عبد الغني مزوز—
فاجأت القيادات الجهادية الفاعلة في منطقة الصحراء الكبرى الجميع عندما أعلنت توحدها في كيان جامع أطلقت عليه اسم ” جماعة نصرة الإسلام و المسلمين“، وهي خطوة أرادت بها القاعدة أن تقول بأن رمال الصحراء المتحركة وتداعيات الشقاق الجهادي وتصاعد إيقاع الحرب عليها وخسارتها لمعظم قياداتها التاريخية؛ كل ذلك لن يجعلها تخسر أكبر معاقلها في إفريقيا والعالم، ولن تُسلم مطلقا بفكرة أن عهدها قد ولى وأن زمام المبادرة الجهادية معقود الآن في كف تنظيم الدولة الإسلامية.
بعد إعلان أبو بكر البغدادي للخلافة، وامتداد تنظيمه إلى كثير من الأراضي و والبلدان واكتساحه لمساحات واسعة من سوريا والعراق، جذب وهج انتصاراته أبناء التيار الجهادي الذين تقاطروا على مناطق نفوذه أو اكتفوا بإرسال بيعاتهم من المناطق التي يتواجدون بها، وكانت منطقة الصحراء الكبرى من بين المناطق المرشحة لتكون فضاء ملائما للوافد الجهادي الجديد، وبدا واضحا أن شباب التيار الجهادي في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء ينحازون نحو تنظيم الدولة ويلتحقون به بالآلاف، وقد عبر أمير جماعة أنصار الشريعة في تونس الموالية للقاعدة عن هذه الحقيقة المرة في رسالة بعث بها إلى الدكتور أيمن الظواهري مقترحا عليه بيعة أبا بكر البغدادي حفاظا على وحدة التيار الجهادي في منطقة الصحراء وشمال إفريقيا واعتماد منهجية الإصلاح من الداخل لأن الشباب يميلون إلى تنظيم الدولة الإسلامية فقال:” وإني أيها الشيخ الحبيب قياما بواجب النصح الذي افترضه علينا ديننا ” الدين النصيحة ” وثقة برجاحة عقلك وحكمتك التي يشهد لك بها العدو والصديق، ثم رغبتي وأملي أن يرفع الله ذكرك في الدنيا ودرجتك في الآخرة، أشير عليك أيها الشيخ الحبيب أن تكون أنت اليوم الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بعد أن صمَّ البغدادي ومن معه آذانهم عن أن يجدد موقف جده رضي الله عنه. فيا أيها الحبيب؛ أنت اليوم الوحيد المؤهل لأن تقلب المعادلة داخليا وخارجيا، داخليا بين أبناء التيار المتنازعين وخارجيا باستعادة القيادة أمام العالم ” كافرهِ ومسلمِهِ “، وإني ناصح لك بأن تعجل بالدخول في هذا الأمر بإعلان بيعتك للبغدادي مع استحضار النية أن تكون بيعة من أجل إنقاذ الأمة وتصحيح المسار قربة إلى الله وأملا في إصلاح الفساد المستشري”
سعى قادة ومشايخ التيار الجهادي في منطقة الصحراء الكبرى إلى تطويق الأزمة التي واكبت وصول تنظيم الدولة إلى المنطقة عبر الانخراط في مفاوضات موسعة بغية الوصول إلى صيغة مثلى للتوحد والاندماج وتفويت فرصة الاستحواذ على شباب الحركة الجهادية ومواردها من قبل البغدادي ومن يدين له بالولاء.
لقد عرفت الجماعات الجهادية في منطقة الصحراء قبل ظهور تنظيم الدولة الإسلامية دينامية نشطة من التشظي والإلتئام، حيث انشقت جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا عن تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي في أكتوبر 2011 ثم انشق القيادي الجهادي المخضرم مختار بلمختار عن القاعدة أواخر عام 2012 منفردا بتنظيم أطلق عليه اسم “ الملثمون” وفي غشت 2013 أعلن كل من مختار بلمختار المكنى أيضا بخالد أبو العباس مع أحمد ولد العامر دمج كل من ” الملثمين” و “ حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا” في جماعة واحدة حملت اسم ” المرابطون“. لم يستقر الحال بالجماعة الناشئة إذ سرعان ما قتل قائدها أبوبكر المهاجر، ليتولى أحمد ولد العامر قيادة الجماعة وبعد عام ونصف قتل ولد العامر أيضا ليخلف وراءه جدلا محتدما حول منصب القائد العام؛ حيث سارع أبو الوليد الصحراوي إلى تنصيب نفسه قائدا جديدا للجماعة وهو ما لم يرق لمختار بلمختار الذي رفض إمارة الصحراوي واعتبرها غير شرعية. وفي خضم الاستقطاب بين أنصار التوحيد والجهاد والملثمون داخل جماعة المرابطون بادر أبو الوليد الصحراوي إلى بيعة تنظيم الدولة الإسلامية وهي الخطوة التي رفضها رفضا حاسما مختار بلمختار فعمل على عزل الصحراوي من القيادة، وإصدار بيان في 15 من غشت 2015 باسم “ تنظيم القاعدة في غرب إفريقيا” في إشارة إلى عودة الرجل إلى صفوف تنظيمه الأم وولاء ” المرابطون” للقاعدة.
اتسمت سياسة أبو مصعب عبد الودود قائد تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي مع فرقاء الحركة الجهادية في الصحراء باللين المرونة، فهو بقدر ما يريد جمع أبناء التيار الجهادي في كيان واحد يخدم ما يسميه بالمشروع الإسلامي في الصحراء، يسعى كذلك إلى تبديد أسباب الخلاف وعوامل التنافر وإن على حساب تماسك جماعته، إذ لم يناصب المنشقين عنه العداء ولم يصفهم بالبغاة أو العصاة ولم يحاول افتعال الخصومات معهم أو منافستهم على النفوذ، و لم يسبق أن أصدر بيانا أو كلمة يمكن أن تفهم على أنها ضد الخارجين عن تنظيمه. هذه السياسة التي تجلت معالمها أكثر في “ وثيقة أزواد” الشهيرة، وهي عبارة عن توصيات بعث بها أبو مصعب عبد الودود إلى القيادات الجهادية في شمال مالي وتضمنت بنودها قدرا كبير من المرونة السياسية، واعتبرت بمثابة خريطة طريق لترسيخ وترشيد المشروع الإسلامي في أزواد.
الرؤية المتفردة التي يتميز بها عبد الودود جعلته يذهب بعيدا في طموحه الجهادي، فقد راهن على استقطاب معظم المجموعات العرقية والقومية والحركات الوطنية في الصحراء الكبرى وتوظيفها في سياق مشروع إسلامي يلبي للجميع مطالبهم المشروعة، إنه يتحسس بذكاء حاد المساحات المشتركة الممكنة بينه وبين مكونات الصحراء المتنوعة. ومن هنا يمكن أن نفهم مثلا دعمه لفكرة دمج جماعة أنصار الدين مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد وفق شروط نص أولها على حاكمية الشريعة وآخرها على استقلال منطقة أزواد.
جسد الإصدار المرئي الذي أعلنت عبره القيادات الجهادية في الصحراء الكبرى الاندماج فيما بينها وتأسيس “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” جسد مرحلة متقدمة من رؤية أبو مصعب عبد الودود للتغيير الجهادي في الصحراء، حيث يظهر في الإصدار المرئي كل من يحيى أبو الهمام قائد منطقة الصحراء في تنظيم القاعدة والشيخ محمد كوفا أمير كتائب ماسينا، والشيخ إياد أغ غالي أمير أنصار الدين، والحسن الأنصاري نائب أمير جماعة المرابطون إضافة إلى أبو عبد الرحمن الصنهاجي نائب القاضي الشرعي بمنطقة الصحراء. بينما تلى الشيخ إياد أغ غالي بيان التوحد وأعلن بيعته لأبي مصعب عبد الودود وعبر إلى الدكتور أيمن الظواهري وعبره إلى المولوي هبه الله آخند زاده أمير حركة طالبان.
يعتبر الشيخ محمد كوفا قائدا لكتائب ماسينا وهي قوات مقاتلة تتبع قبائل الفلان المنتشرة في وسط وغرب إفريقيا، ويقدر عدد أفرادها بعشرين مليون نسمة. ولا شك أن تطعيم مكون قبلي صحرواي عريق ومتجذر وممتد بالفكرة الجهادية يعتبر انتصارا كبيرا، فمن يستطيع بعد ذلك محاربة فكرة استوطنت وجدان القبيلة ونفذت إلى عروق أبنائها مع حليب إبلهم. حدث مثل هذا مع قبائل البشتون الأفغانية التي شكلت النزعة الجهادية جزء لا يتجزأ من قيمها وأعرافها القبلية، وبالتالي لم تستطع كل قوى الأرض القضاء على المكون الجهادي في أفغانستان لأن القبيلة شكلت ولا تزال عمادها الرئيس.
وقبل محمد كوفا قامت القاعدة بتوطيد علاقتها بالشيخ إياد أغ غالي وهو زعيم قبلي من الطوارق ينتمي إلى قبيلة “إفوغاس” ذات الشأن الكبير في عدد من مناطق الصحراء الكبرى، ويلقبه البعض بملا عمر الصحراء. اللافت في قصة الشيخ إياد أغ غالي أنه عاش حالة من الترحال الفكري على امتداد مسيرته الحافلة، فقد كان يساريا في فترة من فترات حياته ثم قوميا ثم تبليغيا عندما تأثر بجماعة الدعوة والتبليغ وأصبح عضو نشيطا فيها، لترسو سفينته أخيرا على شاطئ الفكر الجهادي. وما يؤكده تاريخ الشيخ إياد ومسار حياته أنه ليس شخصا محدود التجربة والثقافة، فالرجل أمضى حياته في العمل النضالي والسياسي، وطاف في عدد من الدول والبلدان، وقاد انتفاضة الطوارق سنة 1991 واشتغل لا حقا في السلك الدبلوماسي. ولا شك أن تتويج هذا المسار الحافل باعتناق الرجل للفكر الجهادي المعولم هو انتصار هائل لأيديولوجيا القاعدة، وتفوق لتصورها لماهية التغيير والثورة على ما سواه من التصورات اليسارية والقومية؛ التي لم يجد فيها الطوارق ما يضمن حقوقهم ويعزز مكتسباتهم بينما وجدوا كل ذلك في أفكار القاعدة.
بعد سيطرة الحركات الجهادية على شمال مالي في 30 من مارس 2012 انتهجت قيادة منطقة الصحراء في تنظيم القاعدة ممثلة في القيادي الجهادي الراحل عبد الحميد أبو زيد وحلفائه الآخرون سياسة المرونة والاحتواء مع سكان وقبائل شمال مالي وأيضا مع الحركات المسلحة القومية التي تنشط هناك، وقد تحدث أحد قادة تنظيم القاعدة في منطقة الصحراء في حوار مطول عن الخطوط العريضة لهذه السياسية نلتقط منه الملاحظات التالية:
• اعتماد المذهب المالكي المدلل.
• عدم استعداء مكونات المجتمع الأزوادي بأي شكل من الأشكال.
• عدم إعلان إمارة إسلامية حتى لا تتخذها بعض القوى مسوغا للهجوم على المنطقة واستهداف الشعب الأزوادي.
• صياغة البيانات بطريقة لا تستعدي الخارج.
• فتح باب التفاوض والحوار مع حكومة باماكو.
• تحييد الخصوم والحركات المسلحة في البلد.
• الإجتماع بأطياف المجتمع وقادة الناس ووجهائهم.
• الحوار مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد والسعي لإيجاد صيغة توحد واندماج معها بما يخدم المشروع الإسلامي في أزواد.
• التدرج في تطبيق الشريعة.
• السماح للمرأة بالخروج من المنزل والعمل وفق الضوابط الشرعية المعروفة.
• عدم هدم القبور والقباب إلا بعد إقناع الناس بشرعية ذلك، واستعمال الفؤوس في عملية الهدم وليس المتفجرات أو الجرافات، وذكر القيادي في القاعدة أن عناصر تنظيمه يمرون يوميا بجوار بعض القباب والأضرحة النائية قبل سيطرتهم على أزواد ولم يفكروا في هدمها، لأن ذلك يخالف مقاصد الشريعة، إذ يجب أولا إبلاغ الناس بحرمة القباب ثم هدمها لاحقا بإرادتهم.
إذن، لقد استتب الأمر للقاعدة في الصحراء الكبرى وأوجدت لمشروعها عمقا قبليا راسخا، وعززت وجودها هناك عبر شبكة معقدة من التحالفات والعلاقات مكنتها في النهاية من توحيد الصف الجهادي تحت مظلتها، وبدا في المقابل تنظيم الدولة الإسلامية في حالة ميئوس منها خصوصا بعد انقسام فرعها الكبير في نيجيريا والاشتباك الحاصل هناك بين تيار أبو بكر شكو من جهة و أبو مصعب البرناوي من جهة أخرى، وفقدان التنظيم لمعاقله في ليبيا وآخرها مدينة سرت الساحلية، بينما ضلت مجموعة أبو الوليد الصحراوي تائهة في الصحراء بعد مقتل مبعوث البغدادي إلى المنطقة وعجزه على إقناع مزيد من المقاتلين للانضمام إليه، يضاف إلى كل ذلك مسلسل الهزائم التي مني بها التنظيم في العراق وسوريا وغيرها من البلدان وخفوت وهجه وتضعضع جاذبيته. ما فتئ قادة تنظيم القاعدة وشيوخه يؤكدون أن ظاهرة تنظيم الدولة مجرد نزوة جهادية عابرة، ونشاز ستغيب شمسه قريبا. فهل حلت نبوءة هؤلاء في الصحراء الكبرى؟