عبد الغني مزوز—
كنت قد كتبت مقالا قبل أيام رجحت فيه أن تقوم الجماعات الجهادية الناشطة في سيناء بالنزول إلى عمق المدن و المحافظات المصرية, للقيام بعمليات انتقامية ضد الجيش المصري ورموز سلطة الانقلاب, على غرار ما حدث في العراق عام 2003 عندما غادرت جماعة أنصار الإسلام قواعدها في كردستان بشمال العراق ونزلت إلى المدن العراقية للمشاركة في فعاليات المقاومة ضد القوات الأجنبية, وما إن انتهيت من المقال حتى نزل بيان جماعة أنصار بيت المقدس الناشطة في سيناء تعلن فيه مسؤوليتها عن محاولة اغتيال وزير الداخلية المصري اللواء محمد إبراهيم, في مؤشر واضح على صحة الفرضية التي رجحتها في المقال المذكور.
الانحياز من مكان إلى مكان أو من “تغر” إلى “تغر” تكتيك تتبعه كثير من الجماعات الجهادية الناشطة عبر مختلف بؤر التوتر في العالم, وهذا التكتيك خاضع لعوامل كثيرة قد يكون من بينها البحث عن جغرافيا جديدة للعمل وتوسيع النفوذ كما هو الحال في انحياز كتائب من دولة العراق الإسلامية إلى داخل سوريا, أو استجابة لضرورات أمنية كما هو الحال في انحياز جزء من مقاتلي حركة طالبان الأفغانية إلى إقليم وزيرستان الحدودي مع باكستان.
مازالت الرؤى والأفكار تتجاذب التيار الجهادي حول سبل التعاطي مع ما يحدث في مصر, سيما والوضع هناك بات مهيئا لتدشين محطة صراع جديدة, يكون الجهاديون فيها محور المواجهة ومحط الأنظار.ولا يزال مفكرو وكتاب ورموز التيار الجهادي منقسمين حول الإستراتيجية التي ينبغي اتباعها إزاء ما يحدث في مصر, فبينما يصر جناح داخل التيار الجهادي وهو ما يمكن نعته بجناح الصقور على فتح جبهة جديدة في مصر والانخراط في حرب عصابات مع الجيش المصري, بما يعني ذلك من إنهاء خيار السلمية الذي تبنته التيارات الإسلامية في هناك, وسحب البساط تحث أقدام جماعة الإخوان المسلمين التي تقود جهود إسقاط الانقلاب, بينما كان هذا خيار هذا الجناح لا يزال جناح آخر في التيار الجهادي أقل تشدد يؤكد على ضرورة الإبقاء على أساليب المقاومة المدنية من اعتصامات ومظاهرات, وعدم الخروج على المزاج الإسلامي العام بمصر في تبنيه لخيار السلمية ونبد العنف, مع ربط كل هذا الجهود والأساليب بمطالب أوسع من عودة الشرعية و الرئيس المنتخب إلى المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية كاملة وعدم الوقوع من جديد في أخطاء المرحلة السابقة.
الجناح الأول يمثله محمد العدناني أحد قادة دولة العراق والشام الإسلامية الذي اعتبر في آخر تسجيل له بعنوان ” السلمية دين من” أن الإخوان المسلمين “ليسو سوى حزب علماني بعباءة إسلامية”, موردا في سياق كلمته مجموعة من الملاحظات العنيفة على جماعة الإخوان المسلمين حاشرا كل من راشد الغنوشي و محمد مرسي في زمرة “الطواغيت”, نبرة التشدد والمواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين في تسجيل العدناني غير مسبوقة في تاريخ التيار الجهادي حتى في عز أزماته مع جماعة الإخوان المسلمين. إضافة إلى العدناني هناك قادة وكتاب آخرين يرون المواجهة العسكرية مع الجيش المصري أجدى من الأساليب الأخرى ومن هؤلاء أبو سعد العاملي و وطارق عبد الحليم الذي يصف الجيش المصري بجيش الاحتلال, ويصطف مع هؤلاء معظم الكتاب والناشطين الجهاديين في المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي.
أما الجناح الثاني المؤيد لخيار السلمية فيمثله مجموعة من الكتاب والمفكرين الاستراتيجيين المعروفين بولائهم لتنظيم القاعدة, وتحفظاتهم المعلنة على توجهات دولة العراق والشام الإسلامية ولعل من أبرزهم “أسد الجهاد2” و “عبد الله بن محمد” وغيرهم, فإلى جانب انتقاد الأخير لتشدد أبو محمد العدناني في كلمته المذكورة يرى أنه يمكن أن يحصل تكامل بين مشروع الإخوان المسلمين ومشروع القاعدة, لافتا إلى أن القاعدة خرجت من رحم جماعة الإخوان المسلمين قائلا: ” كتابات سيد قطب وميراث عبد الله عزام من أهم ما يرتكز عليه التيار الجهادي في العصر الحديث وكلا الشخصيتين من الإخوان المسلمين.” مضيفا أن: ” القاعدة لم تنجح في إشعال الصراع العالمي لولا الموروث الجهادي للإخوان ولم يصل الإخوان للسلطة لولا وجود القاعدة الذي جعلتهم مقبولين لدى الغرب”.هذه اللهجة التصالحية من عبد الله بن محمد وأسد الجهاد2 مع جماعة الإخوان المسلمين جعلتهم في مرمى النقد من الجناح الآخر الذي اتهمهم بالتودد للإخوان على حساب مبادئ التيار الجهادي, مع أنهما يعتبران من أبرز المفكرين الاستراتيجيين للقاعدة, وقدم المفكران توصيات بنظرية الفوضى وجدوى تطبيقها في مصر لإسقاط الانقلاب كمقترح منهما في ظل الوضع الراهن.
مصر تعتبر خزانا جهاديا هائلا فإلى جانب الوجود الجهادي الكبير في سيناء و أبرز تجل له هو الجنازة الضخمة التي أقيمت لضحايا القصف الإسرائيلي الذي استهدف نشطاء جهاديين قبل أسابيع, هناك شريحة واسعة من الجهاديين والمتعاطفين معهم من أبناء الجماعات الإسلامية الأخرى الذين يرون فيما يحدث في مصر معركة وجودية حاسمة للإسلام ولا سبيل لكسبها إلا بتفعيل المشروع جهادي وبعثه من جديد في مصر, ونجاح هؤلاء في فتح جبهة في مصر كفيل بتحويلها إلى سوريا أخرى.
تاريخيا يتمتع الكادر المصري بأهمية كبير في البنية الفكرية والحركية للتيار الجهادي, فأربعة من كبار رموز تنظيم القاعدة مصريون وهم أيمن الظواهري و أبو حفص المصري و مصطفى أبو اليزيد و أبو خباب المصري وثلاثة من أبرز المقعدين للفكر الحركي الجهادي مصريون وهم سيد قطب و عبد السلام فرج و سيد إمام, وأكبر عملية تنفذها القاعدة في تاريخها وهي هجمات سبتمبر قادها مصري وهو محمد عطا.
نجاح جماعة أنصار بيت المقدس الجهادية في خلق المبادرة باستهدافها الوزير سيكون أكبر محفز للجماعات والخلايا الأخرى للسير على منوالها, وهي نفسها توعدت بالاستمرار في عملياتها مناشدة من أسمتهم ” جميع المسلمين في مصر بالابتعاد عن جميع المنشآت والمقار الخاصة بوزارتي الدفاع والداخلية حفاظاً على أرواحهم وممتلكاتهم كما ندعوهم للالتفاف حول إخوانهم المجاهدين في حربهم ضد هؤلاء المجرمين ” هي حرب إذن وليست عملية عابرة, كتلك العمليات التي شهدتها مصر في الثمانينات والتسعينات, فالتيار الجهادي نضج عسكريا وحركيا وفقهيا, نضج صقلته سنوات من الاحتكاك العسكري والفكري والإعلامي مع الغرب ومعظم الأنظمة العربية.
في عبارة واحدة الجهاديون في مصر انتقلوا من مرحلة النأي بالنفس إلى ضبط النفس إلى المواجهة بالنفس, النأي بالنفس في بداية المشوار الديمقراطي, ضبط النفس خلال المجازر التي ترتكبها سلطات الانقلاب, المواجهة بالنفس مع استفحال المجازر والشروع في استئصال الوجود الإسلامي بمصر.