عبد الغني مزوز—
“خلافة حقيبة الظهر” نمط جديد من الحكم والإمارة استحدثه أبو بكر البغدادي ويقوم على حزم ” أمتعة” الخلافة ومقوماتها – وفق تصور البغدادي لها – في حقيبة الظهر وأي بلد يحط فيه حاملها يسجل آليا ضمن الولايات التابعة للخلافة, ومقومات الخلافة كما يرها البغدادي هي: ساطور لبتر الأطراف وسكين لجز الرقاب وسوط لجلد الظهور وحبال للصلب على أعمدة النور وحزام ناسف عند الضرورة، هذه الأدوات عبارة عن مستلزمات الخلافة تشحن في حقيبة للظهر ويخول صاحبها بمقتضى بيعته للبغدادي أن يعلن أي منطقة تطؤها قدمه ولاية تابعة للخليفة إبراهيم ! حتى ولو كانت تعمل في تلك المنطقة جماعات إسلامية عريقة أو كانت بلدا غربيا لا يدين بأي بدين، ألم يبشروا قبل فترة بولاية باريس لأن أحدهم أعلن منها بيعته للبغدادي!
هذا هو تصور البغدادي وأتباعه عن الخلافة، وهكذا يرون شروطها ومقوماتها، الخلافة عندهم هي تلك الأدوات التي ذكرت وساحة عامة تقام فيها “طقوس” الخلافة الدموية باسم الشريعة والإسلام فهذا تقطع يده ورجله من خلاف الله وحده أعلم بحاله، وذاك صبي يشنق لأنه جهر بالإفطار في نهار رمضان، وذاك يجلد لأنه ضبط متلبسا بتدخين سيجارة، وفتى آخر يجلد ويشهر به لأنه يشاهد المقاطع الإباحية، ورجال يصلبون في أعمدة النور وعلى صدورهم ورقة مكتوب عليها ” شاهد زور”، وآخرين أقل حظا تقطع رؤوسهم لأنهم مرتدين قدر عليهم قبل التوبة.. هذا على ظهر أرض الخلافة أما باطنها فالسراديب قصة أخرى قد لا يستطيع سردها غير أبو ريان و أمثال أبو ريان.
علماء الأمة ومفكروها وأساطين الفقه السياسي الإسلامي بينوا ماهية الخلافة وأحكامها وشروطها ومقوماتها وأجمعوا على أن الخلافة عدل ورحمة لا تنعقد إلا برضا الأمة ومشورتها وتحث سلطانها، يعيش في كنفها جميع أبناء الأمة أحرارا متكافئين في ظل الإسلام وسيادة شرعه. هذه هي الخلافة وهذا هو جوهرها، وليست “خلافة حقيبة الظهر” خلافة الدماء و العسف والغصب والظلم والرعب والتكفير.
بالنسبة للبغدادي لا اعتبار للأمة ورأيها ولا اعتبار للتمكين والشوكة ولا اعتبار لكل ما دونه علماء الأمة عن الحكم والسلطان والخلافة والإمارة، بل امض بحقيبتك المحملة “بلوازم” الخلافة وأينما وضعت قدمك فأعلنه ولاية بغدادية.
استبعد البغدادي الأمة بإرثها الحضاري والمعرفي، بمذاهبها وأفكارها ومدارسها وطوائفها ورماها بالبدعة والكفر والانحراف وحصر شرعية الوجود في طائفته التي اعتبرها الطائفة المنصورة الناجية، طائفته التي لا تقوم على أي أصل شرعي معتبر، ولم يتجرأ عالم واحد وازن على دعم أفكارها وأطروحاتها الدموية. نسميها أفكارا وأطروحات تجاوزا وإلا فإنها “مقولات” ركيكة ضحلة صاغتها عقول قاصرة لا يتجاوز نور الوحي تراقيها.
لو تأمل الجميع في التراث الفكري والفقهي والفلسفي الهائل الذي أنتجته الحضارة الإسلامية وتناقلته جيلا بعد جيل, آلاف الكتب والموسوعات في شتى العلوم والفنون من فقه وحديث وتفسير ومنطق وفلسفة وأدب وغيرها هل سيصل إلينا هذا الإرث العظيم لو كان نمط الحكم السائد في التاريخ الإسلامي على شاكلة حكم البغدادي وعصابته المرعبة.
يعتقد البغدادي أن خلافته هي تجسيد للبشارة النبوية بعودة الخلافة على منهاج النبوة، وليست كذلك لأن البشارة ذكرت الخلافة على منهاج النبوة، فالملك العضوض، فالجبري ثم الخلافة على منهاج النبوة ولم تأت على ذكر “خلافة حقيبة الظهر” البغدادية, وبالتالي فلا يعدو كون البغدادي وطائفته حالة شاذة في سياق الفعل الحضاري والجهادي للأمة، تماما كحالة الفاطميين والقرامطة الذين استبدوا بالأمة حينا من الدهر ثم لفظتهم واستأنفت من جديد رسالتها الربانية المجيدة.