الوصول السريع للمحتويات

تأسيس هيئة تحرير الشام.. السياق والمآلات

هيئة تحرير الشام

عبد الغني مزوز ـــ

جاء بيان المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا مايكل راتني حول هيئة تحرير الشام صادما؛ ليس في تأكيده على “إرهابية” الهيئة بل في لغته الشرعية والفقهية وتوظيفه لنفس المفاهيم والتراكيب والجمل التي يستخدمها خصوم الهيئة المنتسبين إلى الثورة، في تجسيد صارخ لنوبة من “الحلول والإتحاد” بين الذات المدعومة والإرادة الخارجية الداعمة. وإذا كان المبعوث الأمريكي حريصا على تمرير تصنيفه للهيئة كمنظمة إرهابية بتقديم مسوغات شرعية على قراره؛ فلأنه لا يريد أن يسبح ضد التيار فتظهر نغمته كنشاز في سيمفونية متناسقة يعزفها بعض الشرعيين و بعض المجالس الإسلامية.. حتى أن المتابع الذكي بإمكانه أن يرفع “بصمات لغوية” على بيان راتني ويشير بإصبعه إلى كتبته، لأنه وفيما يبدو فالبيان عبارة عن تقرير أرسل إلى السيد راتني فنشره خاما دون إعادة صياغته بنفس دبلوماسي بل اكتفى بوضع شعار الخارجية الأمريكية وتوقيعه الشخصي عليه. 

استفاض الحديث عن هيئة تحرير الشام في الفترة الماضية، إلى الدرجة التي غطى فيها على كثير من الأحداث والمحطات التي تمر بها الثورة، وحتى عندما نفدت الهيئة عملين عسكريين كبيرين الأول ضد دواعش لواء الأقصى والثاني ضد المقار الأمنية بحمص فإن موجة العداء الهستيري لها لم تزدد إلا زخما واضطراما. ففي العملية الأولى اتهمت الهيئة بتسهيل التحاق لواء الأقصى بأمرائهم في الرقة مع أن الهيئة أنهت وجود اللواء وقتلت قادته وعزلته عن جماعته الأم فاستنقذت بذلك فصيلا كبيرا من التفكيك أو على الأقل الاستنزاف المدمر الذي يمكن أن تحدثه فيه جماعة “جند الأقصى“. وفي العملية الثانية ضد المقار الأمنية للنظام الأسدي بحمص اتهمت الهيئة بالتنسيق مع النظام لتخليصه من بعض قادته الأمنيين المزعجين !! بينما نددت المعارضة السياسية على لسان نصر الحريري بالعملية واعتبرتها مشبوهة.

تأسست هيئة تحرير الشام في سياق ثوري طبيعي، بمعنى أن دينامكية الفعل الثوري هي التي أفضت إلى هذه النشأة، فعندما نتأمل مجموعة من الأحداث والتطورات التي عصفت بالثورة السورية نجد أن التتويج المنطقي لهذه الصيرورة المتلاحقة من الأحداث سيكون ميلاد كيان ثوري ضارب مفعم بالقوة والنضج والحكمة. ولأن هناك لوبيات مشبوهة تصل ليلها بنهارها للحيولة دون ميلاد هذا الكيان، فقد تدخل الفاتح الجولاني فيما يشبه عملية قيصرية لإنهاء آلام المخاض وإنقاذ الساحة المنهكة من الانهيار. لقد خرجت مظاهرات غاضبة نددت بالتشرذم والانقسام و معبرة عن حالة من الاحتقان والرفض لما آلت إليه الثورة وفصائلها، وفور الإعلان عن هيئة تحرير الشام صدحت المساجد بالتكبيرات ووزعت الحلوى  في الشوارع وغمرت الفرحة والانشراح قلوب الناس كمن زُفت إليه بشارة الولد بعد طول مخاض. 

تضافرت مجموعة من العوامل والأسباب التي ساهمت في بلورة مشروع “ هيئة تحرير الشام” ومن تم الإعلان عنه بالصيغة التي تابعها الجميع وأثارت جدلا محتدما بين مختلف المكونات الثورية، لعل من أهم هذه العوامل:

1) فشل الخيارات الجبهوية والائتلافات العسكرية وغرف العمليات المشتركة التي انخرطت فيها كثير من الفصائل، واتجاه مكونات الثورة إلى مزيد من التشظي والانقسام، وتكاثر الفصائل الصغيرة متواضعة الفعالية، مع ما يطرحه ذلك من تحديات وأزمات على صعيد إدارة المعارك والمناطق المحررة والحواجز والحفاظ على أمن المواطنين وممتلكاتهم.

2) اتجاه فصائل مجهرية نحو المسار السياسي، والافتئات على الثورة وقواها المؤثرة بادعاء تمثيلها في محطات التفاوض المتعاقبة، واستهلال مشاركتها في هذه المحطات بالتوقيع على قرارات أممية تقضي بتصنيف قوى الثورة الفاعلة في لائحة المنظمات الإرهابية مع وعد بمحاربتها واجتثاثها. إضافة لسعي بعض الفصائل إلى تجميد العمل الثوري في مناطق نفوذها، وإبرام مصالحات مع نظام الأسد.

3) نكسة حلب وخسارة الثورة لأهم معاقلها، وتراجع أدائها العسكري في مقابل تقدم قوات النظام وحلفائها في كثير من الجبهات. لقد كانت لحظة حلب منعطفا حاسما أعاد فرز فصائل الثورة حسب الفعالية والجدية والمسؤولية. كما جسدت أسمى معاني التضحية والصمود ونكران الذات، وأعطت أيضا أمثلة مؤسفة على الانتهازية والفصائلية واللامسؤوية، وقد تحدث قائد حلب أبو العبد أشداء عن جوانب من هذه المعاني وتمثل بعض الفصائل لها.
أما الأسباب المباشرة التي أدت إلى الإعلان عن هيئة تحرير الشام بتلك الصيغة التي أثارت جدلا ونقاشا لم يهدأ صخبه حتى الآن على مواقع التواصل الاجتماعي فيمكن أن نشير إلى أهمها:

1) السعي المحموم من بعض الفصائل والشخصيات والمجالس الإسلامية إلى إفشال مقترح الاندماج بين كل فصائل الثورة، فلا يلبت قادة الفصائل أن يصلوا إلى صيغة للتوحد حتى ترتفع موجة الرفض والتحذير من جهات وشخصيات دينية وعلمانية. وعندما كللت جهود المشايخ والقادة بالنجاح ووقعت كبرى الفصائل على الاندماج واتفقت على من يشغل المناصب السيادية في الكيان المزمع الإعلان عنه؛ وصدرت فتوى من مشايخ الساحة بوجوب إتمام مشروع التوحد، رفعت اللوبيات النافذة في بعض الفصائل من إيقاع تحذيراتها وصعدت من لهجة الرفض والاستنكار لفكرة توحد حركة أحرار الشام وجبهة فتح الشام، فأعادت بذلك كل الجهود إلى نقطة الصفر وما دونه. والأفدح من هذا صعود أصوات تطالب بحل وتفكيك جبهة فتح الشام.

2) انعقاد مؤتمر أستانا الذي شاركت فيها فصائل صغيرة، وفق أجندة عمل تنص على أولوية محاربة الفصائل التي صنفها مجلس الأمن على قائمة الإرهاب، وإقرار هدنة طويلة الأمد تنتهي بتفعيل مقترحات الحل السياسي الذي تصر روسيا على كون الأسد ركنه الأهم.

3) اشتداد نبرة العداء والخصومة لجبهة فتح الشام، وتصاعد وثيرة الحشد الدعائي ضدها، تزامنا مع ارتفاع حصيلة من يُقتلون من قادتها وكوادرها بفعل هجمات التحالف الدولي، وقبل أسبوع من الإعلان عن هيئة تحرير الشام استهدف التحالف الدولي بغارة جوية معسكر انتساب تابع لجبهة فتح الشام في ريف حلب الغربي فأودى بحياة أكثر من مائة عنصر؛ ضربة موجعة لمكون كبير من مكونات الثورة، دون أن تتكلف الفصائل الأخرى إصدار بيانات تعزية ومواساة؛ ربما إبعادا لشبهة الإرهاب عن نفسها. ولا شك أن التفاعل البارد مع مقتلة فتح الشام أثر سلبا على علاقتها ببعض الفصائل، ورسخ عزمها على إمضاء الاندماج وجمع الساحة.

تم الإعلان عن هيئة تحرير الشام في 28 يناير 2017 بعد اندماج كل من جبهة فتح الشام وحركة نور الدين زنكي و جبهة أنصار الدين ولواء الحق وجيش السنة، بقيادة المهندس أبو جابر هاشم الشيخ، ثم توالت البيعات من كتائب وتجمعات عسكرية أخرى، كما انضم إلى الهيئة فور الإعلان عنها عدد من وجهاء الساحة ومشايخها. المثير للدهشة أنه وفي الدقائق الأولى من الإعلان عن الهيئة وقبل أن يجف حبر التوقيع على بيانها الأول، حزمت أصوات أمرها فوصفت الخطوة بالتغلب والعدوان واتهمت الهيئة بالتبعية للقاعدة. فإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين قد وصفت الهيئة بالقاعدة في سوريا بعد دقائق من نزول بيانها الأول، فكيف يلام السيد راتني الذي انتظر لأكثر من شهر ونصف قبل أن ينعتها بالوصف نفسه، ولم يزد على أن قام بنسخ ما روجه شيوخ وكتاب على مدار الأسابيع بل السنوات الماضية. الجدير بالملاحظة أنه وفي مقابل بيان السيد راتني الإنشائي والسطحي، أصدرت الهيئة بيانا اتسم بالعمق والرزانة والتعقل ردت فيه على اتهاماته وافتراءاته المتهافتة. 

 لقد نشطت حسابات الدعاية الموجهة، ومواقع تكرير الإشاعات مند التحضير للإعلان عن الهيئة، فتراوحت الإشاعات والأخبار الملفقة من قصف للمخيمات إلى إعدام للسجناء وتنسيق مع النظام وسلب للأسلحة والمقرات إلى غيرها من الإشاعات التي كذبها الشهود والمعنيون بها. 
يخشى خصوم الثورة السورية من توسع مشروع الهيئة واستقطابها لمزيد من الكوادر والكفاءات، فتستحيل مناعة ثورية تستعصي على الاختراق والتجاوز، وقد كشفت بياناتها المنشورة عن خطاب ثوري متكامل زاوج بين العمق الشرعي والبأس العسكري والمرونة السياسية. إنها التتويج المنتظر لمسار الحركة الإسلامية الطويل. وهذا ما أشار إليه القيادي في الهيئة حسام الشافعي في مقال له حيث قال: ” وتجارب الحركات الإسلامية دعوة وجهاد مدرسة لنا؛ نختار منها الصواب ونعترف بفضل من سبقنا ونظن بأنفسنا أننا نكمل مسيرتهم ونسقي زرعهم”، وتتجه الهيئة حسب مقالات حسام الشافعي وغيره إلى تفعيل رؤية في التغيير والثورة تقوم على حشد الأمة بكل مكوناتها ومدارسها خلف المشروع الإسلامي التحرري، الذي يبدأ بالفصيل الراشد ويمر بالحكومة الراشدة ليصل إلى الخلافة الراشدة. 
مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية