عبد الغني مزوز—
في الفترة الأخيرة كانت ملاحقة الأحداث والمستجدات المرتبطة بحالة الاحتقان الثوري والجهادي بين مختلف فصائل المعارضة السورية أشبه بالمهمة المستحيلة, فمع كل دقيقة تمر يحصل مستجد يعيد ترتيب خريطة الولاءات الجهادية في المشهد السوري, خصوصا والجميع يتخذ من مواقع التواصل الاجتماعي منبرا إعلاميا له, خصوصا موقع “تويتر” الذي يتميز بسرعة الاستخدام وتحيين الأخبار والتعليقات ووصولها إلى شريحة كبيرة من المستخدمين بسرعة قياسية.
كان إعلان الدكتور أبو بكر البغدادي عن تبعية جبهة النصرة لمشروعة ” الجهادي” في العراق, بمثابة الحجر الذي القي على بركة المشهد السوري فأربك بذلك الجميع, وقسم التيار الجهادي العالمي إلى خطين, فأمكننا بذلك الحديث عن جناحين داخل التيار الجهادي جناح الدكتور أيمن الظواهري وجناح الدكتور أبو بكر البغدادي, الأخير لم يتردد في إعلان تمرده على المرجعية الأم للتيار الجهادي عندما رفض توصيات الظواهري لحل الأزمة بينه وبين الفاتح الجولاني أمير جبهة النصرة الذي تحفظ على مباردة البغدادي بضم تنظيم جبهة النصرة إلى دولة البغدادي.
بعد هذا التطور المفصلي في تاريخ الحركة الجهادية العالمية تناسلت الأحداث وحدث شرخ عميق بين النشطاء الجهاديين في العالم و ظهر ذلك جليا في نشاطهم الإعلامي والدعائي ما بين مؤيد للبغدادي ومؤيد للظواهري وبين من يحاول الجمع بينهما عسى الأيام القادمة تسفر عن مبادرات تقارب وصلح بين الخطين.
كانت اللحظة الفاصلة في هذه التفاعلات ووصولها إلى نقطة اللارجعة هي إعلان بعض استراتيجيي التيار الجهادي– كأسد الجهاد2 و عبد الله بن محمد – عدم شرعية التعبير التنظيمي الذي يتزعمه البغدادي باسم” دولة العراق والشام الإسلامية” وكتابة بعضهم على حساباتهم في المواقع الاجتماعية وللأول مرة “تنظيم دولة العراق الإسلامية” وليس “دولة العراق الإسلامية” ما يعني تجريدهما مشروع البغدادي من مسمى الدولة. في نفس اللحظة ولأول مرة أيضا نشر الحسابان رسالة من جماعة أنصار الإسلام في العراق إلى أيمن الظواهري في أفغانستان تشكوا فيها من تصرفات دولة العراق الإسلامية وتطالب الظواهري بالتدخل.
لم يلبث تحفظ الجولاني على قرار البغدادي بضم الجبهة إلى ” الدولة” حتى أصيبت الجبهة بنزيف وانشقاقات حادة, أصيبت بعدها نشاطات جبهة النصرة الإعلامية والعسكرية بالشلل, الذي لم تستطع تجاوزه إلا بعد مدة, الانشقاقات في صفوف الجبهة أسفرت عن ميلاد فصيل جديد ضارب أعلن وفاءه للبغدادي ورضاه التام عن مشروعه التوسعي باسم “دولة العراق والشام الإسلامية”.
رغم أن الوافد الجهادي الجديد على المشهد السوري لم يمض عليه إلا بضعة اشهر إلا انه استطاع في هذه المدة الوجيزة أن يبني قاعدة عريضة جدا من المؤيدين والأتباع, واستطاع السيطرة على مناطق شاسعة في سوريا ومازال يحقق تقدما صاروخيا على حساب الفصائل الأخرى, رغم أن كبار كتاب ومفكري القاعدة بما فيها القيادة الموجودة في أفغانسان يتحفظون وان بدرجات متفاوتة عليه وعلى اختياراته الشرعية والإستراتيجية وحتى العسكرية والتكتيكية. ولعل من اكبر الرافضين له حتى بصيغته العراقية الأولى هو القيادي في القاعدة ادم يحيى غدن المعروف بعزام الأمريكي الذي استنكر تصرفات دولة العراق الإسلامية خصوصا قيامها بالهجوم على كنيسة سيدة النجاة ببغداد.
العجيب في مشروع البغدادي أنه كلما حضي بمنسوب اقل من الدعم المعنوي من القيادات الإسلامية الأخرى, كلما ارتفعت أسهمه في بورصة العمل العسكري على الأرض فيحرز نجاحات كبيرة في مدد قياسية.
في سوريا معظم الفصائل الثورية والجهادية وقعت لها مناوشات مع دولة العراق والشام الإسلامية لكن جميعها ينزع إلى الهدوء وتجاوز المشكلة بأقل قدر من الخسائر, لأن الأيدي الضاربة للدولة الإسلامية قد تطال الجميع ولا يهمها أن تفتح جبهة مع معظم فصائل الجيش الحر وهي على ثقة تامة بكسبها.
أحرار الشام و جبهة النصرة و لواء أحفاد الرسول و لواء الإسلام و لواءات وكتائب في الجيش الحر و عاصفة الشمال كلها فصائل وتشكيلات عسكرية وقعت بينها وبين الدولة الإسلامية مناوشات وتراشقات إعلامية وعسكرية, لعل أخطرها عندما قام لواء عاصفة الشمال بإعلان الحرب على الدولة الإسلامية في منطقة أعزاز الأمر الذي قابلته الدولة بالمثل متوعدة بإبادة اللواء ودحره عن المدينة وهو الأمر الذي تم بمنتهى السهولة والأريحية دون أن يسفر تدخل لواء التوحيد عن أي شيء باستثناء المحافظة على حالة الأمر لصاح الدولة, أخطر ما في هذه الحالة هو أن دولة العراق والشام الإسلامية قامت بدحر لواء عاصفة الشمال من مدينة أعزاز على أساس أنهم مرتدين يعملون لصالح الولايات المتحدة والغرب كونهم كانوا على علاقة بجون ماكين وجمعهم لقاء مشترك.
لم يكد الغبار يهدئ في اعزاز حتى تجمعت عدد من الكتائب والألوية في ريف حفص الشمالي مشكلين تحالفا لقتال الدولة الإسلامية في العراق والشام موقعين على بيان بهذا الشأن في تسجيل مصور, الدولة الإسلامية توعدت الموقعين على التحالف ضدها بالحرب والاستئصال دون هوادة, الحرب لم تنشب فعليا بين الطرفين لأن التحالف ضد الدولة أعلن عن تراجعه واعتذاره عن قراره السابق معلنين أن الدولة أخوة لهم وذلك في تسجيل مصور بث على الانترنت.
حركة أحرار الشام أعلنت عن استياءها الشديد من اللامبالاة التي تتعامل بها الدولة الإسلامية مع قضية مقتل أبو عبيدة البنشي مسئول الملف الاغاثي بحركة أحرار الشام الذي قتل على يد عناصر من الدولة الإسلامية, داعية الدولة الإسلامية إلى التعامل بجدية مع المحكمة الشرعية المختصة بالنظر في القضية. وهي القضية التي قالت الدولة إنها تحتجز على ذمتها ثلاثة من عنصرها للتحقيق.
الأمر المؤكد في خضم كل هذه التفاعلات المتلاحقة أن التعبير التنظيمي المسمى دولة العراق والشام الإسلامية بات رقما صعبا وخطيرا في معادلة الصراع الإقليمي والدولي, فهو كيان ضارب وخطير لا أحد حتى الآن يخاطر بالاشتباك معه, وهو يسعى إلى توجيه ضربات استباقية لمشروع الصحوات الذي تسعى بعض الأطراف الإقليمية إلى تبنيها ودعمها للوقوف في وجه المشروع الجهادي في المنطقة, لكن الحقيقة التي سيجد البعض صعوبة في استيعابها أن كل المقاربات قد تمت تجربتها وتوظيفها لمحاصرة وتصفية دولة العراق الإسلامية لكن دون جدوى فالتدخل العسكري المباشر وتشكيل جيش صحوي عشائري بمئات الآلاف من العناصر واعتقال وتصفية القيادات كلها لم تسفر عن نتائج مرضية, بل استطاعت الدولة الإسلامية إنهاء مشكلة الصحوات بتصفية اغلب قياداتها وعناصرها بالجملة والتقسيط ,حتى بات مشروع الصحوات عبئا على من يقف خلفه بالدعم والتمويل, وبات متورطا بين فكي كماشة, فالدولة الإسلامية تحصد أتباعه وقياداته وحكومة المالكي ترفض استيعاب عناصره في الجيش و الشرطة لأسباب طائفية, والممولون الخليجيون لم يعودوا متحمسين له, وأصبح رموزه إما مطلوبين لمشانق المالكي أو لكواتم البغدادي كما هو حال طارق الهاشمي.
إذن فالاشتباك المباشر مع الدولة الإسلامية ليس بالحل الأمثل, فما هو الحل إذن ؟ الجهاديون يحاولون استيعاب الدولة الإسلامية في مشروع متكامل ومنسجم مع تطلعاتهم, وتوظيف موارد الدولة الإسلامية البشرية والاقتصادية وطاقاتها الجبارة وحماس مؤيديها وتحويل كل ذلك إلى رافد جهادي يصب في هدف واحد وهو ” التمكين للشريعة والإسلام”.
أما أعداءها فيحاولون اختراق صفوفها وتحويل بوصلة صراعها لتتحول إلى عبئ على التيار الجهادي, وليدخل الجهاديون بعد ذلك في حالة من الإنهاك الذاتي والبيني, فتذهب مشاريعهم أدراج الرياح ويعاد تمثيل مسرحية الجزائر الأليمة على خشبة المشهد السوري من جديد.
نظرية الاختراق وتحويل البوصلة غير مستبعدة على الأقل على الصعيد الإعلامي وقد أمكن ملاحظة تجلياتها وتتبع خيوطها بكل وضوح في هذا الصدد, فهناك عشرات الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي وآلاف التعليقات والمقالات في المنتديات الإسلامية تدفع نحو تشكيل ثقافة ووعي جهادي يضفي طابع العصمة والشرعية الأحادية على الدولة الإسلامية في العراق والشام وما عداها فهم مرتدين وبغاة, هناك حسابات معروفة بآلاف المتابعين تشتغل ” بدوام كامل” تنقل تحركات عناصر الدولة في مختلف الجبهات وتعلق على مختلف المعارك والاشتباكات بأسلوب حاد وغريب, مثل :” الحمد لله تم تصفية مفتي جماعة أنصار الإجرام بشمال العراق على يد أبطال الدولة الإسلامية” وأنصار الإجرام هذه هي جماعة أنصار الإسلام أحد أعرق الجماعات الجهادية في العراق والعالم, وينشر حساب آخر تعليقا على بيان إحدى الجماعات الجهادية في سوريا الداعمة للدولة الإسلامية تحدثت فيها عن الدولة الإسلامية بمسمى “فصيل الدولة الإسلامية” فعلق صاحب الحساب بالقول “المجرمين يقولون عن الدولة فصيل” وربما كفر الجماعة في سياق تعليقاته اللاحقة لأنها قالت عن الدولة بأنها “فصيل الدولة الإسلامية”.
من المؤكد أن المشهد السوري يسير نحو تطورات مفصلية أخرى في الأيام القادمة, ويوما بعد يوم تتضح خريطة الولاءات وطبيعة الاصطفافات, وحدود المشاريع الثلاثة الكبرى المتصارعة في بلاد الشام وهي المشروع الإيراني والمشروع الأمريكي والمشروع الجهادي فمن منهم يا ترى سيكسب جبهة بلاد الشام.