلانهم الاعتزال والقطيعة التنظيمية مع القاعدة قائلين:” وفي ختام هذه الوقفات وبعد أن تبين لنا مدى انحراف جماعة قاعدة الجهاد في جزيرة العرب وإصرارهم على الطعن في دين المجاهدين وأعراضهم والتشكيك فيهم وتخوينهم وتجريدهم من أعز ما يملكون وهو الدين ورفضهم للنزول لمحكمة شرعية مستقلة وغير ذلك من انحرافات؛ فإننا نعلن نحن الطرف الثاني في تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب تركنا واعتزالنا لهذه الجماعة التي ترفض النزول لشرع الله عز وجل عند طرف مستقل مع بقاء مطالبتنا لهم بمحكمة شرعية مستقلة في الدماء والأعراض والأموال فالحق لا يسقط بالتقادم والمحكمة الشرعية يجب النزول لها أياً كان المطالب بها، فمتى ما وافقوا عليها في أي ساعة من الدهر فسنلبي ونأتي خاضعين طائعين لشرع رب العالمين فيما لنا أو علينا إذا طلبوا أحدنا في أي قضية عند محكمة شرعية مستقلة ونسأل الله أن يهدي قادة هذه الجماعة للحق ويردهم إليه رداً جميلا . ولم يعد بيننا وبين هذه الجماعة أي رابطة أو علاقة تنظيمية سوى رابطة الاسلام والايمان والتي هي أعلى من جميع العلاقات الأرضية والروابط البشرية”.
جاسوس خراسان
تحدث المنشقون عن تنظيم القاعدة في اليمن في رسالتهم الصوتية الأولى عن المزاعم المتهافتة للتنظيم بشأن نجاحه في كشف خلايا تجسسية خطيرة اخترقت الحلقة القيادية في التنظيم، وكان ضمن من نجح في كشفهم شخصية غامضة وصفها التنظيم بأنها “جاسوس خراسان”. فمن هو جاسوس خراسان؟
لم يكن التنظيم يعني بجاسوس خراسان سوى ذلك الشاب الذي غادر السعودية في 2007 تزامنا مع فشل حملة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ، وحط رحاله في أفغانستان، واتخذ لنفسه اسما حركيا هو ” أبو مريم الأزدي” وبدأ بعد فترة نشاطه مؤلفا و كاتبا في المنتديات والمواقع الجهادية على الانترنت، واسمه الحقيقي “أحمد بن عبد الله بن صالح الخزمري الزهراني”، لقد كان النقطة التي أفاضت كأس أزمات القاعدة في اليمن، فعقب إعدامه بتهمة التجسس اعتزل عدد من قادة وعناصر القاعدة تنظيمهم احتجاجا على ذلك، ولا يزال لغز إعدامه محيرا لكثير من أنصار التيار الحهادي.
أبو مريم الأزدي
ولد أبو مريم الأزدي سنة 1978 بمدينة الدمام السعودية، ولم تتضح على وجه التحديد أدواره في الحملة التي شنها تنظيم القاعدة في السعودية ابتداء من 2003 والتي استهلها بتفجيرات دامية استهدفت مجمعات سكنية ورعايا أجانب في مناطق سعودية عدة. في 2007 اختفى الأزدي عن الأنظار، مغادرا بلده إلى أفغانستان، عبر إيران. كان كبار قادة القاعدة حينها ومعهم المقاتلين العرب والأجانب يتخذون من منطقة وزيرستان على الحدود الباكستانية الأفغانية مقرا لهم، استقر أبو مريم الأزدي في هذه المنطقة مشاركا في فعاليات القاعدة التي بنت تحالفا صلبا مع طالبان باكستان. التقى هناك بقادة كبار في القاعدة وشارك في الدورات الشرعية والعسكرية والأمنية التي أشرفوا عليها، حيث شارك في دورة الأمنيات التي أطرها القيادي المنحدر من السعودية عبد الله العدم، ودورات في علوم الدين أطرها القيادي الليبي ورئيس اللجنة الشرعية للقاعدة حسن قائد المعروف بأبي يحيى الليبي، كما التقى بشخصيات جهادية بارزة أهمها عطية الله الليبي. في عام 2013 غادر الأزدي منطقة وزيرستان وتوجه إلى سوريا عبر إيران، كانت التنظيمات الجهادية حينها في طور التشكل. في سوريا سيلتقي بعدد من الشخصيات الجهادية القادمة من أفغانستان أو التي سبق لها أن خاضت تجارب قتالية فيها، عُرف هؤلاء في سوريا بمجموعة خراسان. لسبب ما سيغادر الأزدي سوريا على الأرجح سنة 2015 وسيتوجه إلى اليمن، معززا صفوف تنظيم القاعدة هناك. فتح حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي باسم “شيبان” واستأنف نشاطه في الكتابة والتأليف. ألقت عليه اللجنة الأمنية في القاعدة القبض، وحكم عليه بالإعدام بتهمة التجسس لصالح المخابرات الأجنبية ونفذ فيه الحكم في 2019. سنحاول في السطور القادمة تشريح قصة الأزدي.
ظهر اسم ” أحمد عبد الله صالح الخزمري الزهراني” على سطح الأحداث لأول مرة في شباط فبراير 2009 عندما أصدرت السلطات السعودية قائمة للمطلوبين من 85 اسما، ضمت إلى جانب الخزمري أسماء ستصبح لاحقا قيادات بارزة في القاعدة مثل سعيد الشهري وصالح القرعاوي وإبراهيم حسن عسيري وماجد الماجد. في 24 من كانون الثاني /يناير أدرجت وزارة الخارجية الأمريكية ” الخزمري” على قائمة الإرهاب، واعتبرته قائدا في تنظيم القاعدة، ومقربا من قياداته العليا، واستنادا إلى مصادر مفتوحة -حسب نص قرار الخارجية الأمريكية- فإن الخزمري موجود في باكستان على الأقل منذ 2009، وهو موضوع نشرة حمراء وبرتقالية أصدرتها الإنتربول بحقه بسبب انتمائه وتورطه في أعمال منظمة إرهابية. وفي 23 سبتمبر /أيلول 2014 أدرجه مجلس الأمن الدولي في قائمة الإرهاب “لانتمائه إلى تنظيم القاعدة ولمشاركته في تمويل أو التخطيط أو تسهيل أو الإعداد أو التجنيد أو توريد الأسلحة لصالح التنظيم” ونوه قرار مجلس الامن إلى أن الخزمري موجود في سوريا منذ 2013. وفي 8 من تشرين الأول /أكتوبر من نفس العام صنفه الاتحاد الأوربي بدوره في قائمة الشخصيات المرتبطة بالإرهاب، وفرض عقوبات عليه.
عند تحليل المواد التي أصدرها تنظيم القاعدة في اليمن خصوصا المتعلقة منها بالقضايا الأمنية وملفات التجسس نجد أنه يصنف عددا من النشاطات في خانة الأعمال التجسسية المعادية للتنظيم، مثل: ترويج أفكار المخالفة لمنهج التنظيم؛ حرف مسار التنظيم؛ التخذيل والإرجاف؛ التحريش؛ خلق المشاكل وتغذيتها.. يعني ذلك أن أي عضو في التنظيم قد يجد نفسه في خانة الجواسيس إن أفصح يوما عن أفكار وملاحظات تخالف منهج التنظيم وعقيدته العسكرية، لاسيما وأمير التنظيم السابق أبو هريرة قاسم الريمي كان صارما في خطاب له عندما قال:” من يضع نفسه في موضع الشبهة فلا يلومن إلا نفسه”. يحيل تصريحه هذا إلى أحد أهم نقاط الخلاف داخل تنظيم القاعدة في اليمن وهي مسألة “القرائن”، أي الأخذ بتظافر المؤشرات وليس الأدلة اليقينية في إثبات التهم على المشتبه فيهم. فهل كان أبو مريم الأزدي ضحية لقرائن ظنيه استند عليها قضاة التنظيم في إثبات تهمة التجسس عليه، والحكم عليه بمقتضاها بالإعدام.” قرائنكم لا ترتقي إلى مرتبة القرائن المتوهمة.. قرائنكم لا تدخل في دائرة القرائن الظنية فضلا عن القطعية، ولمعرفتنا بخبايا المحاكمات والقرائن المزعومة ندرك لماذا يصر القوم على عدم النزول للمحكة الشرعية المستقلة” هكذا صرحت مجموعة أبو عمر النهدي في بيان لها، وقد وعدت بكشف ضعف المنظومة القضائية للقاعدة في اليمن ” بدءا من أسباب القبض ومجريات التحقيق وما يسمى بالقرائن إلى المحاكمات الصورية الخالية من كل الضمانات العدلية”. وإذا كان الازدي قتل بناء على جملة من القرائن فماهي هذه القرائن؟ سنحاول في الفقرة القادمة إعادة رسم الصورة استنادا إلى ما نشره التنظيم نفسه في إصداراته الرسمية، وما نشره المنشقون عنه، وما صدر عن الأزدي من نصوص وكتابات خلال مسيرته.
مهام الجواسيس حسب تنظيم القاعدة في اليمن
لا شك أن الأزدي أعدم بناء على مجموعة من القرائن والمؤشرات التي رآها التنظيم كافية لإثبات تهمة الجاسوسية عليه. ولا يمتلك التنظيم في واقع الأمر أدلة دامغة تدين المتهم بالمنسوب إليه، أولا: لأن المطالبين بدم الأزدي والمحتجين على إعدامه هم أنفسهم من قاموا بالتحري عنه واعتقاله (أبو داود الصعيري كان عضوا في اللجنة الأمنية عندما تم توقيف الأزدي، ومكلفا بمتابعته)، ولو توفر عندهم دليل واحد ضده لما استنكروا لاحقا اعتقاله واعدامه. ثانيا: لو كانت بحوزة التنظيم أدلة كافية ضده (اعترافات مثلا) لما تردد في إخراجها، إما في إصداراته الرسمية أو سيبعث بها إلى رموز التيار الجهادي ولانتهت المشكلة عند هذا الحد. فهل كان أبو مريم الأزدي ممن “وضع نفسه موضع الشبهة” حسب تعبير أمير التنظيم السابق؟
مكث الأزدي في منطقة وزيرستان بضع سنوات، التقى خلالها بأمراء كبار في القاعدة، وشارك في الدورات العسكرية والأمنية والشرعية التي أشرفوا عليها. وخلال تواجده في هذه المنطقة الحدودية بين أفغانستان وباكستان استهدفت طائرات الدرون معظم القادة الذين التقى بهم، مثل حسن قائد، وعطية الله الليبي، وعبد الله العدم. في 2013 سيصل الأزدي إلى سوريا ضمن من وصل من مجموعة الخرسانيين، وستبدأ آلة القتل عن بعد ” الدرون” باستهدافهم واحدا بعد آخر. بعدها سيغادر الأزدي إلى اليمن ملتحقا بصفوف القاعدة. استأنف نشاطه في الكتابة من جديد وحرر آلاف الصفحات حول الفكر والحركة الجهاديين، نشر بعضا منها وتحفظ التنظيم على بعضها الآخر. ألقت اللجنة الأمنية القبض عليه، واعتبر التنظيم توقيفه إنجازا أمنيا كبيرا، فالموقوف لم يكن جاسوسا عاديا بل خطيرا وعابرا للحدود، إنه جاسوس خراسان. لقد حملت القاعدة في اليمن للأزدي مسؤولية الاغتيالات التي طالت القيادات الجهادية في وزيرستان وربما في سوريا أيضا. رفض المنشقون هذه المزاعم وأكدوا أن توقيف التنظيم ما اعتبره جاسوس خراسان “جهل فاضح تدل عليه كل التطورات الأخيرة”، وأنهم “مستعدون لإثبات براءة الشيخ من هذه التهمة عند محكمة شرعية مستقلة يشرف عليها علماء الجهاد” ونوهوا إلى أن التنظيم لا يريد ” أن يطلع أحد على قضية الشيخ أبي مريم الأزدي”.
افترض تنظيم القاعدة في اليمن أن المخابرات الدولية أوعزت للأزدي بالذهاب إلى اليمن لأن التنظيم هناك بحاجة إلى كوادر شرعية، وسيستغل منصبه بعد ذلك لصالح مستخدميه. وقد تكون لاعترافات رشاد قرشي عثمان “أبي تراب السوداني” التي بثها التنظيم في إصدار رسمي له علاقة بقصة الأزدي، حيث نشر التنظيم اعترافات مصورة للمواطن السوداني “رشاد قرشي عثمان” الذي اتهمه التنظيم بالمسؤولية المباشرة عن مقتل قائده الأسبق أبي بصير ناصر الوحيشي. صرح أبو تراب السوداني بأنه نقل إلى رؤسائه حاجة تنظيم القاعدة إلى دعاة وشرعيين لتأطير الدورات الشرعية، وخلال فترة من الوقت وصل إلى اليمن -حسب منطوق كلام السوداني- كل من حسام الخالدي وشخصية لم يرد التنظيم الإفصاح عنها فكثم صوت السوداني بواسطة المونتاج عندما نطق بها، فمن هي تلك الشخصية التي وصلت وتحفظ التنظيم عنها؟ في الواقع هناك روايتان، الأولى لعائلة حسام الخالدي التي صرحت بأن حسام ذهب إلى اليمن مع صديقه فارس المطيري، وعندما قررا العودة إلى السعودية اعتقلهما التنظيم وحكم عليهما بالإعدام بتهمة التجسس. الثانية: هي ” للسياسي المتقاعد” وهو من الناشطين المقربين من القاعدة، حيث أكد في مقال له بأن حسام الخالدي ذهب إلى اليمن مع أبي بلال الحربي، والأخير شخصية مثيرة للجدل في وسط الجهاديين وسيصبح لاحقا شرعيا لتنظيم الدولة في اليمن. ونرجح أن يكون أبو مريم الأزدي وصل إلى اليمن في تلك الفترة، فاعتبر تنظيم القاعدة وصوله في ذلك الوقت “قرينة” من القرائن التي استند عليها في إدانته بالتجسس. فلا معنى لتحفظ التنظيم على اسم “فارس المطيري” وقد وثق عملية إعدامه مع صديقه حسام الخالدي بالصوت والصورة، ولا معنى كذلك لتحفظ على اسم ” أبو بلال الحربي” وقد كان خصما شرسا للقاعدة في اليمن، وستكون بالتالي اعترافات السوداني مناسبة للتعريض بتنظيم الدولة، والشرعي الوحيد الذي وصل إلى اليمن في تلك الفترة واتهمته القاعدة بالتجسس هو أبو مريم الأزدي.
ثمة ملاحظة أخرى جديرة بالتأمل وهي أن المواطن السوداني في الاعترافات التي بثها التنظيم قال بأنه نبه رؤسائه إلى حاجة القاعدة إلى كوادر شرعية، ثم أضاف بالحرف: ” وفي تلك الفترة وصل حسام الخالدي ووصل….” أبو تراب لم يقطع بأن من وصل كان هدفه التجسس، أو أنهم جاءوا بأوامر من جهات استخباراتية، هو فقط قال ” وصلوا”، لكن تنظيم القاعدة ترجم تصريحات السوداني إلى اللغة الإنجليزية بالصيغة التالية:” وفي تلك الفترة أرسلوا حسام الخالدي وأرسلوا..” وتعكس هذه الترجمة النصية المصاحبة للاعترافات جانبا من القرائن التي أستند عليها التنظيم في ملفات التجسس. أثار المنشقون أيضا قضية التعذيب الذي قالوا إنه يمارس على نطاق واسع في السجون التي تشرف عليها الجنة الأمنية في التنظيم. لقد تحدثوا في بياناتهم عن ” أساليب التحقيق المتوحشة” و” أهوال التعذيب الجسدي” التي تدفع المتهمين إلى الاعتراف بالمنسوب إليهم وإن كانوا منه براء، لم ينف التنظيم في بياناته هذا الأمر، غير أن الإصدارات المرئية التي نشرها حول قضايا الجواسيس أظهرت جلسات قضائية أنكر فيها بعض المتهمين تعرضهم للتعذيب، وظهر قاضي التنظيم أبو بشر محمد درامة وهو يستوثق من المتهمين عدم تعرضهم للضغط والاكراه قبل النطق بالحكم عليهم.
أبوتراب السوداني الذي اتهمته القاعدة بالمسؤولية المباشرة عن اغتيال زعيمها الأسبق ناصر الوحيشي
كتب أبو مريم الأزدي عشرات الكتب والمقالات المتنوعة منذ بداية العقد الماضي، واللافت أن معظم كتاباته الأخيرة مؤرخة بتاريخ 1436 الموافق لعام 2015 ميلادي، أي السنة التي استقر فيها في اليمن. القارئ لكتاباته سيجد أن الرجل متشبع بالفكر الجهادي ودارس لأدبياته ومطلع أيضا على انتاجات رموز الصحوة الإسلامية. الملاحظة الأساسية في هذا السياق أن الأزدي متأثر أكثر بأبي مصعب السوري ويعتمد في كثير من مواقفه على نصوص ومقتطفات من كتبه، بما فيها تلك التي انتقد فيها التيار الجهادي، وأحيانا يقوم باجتزاء فصول كاملة من كتبته ويعيد نشرها رغبة منه في لفت الأنظار إليها. وكثيرا ما يحيل بالدقيقة والثانية إلى أشرطته ومحاضراته، ما يعكس دراسته المتفحصة لتراث أبي مصعب السوري. فهل عبر الأزدي عن مواقف لم ترق لقيادة القاعدة في اليمن، مواقف تماهى فيها مع النزعة النقدية لأبي مصعب السوري فوضع بذلك نفسه موضع الشبهة بتعبير قاسم الريمي، ثم وجد نفسه في دائرة التجسس، التي تشمل أيضا من يروج آراء تخالف أجندة التنظيم. وماهي الكتب الأخرى التي كتبها الأزدي وتحفظ عليها تنظيم القاعدة في اليمن، وطالب المنشقون عنه بالإفراج عنها ونشرها، هل يمكن أن تقدم مضامينها تفسيرا لمصير صاحبها.
تاريخ من حروب التجسس
ارتبط الفرع اليمني للقاعدة بقضايا التجسس منذ بواكير تأسيسه، فعلى المسرح اليمني وقعت أول عملية استهداف مباشر لشخصية جهادية بواسطة طائرة من دون طيار. حدث ذلك في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2002 عندما استهدفت طائرة الدرون مبعوث أسامة بن لادن إلى اليمن ومؤسس أولى خلايا القاعدة هناك، قايد بن سالم الحارثي المعروف بأبي علي الحارثي وأردته صريعا. وفي تاريخ 11 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 أي بعد عقدين من اغتيال الحارثي اعترف خالد باطرفي في تصريح له أن طائرات الدرون التجسسية اغتالت حوالي 1600 عنصر من القاعدة في اليمن، دون أن يحدد بالضبط الفترة الزمنية التي حصلت فيها هذه الاغتيالات. وقبل اغتيال الحارثي تواترت قصص التجسس داخل أوساط الجهاديين منها قصة أحمد نصر الله (أبو إبراهيم المصري) الذين كان عضوا في جماعة الجهاد المصرية ومقربا من أيمن الظواهري، وكان ينشط في اليمن إلى جانب شقيق الظواهري وأعضاء آخرين من جماعة الجهاد، قرر بسبب تبرمه من سياسة أميره وقراره التحالف مع أسامة بن لادن وإعلان الحرب على الولايات المتحدة قرر التواصل أواخر التسعينيات مع السلطات اليمنية والإبلاغ عن رفاقه الجهاديين، ووعد بالكشف عن مكان وجود الظواهري في تعز، والبيوت الآمن للجهاديين في اليمن وغيرها، دخل إلى مقر وزارة الداخلية اليمنية لعرض خدماته، وبعد سلسلة من الإجراءات انتهى به المطاف في مكتب عبد السلام الحيلة أحد كبار المسؤولين في جهاز الاستخبارات اليمنية، استجوبه الحيلة وبعد التأكد من جدية الرجل، خرجا من المكتب سويا. ومن سوء حظ أحمد نصر الله أن الحيلة كان متعاطفا مع الجهاديين فما كان منه إلا أن اتصل بمعارفه في الوسط الجهادي محذرا إياهم من وجود جاسوس بينهم. هذا التعاون المزعوم بين الحيلة والجهاديين كلفه لاحقا 19 عاما في غوانتنامو.
في عام 2021 سرد إبراهيم القوصي وهو قيادي كبير في تنظيم القاعدة ويتخذ من اليمن مقرا له رواية القاعدة بشأن هذه القضية وذكر أن أبا إبراهيم المصري كان المسئول الشرعي لتنظيم القاعدة في الأيام الأولى لتأسيسه ويعتبر إلى جانب أبو حفص الكمندان ومصطفى أبو اليزيد وسيف العدل من أوائل الرجال الذين عينهم أسامة بن لادن في مواقع قيادية رفيعة في القاعدة. كان أبو إبراهيم المصري -حسب رواية القوصي- من شيوخ الجهاديين في بيشاور وكانت دروسه وأشرطته توزع على نطاق واسع هناك، في أواسط التسعينيات غادر إلى اليمن وهناك اتصل بالمخابرات اليمينة (الأمن السياسي) عارضا ما بحوزته من معلومات وملفات خطيرة عن تنظيم القاعدة وتفاصيل عن بنيته ومشاريعه، واتفق أن كان كثير من مسئولي الأمن السياسي حينها أعضاء في حزب الاصلاح، فقام أحدهم بتنبيه عناصر القاعدة في اليمن بوجود عميل وسطهم. أيمن الظواهري من جانبه أشار بشكل مختلف ومقتضب إلى هذه القصة في كتابه “فرسان تحت راية النبي”. كما نشرت صحيفة الشرق الأوسط في 2002 نقلا عن وثائق سرية عثر عليها في الكمبيوتر الشخصي لأيمن الظواهري الذي ضاع منه عقب التدخل الأمريكي في أفغانستان، نشرت تفاصيل قضية أبو إبراهيم المصري وتحقيقات الجهاديين بشأنها.
نقل الإعلام العالمي قصصا مثيرة عن نجاح المخابرات الدولية في اختراق صفوف قاعدة اليمن، منها نجاح أحد العملاء في الهروب بالقنبلة المبتكرة التي طورها إبراهيم حسن عسيري، بعدما أقنع القاعدة بأنه سيستعملها في استهداف مصالح غربية، فانتهت القنبلة في أيدي خبراء الـ FBI في ولاية فرجينيا، وجاء في تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية أن هدف العميل الذي يعمل لصالح المخابرات البريطانية كان الكشف عن مكان تواجد خبير القنابل في القاعدة إبراهيم حسن عسيري، لكنه أخفق في هذه المهمة، كانت القنبلة التي تسلمها العميل أكثر تقدما من تلك التي حاولت بها القاعدة اغتيال محمد بن نايف واسقاط طائرة ركاب في سماء ديترويت، إذ كانت لها آليتي تفجير: واحدة كيميائية وأخرى يدوية، لضمان انفجارها وتجنبا لسيناريو عمر فاروق عبد المطلب.
ونقل موقع CNN قصة أخرى عن اختراق المخابرات الدانمركية للقاعدة من خلال تأمين زوجة أوروبية للقيادي في التنظيم أنور العولقي، وكانت الخطة تقضي بوضع جهاز تعقب في حقائب “أمينة” وتسفيرها إلى اليمن، أمينة كانت ناشطة في المنتديات الجهادية، وراقت لها فكرة الزواج بالعولقي الذي بدت متيمة به، ولم تكن تدري أنها بمثابة طعم لاستدراجه واغتياله. وصلت إلى مطار صنعاء حيث التقت برجال القاعدة وطلبوا منها التخلص من امتعتها لدواع أمنية، وهكذا خلفت “أمينة” في المطار حقيبتها التي تحتوي على جهاز تعقب مرتبط بالأقمار الاصطناعية. وحصل العولقي على زوجة شقراء بمساعدة المخابرات الدنماركية. وتحولت أمينة بعد ذلك إلى كاتبة في مجلة inspire. العولقي لقي مصرعه لاحقا عندما سلمه أحد المكلفين بالبريد في القاعدة مفتاح usb مزود بجهاز تتبع، مكن المخابرات الأمريكية أخيرا من تحديد مكانه واغتياله بضربة جوية بواسطة طائرة من دون طيار. وحفلت إصدارات القاعدة في اليمن خصوصا سلسلة هدم الجاسوسية بقصص -تعذر التأكد من صحتها من مصادر مستقلة- لعملاء نجحوا في الوصول إلى قادتها الكبار وزرع الشرائح الالكترونية في سياراتهم وأغراضهم الشخصية.
كان جابر الفيفي عضوا في تنظيم القاعدة في اليمن، ورد اسمه في قائمة 85 مطلوبا التي أصدرتها السلطات السعودية، ذهب قبل ذلك إلى أفغانستان وكان ضمن المحاصرين في تورا بورا إبان الانسحاب الكبير عقب سقوط معاقل القاعدة وطالبان، اعتقل في غوانتنامو لسنوت قبل تسليمه إلى السعودية. استفاد من برنامج المناصحة وإعادة التأهيل وأطلق سراحه، وما لبث أن غادر إلى اليمن ملتحقا بصفوف تنظيم القاعدة، شارك في بعض فعاليات التنظيم لكنه لم يستطع إقناع نفسه بجدوى الاستمرار في ذلك الطريق، جمع ما استطاع جمعه من المعطيات والمعلومات حول التنظيم وعاد إلى وطنه السعودية في سبتمبر/أيلول 2010 مسلما نفسه وواضعا رهن إشارة الجهات الأمنية ما بحوزته من معلومات، شاركت المخابرات السعودية ما أدلى به الفيفي مع جهات استخبارية دولية معنية بتهديدات القاعدة، وكانت سببا في تعطيل مخططات القاعدة في شحن الطرود المفخخة إلى عدد من دول العالم.
سيلاحظ المتتبع لشؤون القاعدة في اليمن، أن هاجس اختراق صفوفها والتجسس على نشاطها السري قد سيطر عليها تماما، حتى أن قاسم الريمي صرح في حديث خاص نقله منشقون عن التنظيم ” أن الموثوقين في جماعته لا يتجاوزون المائة فرد والباقي ستتم مراجعة سجلاتهم كلها وهم تحت البحث والتحري”. مؤسسة الملاحم من جانبها أولت اهتماما خاصا بقضايا التجسس في إصداراتها، ونشرت عدد من الأفلام حول الموضوع مثل ” حصاد الجواسيس” و”أسرار وأشرار وسقوط أخيار” وسلسلة “هدم الجاسوسية” ووعدت بنشر إصدارات أخرى بعنوان ” قصة جاسوس” و”منظومة الضربة الجوية للطائرات التجسسية” كل ذلك من أجل تكريس الوعي أمني بين صفوفها. في 3 من ديسمبر /كانون الأول 2018 أصدرت القاعدة تعميما ملزما حظرت بموجبه على أعضائها في اليمن استعمال الهواتف والولوج إلى الانترنت أو اخراج أسرارها وتوعدت المخالفين للقرار بعقوبات رادعة.
اعترف خالد باطرفي في آخر ظهور له بأن المخابرات الدولية نجحت في اختراق الحلقة القيادية في التنظيم، وأن عملائها وصلوا إلى مناصب حساسة فيه، لكنه أكد أن المجهود الأمني خصوصا في عهد الأمير السابق قاسم الريمي مكن من كشف أغلبهم وتحييد خطرهم. واعتبر ذلك أمرا دارجا في الحروب منذ عصور، مستشهدا بجيش الرسول الذي يضم كثيرا من المنافقين بين صفوفه حسب تعبيره. ولا يفوت القاعدة أن تنوه في كثير من المناسبات إلى أنها نجحت أيضا في اختراق صفوف أعدائها كما حدث مع عملية استهداف محمد بن نايف، والهجوم على صحيفة شارلي إيبدو، وعملية الطرود المفخخة وغيرها.
خاتمة
أعلن زعيم القاعدة في اليمن في آخر ظهور له أن المشاكل الداخلية لتنظيمه قد جرى حل أغلبها، وبنسبة تصل إلى 90 بالمائة، وهي من أعراض الحملة الأمنية على الجواسيس حسب تعبيره. وربما كان ظهور أيمن الظواهري أخيرا مؤشرا على عودته إلى تدبير شؤون أفرع تنظيمه بعد فترة طويلة من الغياب، لكن لا يعني ذلك أن التنظيم تعافى تماما من تداعيات مشاكله الداخلية، فنادرا ما ينجح تنظيم عقائدي في ذلك دون أن يخلف ورائه شظايا لمجموعات منشقة، أو شخصيات ناقمة. وبما أن المنشقين عن التنظيم لم يظهروا حتى الآن في صيغة جماعة منظمة فيمكن القول أن استثناء حدث في حالة القاعدة في اليمن، هذا إن لم تحمل الأيام القادمة تطورات أخرى.