الوصول السريع للمحتويات

تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.. التكوين، الخطاب، الإستراتيجية (5)

في يونيو 2015 بثت قناة الجزيرة تحقيقيا استقصائيا بعنوان “مخبر القاعدة” عرضت فيه اعترافات لمن قالت إنه ناشط في القاعدة عمل مخبرا لصالح الحكومة اليمنية بزعامة علي عبد الله صالح، وسرد العميل مجموعة من الوقائع قال إنه كان شاهدا عليها وتؤكد أن القاعدة عبارة عن بندقية كلاشنكوف يوجهها علي صالح حيثما شاء، وأنه زار ورشة إبراهيم العسيري السرية والتي يعد فيها قنابله المتطورة وبلغ عنها السلطات الأمنية في صنعاء دون أن تفعل شيئا إزاءها، وأضاف أن قاسم الريمي (أبو هريرة الصنعاني) أمير التنظيم الحالي يذهب بنفسه إلى مكتب العقيد عمار ليطلعه على مستجدات التنظيم.

يعزز الفيلم الصورة السيريالية لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، كما تصورها بعض نظريات المؤامرة التي ترى أن جزءا من التيار الجهادي يدين في انتشاره إلى الدعم الغربي أواسط الثمانينات، وأن بن لادن مجرد واجهة يتم التحكم فيها من قبل جهات تعمل لصالح أجندتها الخاصة. ولم يعرض الفيلم في الواقع أي وثيقة أو تسجيل صوتي أو مستند يعزز بها روايته، وقد ردت القاعدة على مضامين الفيلم في مقال نشره إبراهيم العسيري[1].

إلا أن هذا لا يعني أن تنظيم القاعدة كان عصيا على الاختراق، فلا شك أنه تعرض لعمليات اختراق كبيرة أدت إلى خسارته لعدد من قيادات الصف الأول، واعترف التنظيم بذلك في أكثر من مناسبة[2] وأوقف جواسيس وصلوا إلى مواقع حساسة في التنظيم، مثل همام الحميدي الذي عمل في مؤسسة الملاحم كما ساهم في إنشاء مؤسسة البتار الإعلامية المقربة من تنظيم الدولة وظل متواصلا مع مخابرات إقليمية ودولية، وبلغ عن أماكن تواجد بعض كبار قادة القاعدة الذين قتلوا تباعا[3].

من أهم عمليات الاختراق التي تعرض لها تنظيم القاعدة في اليمن حينما أفصح أحد أفرادها عن رغبته في القيام بعملية انتحارية في الخارج، فزوده التنظيم بالقنبلة الخفية التي طورها إبراهيم العسيري، وعوض أن يتوجه إلى هدفه قام بتسليم القنبلة إلى المخابرات الأمريكية بهدف فحصها والوقوف على تركيبتها والمواد المستعملة في تصنيعها وذلك قبل أن تنشر القاعدة طريقة صناعتها[4].

تحدث صحفي التحقيقات الشهير وثيق الصلة باليمن والناشط ضد عمليات التصفية بواسطة الطائرات بدون طيار جيرمي سكاهيل في كتابه “حروب قذرة” عن محاولة المخابرات الأمريكية اختراق الحلقة المقربة من أنور العولقي بطريقة معقدة، حيث قام أحد المرتبطين بجهاز المخابرات الدانماركي بوضع رسالة في أحد المنتديات الأجنبية التي يرتادها الجهاديون قال فيها بأن أنور العولقي يبحث عن زوجة مسلمة أوروبية، وبعد فترة تلقى ردا من امرأة كرواتية اعتنقت الإسلام، وأبدت رغبتها في الزواج من العولقي واستعدادها للذهاب معه إلى أي مكان، نسق العميل الدنماركي الذي كان على تواصل مع العولقي بين المرأة الكرواتية البالغة من العمر 32 سنة وبين العولقي عبر رسائل إلكترونية مشفرة، تم تأمين تذكرة سفر المرأة إلى اليمن، وكانت الخطة تقضي بزرع شريحة تعقب في حقيبتها، ورصدها من الجو حتى تلتقي بالعولقي فتقوم طائرة مسيرة بقصف موقعهما، لكن عندما حضر الرجل الذي سيصطحب المرأة من صنعاء إلى مكان تواجد العولقي، قام بالتخلص من الحقيبة بعد إفراغ محتوياتها في كيس بلاستيكي، فضاعت فرصة تحديد مكان أهم شخصية مطلوبة في اليمن[5].

أظهرت وثائق “أبوت أباد” طبيعة العلاقة بين أسامة بن لادن وقيادة القاعدة في اليمن، فالرجل حريص على الاطلاع على أصغر تفاصيل التنظيم، ومن ثم إصدار الأوامر والتوجيهات، ولم يظهر من الوثائق أن هناك جهة أخرى تقود التنظيم وترسم أجندته، فقد استنكر مثلا في رسالة له إلى قيادة تنظيمه في اليمن صدور كلمة صوتية لسفيان الشهري لأن توقيتها لم يكن مناسبا[6]، وعندما اقترحت عليه قاعدة اليمن استخدام السم في إحدى عملياتها رفض المقترح[7]. رسائل كثيرة ومطولة ومليئة بالتفاصيل تبادلها بن لادن مع قاعدة اليمن وليس فيها ما يدل على أن هناك أحد آخر يشترك مع بن لادن في إدارة الفرع اليمني وتوجيهه.  

في 18/1/2018 نشرت مؤسسة الملاحم إصدارا مرئيا كشفت فيه عن عمليات اختراق متقدمة لتنظيم القاعدة في اليمن يقف خلفها مجموعة من الجواسيس يحملون جنسيات مختلفة أهمهم السعودي عبد الرحمن البريدي “فارس القصيمي”، استطاع هذا الأخير أن يجمع معلومات كثيرة عن التنظيم ويرسلها إلى مستخدميه، كما قام بزع شرائح تعقب أدت إلى مقتل عدد من أفراد التنظيم وقادته. وعلى مدى 36 دقيقة عرض الفيلم اعترافات عدد من الجواسيس وطرق جمعهم للمعلومات وكيف حازوا على ثقة زملائهم في التنظيم، ونُشر في نهاية الفيلم تعميم صادر عن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب منع بموجبه على كل أفراد وعناصر التنظيم استخدام الهاتف أو الانترنت أو إخراج أسرار العمل إلى أي كان، وتوعد التنظيم بإنزال العقوبة الرادعة على كل من يخالف القرارات الجديدة[8].

فتعرض التنظيم للاختراق حقيقة يعترف بها التنظيم نفسه، ونشر أكثر من مرة ما يؤكد ذلك، لكن ليس بالمستوى والكيفية التي تحدث عنها هاني مجاهد في فيلم مخبر القاعدة.

الجهاز الإعلامي

اعتنت القاعدة في اليمن بالجانب الإعلامي والدعائي من نشاطها، ويعتبر قادتها من أكثر القادة الجهاديين ظهورا في الإعلام. أصدرت القاعدة العدد الأول من مجلة صدى الملاحم في يناير 2008 وكان إخراج المجلة بسيطا وبدائيا، ومع توالي صدور أعداد المجلة -التي توقفت بعد العدد 16 الصادر في فبراير 2011 – بدت المجلة منسقة واحترافية ومتنوعة من حيث المواضيع التي تطرقها.

كما استمرت مؤسسة الملاحم للإنتاج الإعلامي في إنتاج الأفلام الوثائقية وبث الكلمات المرئية لقادة القاعدة، حيث أصدرت المؤسسة عشرات الأفلام التي وثقت لعمليات التنظيم مثل الفيلم “فزت ورب الكعبة 2” الذي تحدث عن تفاصيل محاولة اغتيال محمد بن نايف في السعودية، وسلسة أفلام “حصاد الجواسيس” و”أمريكا والفخ الأخير” و”قصة النجاة” و “أسرار وأخطار ورحيل أخيار” و”حراس الشريعة” وغيرها من الأفلام والإصدارات. ومعظمها أفلام احترافية ومتقنة من الناحية الفنية وبعضها تم نشره بعدة لغات.

إلى جانب مؤسسة الملاحم التي تصدر المواد المرئية تعمل مؤسسة البشائر على إصدار المواد الصوتية المتنوعة مثل الأناشيد الجهادية والتلاوات القرآنية.

بعد تأسيس جماعة أنصار الشريعة وامتداد عملها في المحافظات اليمنية المترامية تم اعتماد العمل بنظام المراسلين، فصار نشر الأخبار والتقارير يتم عبر المراسلين المعتمدين.

في السابق كانت مواد مؤسسة الملاحم للإنتاج الإعلامي تُنشر في المنتديات الجهادية بواسطة “مركز الفجر للإعلام”، لكن بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وقع خلاف بين القائمين على مركز الفجر حيث انقسموا بين مؤيد للقاعدة ومؤيد لتنظيم الدولة ومنذ ذلك الحين اختفى المركز فصارت كل مؤسسة جهادية تتولى نشر موادها بنفسها[9].

تزامن اختفاء مركز الفجر للإعلام مع توقف آخر المنتديات الجهادية عن العمل وصعود مواقع التواصل الاجتماعي إلى الواجهة، فكان تويتر وفيسبوك ويوتيوب ساحات جديدة لنشر المواد الجهادية. “عبد الله المجاهد” كان الوكيل الحصري المعتمد من مؤسسة الملاحم لنشر إصداراتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وغالبا ما يتم حذف حساباته في تلك المواقع بعد فتحها بساعات أو عدة أيام على الأكثر. ما جعل المؤسسة تنتقل إلى الشركة الروسية الصاعدة “تليغرام” بديلا عن تويتر وفيسبوك ويوتيوب.

في يوليو 2010 كانت شبكة الانترنت على موعد مع أخطر منشور جهادي يصدر باللغة الإنجليزية، مجلة الكترونية فائقة الاحتراف ومتقنة الإخراج بلغة انجليزية سليمة[10]، تضمنت وصفات منزلية لصناعة القنابل موقعة باسم “طباخ القاعدة”. المجلة يتعاون على إصدارها فريق تحرير صغير وإن كان تصميمها وإخراجها من أفكار سمير خان[11].

استمرت المجلة في الصدور إلى العدد الثامن حيت نجحت الطائرات الأمريكية في اغتيال معظم طاقم المجلة بمن فيهم سمير خان وأنور العولقي. كان المراقبون متأكدون من اختفاء المجلة بمقتل محرريها لكن المفاجأة كانت بصدور العدد التاسع في شتاء 2012، وكتب يحيى إبراهيم في افتتاحيتها أن “العدد التاسع قد صدر رغم كل الصعاب” منوها إلى امتلاء البريد الإلكتروني للمجلة بالرسائل التي تعرض المساهمة في إعداد المجلة، ونشر العدد التاسع صورا حصرية ومقالات عن سمير خان وأنور العولقي وأدوارهما الجهادية في اليمن. استمر صدور أعداد المجلة بنفس الدرجة من الاحترافية حيث صدر منها حتى الآن 17 عددا على فترات متباعدة، إضافة إلى ملحق بعنوان “إرشادات إنسباير”، كما باتت المجلة تصدر باللغتين الإنجليزية والعربية بينما في السابق يتم ترجمتها إلى العربية من قبل المؤسسات الجهادية الرديفة بعد صدور النسخة الإنجليزية.

المستقبل

بعد انطلاق الربيع العربي ومقتل أسامة بن لادن ثم صعود تنظيم الدولة الإسلامية كسردية جهادية جديدة ومنافسة استنتج كثير من المراقبين أن تنظيم القاعدة قد أصبح في نزعه الأخير، ولا يمكن أن يصمد في وجه التحديات التي تعترض وجوده ومسيرته، خصوصا وشباب التيار الجهادي قد يمم وجهه شطر معسكر تنظيم الدولة الإسلامية مأخوذا بوهج الإنجاز ومنبهرا بفتوحاته الممتدة في أكثر من قطر وبلد. لكن مع تراجع الربيع العربي لحساب الثورات المضادة وانهيار تنظيم الدولة الإسلامية أيديولوجيا وتنظيميا وخسارته لكل معاقله ومقتل أغلب قادته، بدا تنظيم القاعدة وقد استعاد نشاطه وعافيته مجددا في اليمن والصومال وشمال إفريقيا وغيرها. لقد رفض أيمن الظواهري فك جبهة النصرة ارتباطها بتنظيمه، ودعا إلى إعادة تشكيل القاعدة في سوريا وهو ما استجابت له بعض المجموعات المسلحة فورا، في إصرار من القاعدة على البقاء كفاعل جهادي مؤثر على خريطة العالم.

 لقد عاد خطاب تنظيم القاعدة الكلاسيكي والمتمثل في التركيز على الولايات المتحدة ليسجل حضوره في كلمات قادة ورموز التنظيم، وظهر حمزة بن أسامة بن لادن متحمسا لأفكار والده ومرددا لها في خرجاته الإعلامية المتكررة، بينما كان أيمن الظواهري أكثر وضوحا وصراحة في خطابه المنشور في 20/3/2018 المعنون بـ ” أمريكا عدوة المسلمين الأولى” إنه بمثابة الاستئناف لمسيرة القاعدة بعد مطبات الربيع العربي.

 لم يمر على اليمن ظرف يكون مثاليا بالنسبة لتنظيم القاعدة أكثر مما هو عليه الآن، دولة منكوبة ومجتمع منقسم، وطائفية مستشرية، وتحالف عربي لم يحقق شيئا مما وعد به اليمنيين بل ضاعف من معاناتهم وأزماتهم، وأمام هذا التدهور المتواصل ربما من المتوقع أن تسير قبائل اليمن وشبابه ومقاومته الشعبية خلف تنظيم القاعدة، وهذا ما أكدته مجموعة الأزمات الدولية في تقرير لها حول تنظيم القاعدة في اليمن[12]. لقد تحالف التنظيم مع تجمعات المقاومة الشعبية في أكثر من محافظة يمنية، ولا شك أنه أثر على شرائح واسعة منها، وأقنعها بأفكاره الجهادية، خصوصا وقادة المقاومة يرون طريق الحل الذي رسمته “عاصفة الحزم” قد وصل إلى نقطة الاستعصاء التي عبر عنها الصراع المحتدم لمكونات التحالف العربي على النفوذ وعلى مقدرات اليمن ومواقعه الاستراتيجية، كل ذلك قد يعطي امتيازا للقاعدة في سياق الحشد لخطابها وتوجهاتها في يمن الطائفية والانقسام والكوليرا.


[1] إبراهيم حسن طالع العسيري، مخبر القاعدة في نظر القاعدة، 30/7/2015.

[2] حصاد الجواسيس، مؤسسة الملاحم، 2/6/2014

[3] من هو المخبر السعودي الذي تسبب بمقتل قادة القاعدة، عربي 21، 29/5/2015.

[4] الغارديان: المخابرات السعودية جندت المفجر المزعوم واخترقت شبكة القاعدة في اليمن، العصر، 10/5/2012

[5] جيرمي سكاهيل، حروب قذرة، شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2016 ص 565

[6] وثائق أبوت، الدفعة الأولى، الوثيقة رقم:  SOCOM-2102-1111100

[7] وثائق أبوت، الدفعة الأولى، الوثيقة رقم:  SOCOM-2102-1111101

[8] أسرار وأخطار ورحيل أخيار، مؤسسة الملاحم، 18/1/2018 https://archive.org/details/sddb_480p

[9] كانت أول مادة جهادية تُنشر دون توقيع مركز الفجر للإعلام هي الكلمة الصوتية التي أعلن فيها أبو بكر البغدادي ضم جبهة النصرة إلى دولة العراق الإسلامية في 9/4/2013 ثم بدأ المركز في الاختفاء، وقد تسربت عدد من مواد القاعدة إلى الإعلام دون إذن القيادة مثل: “رثاء عزام الأمريكي لأبي خالد السوري” بعد تفاقم الخلافات داخل مركز الفجر للإعلام وتفرق كوادره بين مؤيد للقاعدة ومؤيد لتنظيم الدولة.

[10] بيتر فان بورين، ما بين غلافي مجلة القاعدة “انسباير”، 5/9/2014 https://ara.reuters.com/article/worldNews/idARAKBN0H013E20140905

[11] يعترف سمير خان في العدد السادس من مجلة إنسباير أنه المسؤول عن تصميم وإخراج المجلة.

[12] الأزمات الدولية: القاعدة باليمن أقوى من أي وقت مضى، الجزيرة نت، 2/2/2017 http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2017/2/2/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86-%D8%A3%D9%82%D9%88%D9%89-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D9%8A-%D9%88%D9%82%D8%AA-%D9%85%D8%B6%D9%89

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية