الوصول السريع للمحتويات

بعد “وثبة الأسود”.. ما أهمية صحراء الأنبار بالنسبة لتنظيم داعش؟

أعادت عملية “وثبة الأسود” التي نفذتها القوات العراقية بتنسيق مع التحالف الدولي ضد تنظيم داعش في 29 من أغسطس الماضي تسليط الضوء مجددا على الأهمية التي تحظى بها صحراء الأنبار في الاستراتيجية الحربية لتنظيم داعش، ودورها في خطط الكمون والإعداد التي ينتهجها التنظيم. 

لقد أسفرت عملية “وثبة الأسود” حسب بيان لقيادة العمليات المشتركة عن مقتل 14 فردا من داعش، بينهم قيادات وازنة في الصف الأول، أبرزهم نائب والي العراق، ووالي الأنبار، ومسؤول التنصنيع والملف الكيميائي، ووالي الجنوب، ومسؤول ملف الاقتصاد وغيرهم، كل ذلك يؤكد أن التنظيم لا يزال يتخذ صحراء الأنبار ملاذا لقادته وعمقا استراتيجيا لتحركاته.

الحصن المنيع

تعد محافظة الأنبار أكبر محافظات العراق، إذ تبلغ مساحتها حوالي 138 ألف و 500 كيلومتر مربع، بما نسبته حوالي ثلث مساحة العراق الإجمالية، وتشكل الصحراء القاحلة غالبية مساحة المحافظة. وتمتد غربا من الحدود السورية والأردنية إلى الحدود السعودية في الجنوب.

تحتفي أدبيات تنظيم داعش بصحراء الأنبار، وتصفها ب ” الحصن المنيع ومقبرة الغزاة الصليبيين وحلفائهم المرتدين” و ” الحصن الذي تحطمت عليه أحلام أعداء الله” وبأنها “مصنع الرجال ومنبع ومصب مادة الجهاد من قادة وجنود، ولا يُذكر الجهاد إلا وكان لصحراء الأنبار قصص ومواقف”.

تكمن الأهمية الحيوية لصحراء الأنبار بالنسبة لتنظيم داعش في كونها توفر بوديانها وتضاريسها القاسية ومساحاتها الشاسعة غطاء لتحركات أفراده وخلاياه، فالوصول إلى عمقها من أجل تمشيطها يحتاج إلى خطوط إمداد طويلة جدا، وأعداد هائلة من القوات، وإسنادا لوجستيا كبيرا، والتنظيم يفضل كثيرا خطوط الإمداد الطويلة لاسيما إذا توغلت في عمق الصحاري حيث يمكنه تفخيخ الطرق، ونصب الكمائن الموضعية، والإغارة الخاطفة على الثكنات والتجمعات المؤقتة للقوات المهاجمة، ويبقى تكتيك العبوات الناسفة الأكثر استخداما في التصدي للقوات المتوغلة في الصحراء كما تظهر إصدارات التنظيم.

إضافة إلى الغطاء الذي توفره الصحراء بتضاريسها القاسية ونتوءاتها الصخرية، فالتنظيم يعتمد عليها أيضا في جمع أفراده وتأهيلهم بدنيا ومعنويا قبل الزج بهم في المعارك، من خلال إقامة معسكرات التدريب والدورات الشرعية. فالصحراء توفر مساحة آمنة لإطلاق النار، واستخدام مختلف أنواع الأسلحة والمناورة بالعربات، وتجربة الخلطات المتفجرة بكل أريحية. ونسبة كبيرة من “معسكرات الإعداد” التي أقامها تنظيم داعش قبل اجتياحه للمدن في سوريا والعراق،  أقامها في صحراء الأنبار، وبعد هزيمته في العراق في 2017 عاد مجددا إلى الإعتماد على صحراء الأنبار في تأهيل مقاتليه وتدريبهم.

الكاتب والباحث العراق الراحل هشام الهاشمي نبه في كتابه “عالم داعش” إلى جانب مهم آخر في صحراء الأنبار بالنسبة للجماعات المسلحة وهو ” تعدد مصادر الأموال ” والذي عده سببا في طول عمر الجماعات المسلحة هناك. ولأنها منفتحة على حدود ثلاث دول فسيعرف نشاط التهريب فيها رواجا كبيرا. فضلا عن أن داعش يرى في الأنبار وصحرائها ممرا حيويا لتحرك عناصره بين سوريا والعراق، وربط ولاية العراق مع ولاية الشام.

بوابة التمكين

يعتبر تنظيم داعش صحراء الأنبار بمثابة حجر الزاوية في خطط التمكين التي ستتوج بدخول القدس حسب ظنه. وقد عبر الناطق الرسمي الأسبق باسمه أبو محمد العدناني عن أهمية صحراء الأنبار في استراتيجية تنظيمه قائلا:” يا كواسر الأنبار، أنتم ذراع الدولة الباطشة وسيفها البتار، فعندكم مصنع الكوادر ومنبع القيادات” وأضاف:” أنتم قلب المعركة لأنكم فرس الرهان، فعلى ثراكم انطلاق الجهاد كان، ومن عندكم يبدأ الحسم متى حان، وكما أنكم بوابة الدولة الغربية التي من خلالها الوصول إلى القدس إن شاء الله”. 

الواقع، أن سيطرة تنظيم داعش على ثلث العراق ونصف سوريا في 2014 لم يكن ليتم لولا توظيفه الاستراتيجي الناجح لصحراء الأنبار، فعندما انهزم التنظيم في 2007 بالعراق، وطرده من المدن والأحياء من قبل قوات الصحوة والجيش العراقي والقوات الأمريكية، انحاز بكل ثقله إلى صحراء الأنبار، وأشرف من هناك على سلسلة من التفجيرات الدامية التي استهدفت مقرات سيادية في بغداد، ضمن ما عُرف ب” غزوة الأسير”، وعلى سلسلة من العمليات الأمنية الأخرى في مختلف أرجاء العراق، وحافظ على استراتيجية الكمون والترقب إلى أن بدأت الاحتجاجات والاعتصامات المطالبة برحيل رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي في 2012.

وما إن بدأت أولى المواجهات المسلحة بين المجالس العسكرية التي شكلها الأهالي بعد فض اعتصاماتهم، واعتقال النائب أحمد العلواني، وقتل أخيه علي العلواني في 30 ديسمبر 2013 حتى بدأت أرتال التنظيم تخرج من أعماق الصحراء متجهة إلى داخل مدن الأنبار مستغلة حالة الفوضى السائدة حينها، ولم تمض سوى بضعة أسابيع حتى نجح التنظيم في احتواء المجالس العسكرية مستخدما سياسة الترغيب والترهيب.

فمن مجموعات مقاتلة معزولة في الصحراء استطاع التنظيم السيطرة في أوائل 2014 على الفلوجة إحدى أهم مدن الأنبار ثم سيطر على مدن القائم والرطبة وحصيبة، وكانت خططه واضحة حينها، إذ يريد استغلال زخم تقدمه للسيطرة على كامل الأنبار والدخول عبرها إلى العاصمة بغداد. ثم سيطر على مدينة الكرمة وأجزاء من عامرية الفلوجة على أطراف بغداد الغربية، ثم سيطر على مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار. وتوقف اندفاعه الساحق من عمق صحراء الأنبار على تخوم العاصمة بغداد، قبل أن يتمدد شمالا ويسيطر على الموصل وغيرها. ويؤكد هذا الاستعراض الموجز خطورة صحراء الأنبار، ولماذا خاطب العدناني مقاتليها  بالقول ” فعلى ثراكم انطلاق الجهاد كان، ومن عندكم يبدأ الحسم متى حان”.

ملاذ آمن

رغم أن  محافظة الأنبار شهدت منذ 2006 ظهور أبرز المشاريع المناهضة لتنظيم القاعدة والجماعات المتحالفة معه في سياق ما عُرف بمجالس الصحوة، ومن الأنبار انطلقت فكرة “صحوة العشائر” لتمتد إلى باقي محافظات العراق لاسيما ديالى وصلاح الدين ونينوى، وكان لها الدور الأبرز في طرد تنظيم “دولة العراق الإسلامية” خارج المدن والبلدات العراقية، رغم ذلك بقي داعش مصرا على التواجد في محافظة الأنبار، واتخذ من صحرائها منطلقا لشن هجمات مميتة استهدفت رموز الصحوة وشيوخ العشائر الذين يناوؤونه.

تشير الهويات والمراكز القيادية التي يشغلها بعض القتلى الأربعة عشر في عملية “وثبة الأسود” أن صحراء الأنبار لاتزال الملاذ الآمن لعدد من قيادات داعش. و أن جزءًا من نشاطاته التخريبية في العراق يتم التخطيط والإعداد له من صحراء الأنبار.

لعل السؤال المطروح في هذا الإطار هو: إذا كانت صحراء الأنبار ملاذا آمنا لهذه القيادات الوازنة فلماذا لا يتمركز بها أمراء داعش الذين قتلوا في سوريا؟ لماذا استقر البغدادي مثلا في بلدة باريشا في إدلب شمال غرب سوريا إن كانت صحراء الأنبار أكثر أمنا له؟ الجواب أن أمراء داعش يعتمدون في تواصلهم ومراسلاتهم على السعاة الذين ينقلون ويوصلون البريد بأيديهم، ولا يستخدمون وسائل التواصل الحديثة حتى لا يتم اعتراضها أو تحديد أماكنهم بواسطتها، ومن الصعب على هؤلاء السعاة قطع مسافات شاسعة في أعماق الصحراء لتوصيل رسالة إلى “الخليفة” أو الإتيان بها من عنده، وهي العملية التي قد تأخذ وقتا طويلا قد يصل إلى أسابيع، لاسيما وممرات الصحراء محفوفة بالمخاطر، وقد يسقط ناقل البريد في أيدي رجال العشائر أو الدوريات الأمنية أو حتى قطاع الطرق. 

ولأن أمراء داعش يحتاجون إلى خط تواصل آمن وآني وفعال للإشراف على ولايات التنظيم القريبة والبعيدة، فإن الصحاري المعزولة ليست المكان المناسب للقيام بمهامهم هذه.

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية