أحمد بن راشد بن سعيد —
نحن نعيش أزمة حقيقية وفي مجالات شتى، منها، على سبيل المثال، الصحافة. أستطيع القول إن الصحافة العربية السائدة، على وجه العموم، تفتقر بشكل حاد إلى المهنية وثراء المحتوى والمسؤولية الأخلاقية. إنها مجرد مطبوعات وأقنية ضحلة تمزج الخبر بالرأي، تتجنب التنوع، وتتبنى الحملات المكارثية على الخصوم. من أبرز خطايا هذه الصحافة (إن جاز أن نسمّيَها «صحافة») الغياب التام تقريباً للتقارير الاستقصائية التي تسلط الضوء على قصة يجهلها كثيرون، أو تسبر أغوار قصة غامضة لدى كثيرين. ولا تكاد تجد «رأياً آخر» في قضايا يُعد الاختلاف حولها جريمة، أو ضرباً من «الإرهاب»، كاستقصاء جذور «القاعدة»، أو «داعش»، مثلاً، عبر استدعاء التاريخ، واستخدام أدوات تحليل واستقراء، في ظل سياق هائج ومحموم يثور حتى على استخدام حرف «لكن» الاستدراكي اليتيم. هل يمكن أن يقدم كتّاب أعمدة في «الصحافة» السائدة روايات أخرى عن ظواهر «التطرف العنيف»، دون أن يُقذف بهم تلقائياً خارج السياق، وربما يُخوّنون وتُستعدى عليهم السلطة بصفتهم «منظّرين للإرهاب»؟ هذا ليس افتراضاً ولا فانتازيا؛ إنه مشهد يتكرر يومياً سواءً في الوسائط السائدة، أو الوسائط الاجتماعية. المثير للسخرية أن الصحافة الغربية (حتى السائدة منها) تتناول قضايا يُعد تناولها عندنا من «التابوهات»: تواطؤ واشنطن مع سفاح سوريا، التنسيق الأميركي الإيراني في المشرق العربي، إنجازات حركة طالبان في مجال مكافحة المخدرات، ومقارنة عهدها بأفغانستان اليوم التي تستشري فيها المخدرات، انتهاكات حقوق الإنسان في غوانتانامو، بيع إسرائيل أعضاء شهداء فلسطينيين، حجم الدمار والمعاناة في غزة بعد العدوان الصهيوني الأخير (نشرت النيويورك تايمز في 7 آذار/مارس 2015 تقريراً عميقاً مصحوباً بفيديو للصحافي نيكولَس كرِسْتُف عن الأوضاع المزرية في القطاع)، وغيرها من التقارير الاستقصائية التي مازالت تعطي لوجود الصحافة معنى.
وبالرغم من تطرق الصحافة الأميركية السائدة لقضايا معاكسة للتيار، إلا أن سياقها العام لا يصطدم عادة مع الروايات الحكومية، بل يقدّمها بوصفها مسلّمات معيداً في الغالب إنتاجها: الموقف المبرر لحصار كوبا الذي استمر عقوداً، التدخلات العسكرية في أميركا اللاتينية، الإرهاب الصهيوني ضد الفلسطينيين والعرب، دعاية «الحرب على الإرهاب»، الحروب الإمبراطورية على أفغانستان والعراق، والآن على سوريا، كلها حظيت تقريباً بمباركة «الميديا» السائدة، كما تؤكد دراسات أكاديمية كثيرة ربطت بين السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وبين مواقف صحافة «النخبة»، التي تلتقي مع هذه السياسة في شبكة مصالح متبادلة (نانسي سنو اشارت في كتابها «حرب المعلومات» إلى ما يُسمّى «متلازمة الباب الدوّار» التي تعني قيام المنظمات الإخبارية ومؤسسة الأمن القومي بتقاسم الموظفين، فيما يشبه العملاء المزدوجين, وقد أحصى المراسل الأميركي كارل بيرنستاين– من خلال فحص وثائق لوكالة الاستخبارات المركزية CIA– أكثر من 400 صحافي أميركي نفّذوا مَهمَّات سرية للوكالة خلال 25 عاماً بين عامَيْ 1945 و 1970).
لكن قدرة الحكومات على السيطرة على الرأي تراجعت بقوة بعد بزوغ الوسائط الجديدة، لاسيما الوسائط الاجتماعية، التي أعطت الأفراد لأول مرة في التاريخ القدرة على تحدي الروايات المهيمنة، وإدماء منتجيها والقوى التي تقف وراءها. في المواقع الشبكية الأميركية البديلة نجد روايات معارضة للروايات المهيمنة تحاول توعية الجمهور ودفعه إلى مساءلة كثير من المسلّمات. من هذه الروايات الموقف من تنظيم الدولة، أو داعش. لنأخذ مثلاً ما كتبه عادل شامو وبوني برِكَر في موقع «فورن بوليسي إن فوكس» (مشروع بحث وتفكير غير حكومي) عن التنظيم (5 آذار/مارس 2015). جادل الكاتبان بأن داعش ليست سوى «قذيفة مرتدة» (blowback) ناجمة عن «سياسات أميركية متعفّنة، حروب كارثية، وغليان ثقافي». انتقد الكاتبان التمثيلات السائدة في وسائط الأخبار (الميديا) لمقاتلي داعش حيث يظهرون فيها «أرواحاً ضالة تبحث عن قضية أو تعاني من مرض عقلي». ربما كان هذا التفسير صحيحاً في بعض الحالات، لكنه لا يكفي لشرح الإصرار الذي يتمتع به مقاتلو داعش، ولا قدرتهم على التجنيد والحشد. لا تستطيع منظمة، بحسب الكاتبين، أن تبقى من غير دعم، لاسيما إذا كانت «إرهابية»، والدعم الذي تحظى به داعش يتدرج من «القبول السلبي» بها إلى «المقاومة النشطة» في صفوفها، ويأتي من أفراد ينظرون إليها بوصفها «أهون الشرّين»، أو «جماعة صالحة تخوض حرباً مقدسة». «كلا الرؤيتين»، يضيف شامو وبرِكَر، لا تُذكيهما عقودٌ من الكولونيالية الغربية فحسب، بل أيضاً الغزوات الأميركية الأخيرة، ضربات الطائرات من دون طيار، تنصيب الحكومات المصطنعة الفاسدة والمتوحشة ودعمها». يحاول الكاتبان الغوص في الجذور بحثاً عن تفسيرات لظاهرة داعش– وهو ما قد يُعد «فاكهة محرمة» على موائد الصحافة الخليجية– ويلقيان اللوم على واشنطن: «عندما تمد واشنطن يديْها إلى المستبدين، أو تعقد صفقات نفطية لا تفيد سوى فاحشي الثراء، فإن الكراهية تُختزن، ويجري تناقلها بين الأجيال».
كثير من التأطير الإخباري لجرائم داعش صحيح، لكنه تأطير مشهدي (episodic) يتجنب الخلفيات والجذور. خذ مثلاً تصريح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الذي انتقد فيه جريمة قتل الطيار الأردني، معاذ الكساسبة. موقع العربية نت نشر هذا العنوان: «أوباما: طريقة قتل الطيار الأردني تُظهر وحشية وتطرف داعش» (3 شباط/فبراير 2015). كيف لأوباما، وللولايات المتحدة بشكل عام، أن تنتقد التوحش وهي التي مارست وتمارس القتل الوحشي بشكل يفوق ما تفعله داعش؟ يقول شامو وبرِكَر: «…من السهل جداً نسيان أن الغزو الأميركي للعراق قتل نحو نصف مليون عراقي، بحسب أحد التقديرات– معظمهم مدنيون، وأصاب مليوناً آخرين بجراح. وبالنظر إلى الأرقام، نستطيع فقط أن نتخيل الآلاف من الأطفال العراقيين الذين قُتلوا بالقنابل وربما أُحرقوا أحياء…أو سُحقوا بالحطام. لقد ماتوا ذلك الموت الذي يُلهب غضب العرب والمسلمين حول العالم. لن تنسى ذلك أم ولا أب ولا أخت ولا أخ». القتل الجماعي واسع النطاق إبّان غزو العراق لم ترصده الصور، كما تفعل داعش عندما تحرق أو تنحر ضحاياها، وهو ما ينزع قشرة البراءة عن أوباما لحظة استنكر همجية داعش. إنه العنف نفسه، ولكن بأدوات مختلفة، ولكن لأننا أسرى «قوة الصورة»، فإنه يصعب علينا تخيل ما يصنع الأميركيون أو الإسرائيليون في حروبهم العدوانية بعيداً عن سطوة الكاميرات. ولا أنسى أن صحافياً سأل متحدثاً باسم الخارجية الأميركية بُعَيد حرب الخليج عام 1990: «هل صحيح أن القوات الأميركية دفنت 8000 جندي عراقي أحياء في بداية الحرب»؟، فأجاب: «لا توجد طريقة إنسانية للقتل» (There is no humane way to kill).
العنف يلد العنف. غزو العراق جلب معه ممارسات غير إنسانية لا تقل توحشاً عن الغزو نفسه: التعذيب، والانتهاك الجنسي للمعتقلين العراقيين. يقول شامو وبرِكَر إن «الصور التي رأيناها ليست سوى جزء يسير مما حدث». وما حدث بعد الحرب ضاعف التذمر وألهب النقمة. «الحكومة الدمية التي نصّبتها واشنطن جعلت من الفساد حقيقة في كل مستوى من مستويات الحياة، وتجاهلت وآذت، على نحو خطير، أهل البلاد من غير الشيعة. وظلت الحياة تسير بشكل مزرٍ، إن لم يكن مميتاً». لا تكف أميركا عن سرد قصة «تفوقها الأخلاقي»، «بيد أن التناقض الكئيب بين ما قاساه العراقيون، والاستثنائية التي تصف بها أميركا نفسها، قاد عراقيين كثيرين إلى الانضمام إلى جماعة قدّمت منظومة خاصة بها من الوعود — داعش– والنتائج كانت مفزعة». ينجذب الآلاف إلى داعش، لأنها تداعب وتراً لديهم، أو «تستميل منطقاً». الحل يبدأ بإدراك ذلك، ثم السعي إلى مقاربة تتناول قضايا الكولونيالية، وحملات الغزو، والقصف، والتعذيب. ثمة «بيئة سياسية معادية» في واشنطن لمثل هذه المقاربة، لكن من دون طرائق غير عنفية، فإن «القذيفة المرتدة» ستكبر، وتكبر، ثم تنفجر بنا «أبعد مما قد نتخيل».
منقول من العرب القطرية