الوصول السريع للمحتويات

أربعة أسباب تجعل السيناريو الأفغاني وشيكا جدا في مالي

عبد الغني مزوز—

انسحب آخر جندي فرنسي ضمن “عملية برخان” من قاعدة غاو شمال مالي بعد توتر العلاقة بين باريس والسلطة الحاكمة في باماكو. ثم تبعتها البعثة الأممية التي غادرت البلاد أواخر العام الماضي، يأتي ذلك وسط تصاعد مقلق لعمليات التمرد الجهادي، التي اتسع نطاقها في منطقة الساحل خلال الفترة الأخيرة، موازاة مع دخول حركات أزواد الانفصالية جولة صراع جديدة مع الحكومة المركزية بعد إلغاء اتفاق السلام الموقع في الجزائر بين الطرفين في 2015.

 في الواقع لم تنجح 9 من التدخل الفرنسي في مالي عن وضع حد لعمليات الارهاب في الساحل، باستثناء نجاحها في وقف زحف أرتال الحركات الجهادية والأزوادية نحو العاصمة باماكو في 2013 واغتيال أبي مصعب عبد الودود زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في 2020، رغم أن التدخل الفرنسي في مالي يعتبر أطول عملية عسكرية تخوضها باريس منذ حرب الجزائر.

ورغم نجاح فرنسا في حشد دول الساحل الخمس في تحالف عسكري موجه ضد الحركات المسلحة المرتبطة بالقاعدة وتنظيم داعش؛ عززه لاحقا دعم عدد من الدول الأوروبية في إطار عمليات “تاباكو” و”سابر” إلا أن الوضع الراهن في الساحل وخصوصا مالي وإلى حد ما بوركينافاسو مرشح لمزيد من التصعيد الخطير الذي قد ينتهي باستنساخ التجربة الأفغانية بمعظم تفاصيلها، وهذه أربعة أسباب تسم هذه الفرضية بالوجاهة التامة:

أولا: 

نجحت المجموعات الإسلامية المسلحة خصوصا جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة عضويا بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في توسيع نفوذها وفرض سيطرتها على أجزاء من مالي، ساعدها في ذلك تركيبتها المتنوعة التي جمعت بين المكونات العرقية والقبلية المتواجدة في المنطقة من عرب وطوارق وفلان وغيرها، وتمكنت بواسطة هذا المزيج الهوياتي من التغلغل داخل المجتمعات المحلية. وقد أدركت قيادة القاعدة حساسية المنطقة فأسندت قيادة جماعة نصرة الإسلام إلى إياد أغ غالي وهو من أعيان قبائل الطوارق وأبرز وجوهها الذين انخرطوا منذ التسعينيات في صراعات وثورات ضد السلطات المتعاقبة على البلد، ورغم أن قناعات الرجل الشرعية والعقدية بعيدة عن الخطاب الوهابي الصريح وأقرب إلى التصوف الشعبي إلا أن تنظيم القاعدة أبرم معه تحالفات ناجحة عندما كان زعيما لجماعة أنصار الدين انتهت بتنصيبه أميرا لفرع القاعدة في مالي.

بعد نجاح تنظيم القاعدة في جمع شتات الحركات المسلحة ذات الطابع الجهادي في جماعة واحدة، انخرط في صراع محموم ضد فرع تنظيم داعش في الساحل وتمكن من كبح جماحه وطرده من عدة مناطق سيطر عليها سابقا، انكفأ على إثر ذلك في معاقله بمنطقة المثلث و”ميناكا” مع تركيزه أكثر على ولايات غرب إفريقيا. في غضون ذلك وسعت جماعة نصرة الإسلام نطاق عملياتها في مالي، ووصلت حد نجاحها في عزل مدن كبرى في الشمال مثل “تمبكتو”، والتهديد بعزل أخرى مثل “كاو”.

ثانيا:

 طبع عدم الاستقرار السياسي والأمني مالي منذ الانقلاب العسكري على الرئيس السابق  إبراهيم أبوبكر كايتا في  أغسطس/آب 2020، ومع فشل المجلس العسكري الحاكم منذ ذلك الحين في نقل السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة، تصاعدت أصوات الإدانة من المجتمع الدولي والاتحاد الافريقي لكنها قوبلت بعناد المجلس الذي فضل الهروب إلى الأمام واجتراح خطوات ممعنة في مسار الانقلاب، منها طرد السفير الفرنسي من مالي، أعقبه إلحاح على خروج القوات الفرنسية، ثم انسحابه من تحالف مجموعة دول الساحل الخمس لمكافحة الإرهاب، وأخيرا اتهام القوات الفرنسية بالتجسس ودعم الجماعات الارهابية. 

الإجراءات التي أقدمت عليها السلطة العسكرية في مالي كرست عزلتها الدولية، ثم جاء استقدامها لمرتزقة روس من شركة فاغنر ليقطع آخر الحبال التي تربط البلد بمحيطه الإقليمي والدولي، وتحوله إلى دولة شبه مارقة في نظر باريس. العزلة الدولية والاضطرابات السياسية والأمنية وما يتبعها من ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة تعد بيئة مناسبة لنمو مختلف أشكال التمرد والعصيان، وفي دولة مثل مالي حيث تنتشر حركة إرهابية تتربص بالسلطة منذ سنوات، وجهزت نفسها بكل ما يلزم من أسلحة ومعدات وآليات للانقضاض على المدن عند أول فرصة مواتية، يكون الاضطراب السياسي ليس فقط عامل استنبات لأشكال التمرد وإنما إشارة البداية لانحسار سلطة الدولة لحساب سلطات موازية أعدت نفسها مسبقا لتكون هي البديل.

ثالثا:

 تحولت إفريقيا في السنوات الأخيرة إلى بؤرة ملتهبة نتيجة تمدد نشاط الجماعات الإسلامية المسلحة المرتبطة بالقاعدة وداعش، عشرات الجبهات النشطة فتحتها هذه الجماعات من شرق إفريقيا إلى غربها مرورا بوسطها وشكل تمددها تحديا أمنيا عصيا على المعالجة، وإذا كان زخم الوجود الجهادي في إفريقيا أكبر مما يستطيع المجتمع الدولي التعامل معه في الوقت الراهن، فلا خيار أمامه سوى التركيز على المناطق التي يمثل الجهاديون فيها خطرا على حقول النفط وخطوط امداداته ومناجم المعادن النفيسة وممرات التجارة الدولية، وبناء على هذا المنطق ستكون مالي آخر منطقة يمكن أن يقلق الغرب بشأنها مقارنة مع الصومال مثلا التي تطل على مضيق حيوي من مضايق التجارة الدولية أو غرب افريقيا حيث حقول النفط ومناجم المعادن واليورانيوم أو حتى وسط إفريقيا الذي تشن فيه داعش حملات ابادة صامتة للقرى المسيحية. 

رابعا: 

الوضع الدولي محتقن بشكل خطير للغاية، حرب في أوروبا بهواجس نووية، وأخرى في غزة بطعم الإبادة، وثالثة كانت على وشك الاندلاع شرق الصين، ومناورات ضخمة في بحر اليابان واضطرابات في إمدادات الطاقة، وارتفاع في معدلات التضخم، وانتشار للأوبئة، وكوارث طبيعية غير المسبوقة بفعل تغيرات المناخ، كل هذه العوامل أحدثت تعديلات في أجندة المجتمع الدولي ولم يعد الإرهاب المعضلة الوحيدة التي يبحث لها عن حل. تجلى ذلك بوضوح في قمة حلف الناتو التي انعقدت في مدريد حيث أعاد الحلف صياغة عقيدته القتالية معتبرا روسيا التهديد الأكبر له. ولا شك أن ملف الجماعات المسلحة التي لا تشكل خطرا مباشرا ووشيكا  هي الآن خارج حسابات واهتمامات المجتمع الدولي، ما يعني أن على الدول التي تعاني من نشاط الجماعات المسلحة في أراضيها أن تدبر أمورها بنفسها في الوقت الراهن، ولأن أي معركة يغيب فيها الغطاء الجوي المكثف والمعلومة الاستخباراتية الدقيقة هي معركة محسومة مسبقا لصالح الجهاديين خصوصا في بلدان تعاني من الفساد وشح الموارد الإمكانيات، فإن المشهد في مالي سيتحول سريعا إلى نسخة كربونية عن المشهد الأفغاني بكل تفاصيله.

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية