أحمد ابازيد—
في اليوم الثاني من عيد الفطر، 30 تموز 2014م، نشرت مؤسسة البصيرة الإعلامية التابعة لجبهة النصرة فيديو خطبة وصلاة عيد الفطر للدكتور سامي العريدي “الشرعي العام في جبهة النصرة”، لتحسم الجدل حول ترتيبات النصرة ومناصبها القيادية في مرحلتها الجديدة بعد خسارة دير الزور كما تمثل في إعلان مشروع الإمارة وبدء حملة “ردع المفسدين” لمواجهة الكتائب المتهمة بتجاوزات في القرى الحدودية مع تركيا بريف حلب وإدلب، واستكمال اعتقال عناصر وقيادات في الجيش الحر بدرعا.
ليكون بديلاً عن (أبو ماريا القحطاني) أو “ميسرة الجبوري” أو “حكيم هرارة” البلدة التي وُلد فيها جنوب الموصل، وصاحب الشخصية الكاريزمية والعلاقات القوية مع المجتمع المحلي، والذي كان له دور رئيس في بناء جبهة النصرة في سوريا عامة والمنطقة الشرقية خاصة، ورافق الجولاني في رحلته القُطرية التي أسس من خلالها الجبهة (كما رواها القحطاني نفسه بلغة وجدانية للدفاع عن الجولاني في كتيبه: “هلّا تركتم لنا أمراءنا”)، وبقي طيلة عمر الجبهة الرجل الثاني في النصرة من حيث التراتبية والرجل الأول من حيث الحضور الإعلامي في الفضاء الافتراضي العام.
ولا يبدو تعيين العريدي (أردني الجنسية، وحامل دكتوراة في الحديث الشريف) كمجرد تغيير إجرائي، بقدر ما يأتي ضمن سياق خطة الإنقاذ البديلة على مستوى الخطاب والبنية والأهداف المستقبلية لجبهة النصرة.
جبهات النصرة
في دراسة نشرها الكاتب بعنوان “المشهد السوري بعد دير الزور: تحدي الوجود بين الدولة والنصرة والثورة”، تعرض البحث لتفكك جبهة النصرة التدريجي منذ إعلان دولة العراق والشام في 9 نيسان 2013م، ورفض الجبهة الرضوخ لقيادة الجبهة، ما جرّ عليها انحياز نسبة كبيرة من المهاجرين فيها إلى الدولة، وسيطرة الدولة على مقرات ومستودعات سلاح تابعة للجبهة، ما أضعف الجبهة وقلّص قدراتها وانتشارها، الأمر الذي واجهته الجبهة بمزيد من التحالف مع الفصائل الإسلامية السورية والتقرب من الحواضن الشعبية، إلى أن استعادت الجبهة عافيتها وحضورها الميداني الطاغي خلال أشهر مع تزايد أعداد المنتمين إليها كخيار سلفي جهادي بديل عن “داعش”، واعتماداً على ثقل الجبهة في دير الزور ومواردها المالية هناك، وانتصاراتها العسكرية في درعا وفي حلب بالاشتراك مع الفصائل المختلفة.
مع بداية عام 2014م وبدء الحرب الشاملة ضد تنظيم الدولة، فضّلت النصرة ألا تدخل في الحرب وتحافظ على دور الوسيط، وأمّنت مقرات تنظيم الدولة وعناصرهم في أكثر من بلدة في ريف إدلب وحلب، ولم تدخل المعركة ضدهم إلا في الرقة، ومالبث أن انسحبت مع أحرار الشام وبقية الفصائل لتستقر الدولة منذ شباط في الرقة والباب ومنبج وجرابلس.
ومنذ شباط 2014 انتقل الصراع إلى دير الزور، ليمرّ عبر مراحل متعددة حمل العبء الرئيس فيها في مواجهة التنظيم وقتاله جبهة النصرة في المنطقة الشرقية وشرعيّها العام (أبو ماريا القحطاني)، والذي سبق أن كان من جنود “دولة العراق الإسلامية” ومثل انضمامه لجبهة النصرة محاولة لتصحيح أخطاء وجرائم دولة العراق (كما سمّاها واعتذر عن شراكته فيها “للمسلمين” في حسابه)، ما ساعده إضافة لوجود الكثير من أبناء المنطقة من الجهاديين العائدين من العراق على تشكيل رأي قوي وحاسم ضد التنظيم ضمن صفوف جبهة النصرة والتي تعتبر بلدة الشحيل نقطة ثقلها في المنطقة الشرقية، وقدمت بلدة الشحيل في المواجهات مع تنظيم الدولة أكثر من 200 شهيد، إلى أن اضطرت لتوقيع اتفاق الصلح مع التنظيم في 3 تموز، لتمثل هيمنة داعش الحقيقية على ريف دير الزور، وتوازى ذلك مع انسحاب رتل من جبهة النصرة نحو درعا يضم الشرعي العام للجبهة (أبو ماريا القحطاني).
خلال المعارك الطويلة على مدى أشهر مع تنظيم الدولة، والتي اشتد عنفها وتسارعت خلال شهري أيار وحزيران، تنامى بين عناصر جبهة النصرة في الدير وقياداتهم خطاب الاتهام بالخذلان الموجه نحو قيادة جبهة النصرة وفروعها في الشمال السوري، بحكم عدم إنجادها بإمدادات أو فتح جبهات موازية على التنظيم، رغم مركزية المنطقة الشرقية في جبهة النصرة، لا كإمداد مالي لكل فروع الجبهة وحسب، وإنما لكثافة القيادات العسكرية منها، وكونها أول منطقة استطاعت النصرة فيها أن تتجذر اجتماعيا، عدا عن تمثيل القحطاني للاتجاه التجديدي في الجبهة وتقديمه خطاباً مقبولاً مع الإسلاميين الآخرين والمجتمعات المحلية، القحطاني نفسه الذي ما زال حتى الآن (في حسابه على تويتر) يوجه اتهامات الخذلان وترك المنطقة الشرقية وحدها رغم كل تضحياتها.
لم تقتصر مبررات “الاتهام بالخذلان” نحو فروع النصرة على كونها لم تنجد المنطقة الشرقية بالإمداد فقط، وإنما تجلّت عبر المواقف المتفاوتة من “داعش” داخل جبهة النصرة، ما بين اعتبار قتالهم أولوية كبرى من قبل النصرة في المنطقة الشرقية،في مقابل تأمين الأحرار والنصرة في الساحل لجماعة الدولة هناك كي يعبروا نحو الرقة ويهاجموا في نهاية آذار مركدة ويُقتل أكثر من سعبين مقاتلاً من النصرة والأحرار والجيش الحر من أبناء دير الزور هناك، وفي مقابل اعتبار أمير النصرة في القلمون (أبو مالك الشامي) أن من يعتدي على جماعة الدولة يعتدي على النصرة، واعتزال النصرة في الغوطة الشرقية لقتال التنظيم، ولعبها من جديد (بعد خروج النصرة من دير الزور) دور الوسيط لتأمين عناصر التنظيم في الغوطة.
هذا التباين في الموقف من التنظيم، وفي العلاقات بالفصائل الإسلامية والجيش الحر، وفي الخطابات الايديولوجية لأمراء الجبهة وشرعييها، كما تجلى ذلك في الموقف من ميثاق الشرف الثوري خاصة، إضافة إلى غياب الجولاني الطويل، عكس تفككا داخليا يتنامى في النصرة، وتحولها إلى اسم جامع لا يحتوي على بنية تنظيمية صلبة، ما استدعى تدخل الجولاني وطرح مشروع الإمارة في 11 تموز الراهن في تسجيل مسرب وضحته المنارة البيضاء بعد يوم واحد بإعلان أن هدفه إقامة محاكم قضائية ومراكز حفظ أمن مستقلة وإرجاء الإمارة إلى حين توافق المجاهدين، دون أن يظهر الجولاني في إصدار رسمي حتى الآن ما يبقي ظلالاً من التوجس على هذا الغياب الطويل.
أضاف إلى هذا التفكك نتيجة التفاوت في الموقف من داعش، تفاوت في الخطابات الفكري والعلاقة مع المجتمعات المحلية والفصائل الأخرى، وتجلى ذلك عبر تيارين رئيسيين في الجبهة: يمثل الأول أبو ماريا القحطاني ويحمل خطابا تجديديا وأكثر مرونة تجاه الإسلاميين المختلفين وأكثر حرصاً على استرضاء المجتمع المحلي والتجذر فيه وهو شخصية كاريزمية وقيادية لها شعبية طاغية في المنطقة الشرقية، ويمثل الثاني سامي العريدي ويقدم خطاباً سلفيا جهاديا تقليديا أقرب للجيل الأول ويقدم خطاباً أكثر حدة تجاه الإسلاميين المختلفين، كما تجلى ذلك عبر موقفه من ميثاق الشرف الثوري والذي وصف الموقعين عليه بالمنبطحين للغرب والمتنازلين عن الشريعة، وجرى بينه وبين قيادات في الجبهة الإسلامية سجالات حادة على الفضاء الجهادي الافتراضي (تويتر)، كما أنه أقل حرصاً على تمتين العلاقة مع المجتمع المحلي وكتائبه، وأقرب لاتباع سياسة قوة في العلاقة معها، وليس له شعبية الأول ضمن المجتمع المحلي في درعا.
النصرة في حوران: الإمارة قبل الإمارة
يغلب على مقاتلي النصرة في درعا كونهم من المجتمع المحلي وأبناء العشائر المحلية، خاصة من المنطقة الشرقية، في تجربة مشابهة للمنطقة الشرقية، حيث تتمدد النصرة عشائريا ويغلب عليها الطابع المحلي لا صورة المهاجرين، هذا أسهم في البداية في تقبل النصرة اجتماعيا وعدم حدوث مشاكل مشابهة لما حصل في الشمال السوري، خاصة مع ضخامة الجيش الحر في حوران، وندرة المسارات السلفية والجهادية البديلة، حيث تأسست حركة المثنى في وقت قريب من تأسيس النصرة في درعا، وكان حضور التكتلات الإسلامية السورية متأخراً، ما أبعد عن الجبهة الجنوبية حتى وقت بعيد صراعات الايديولوجيا التي غرق بها الشمال.
ولكن لا بد من ملاحظة أن جبهة النصرة وإن تمددت عشائريا إلا أنها تمثل انتماء صاهرا لا يلبث أن يكون هو أساس “العصبة” وإنتاج الجماعة المتخيلة، ويقلّ تأثير هذا العامل العشائري مع الوقت لصالح الايديولوجيا الجهادية وكلام الأمراء، وهذا ما أنتج مع الوقت نوعاً من ثنائية ما بين جبهة النصرة والمجتمع المحلي، وساعدها على تكوين مسافة تسمح لها بممارسة السلطة بمعزل عن عوامل القرابة، وكان الحضور الأردني الطاغي بين قيادات النصرة وشرعييها في درعا أهمّ العوامل المؤثرة في ذلك، سواء تكلّمنا عن شرعي جبهة النصرة في درعا الدكتور سامي العريدي (وكان يمثل الشرعي الثاني في النصرة) أو أمير النصرة في درعا “أبو جليبيب”، أو عن حضور شخصيات جهادية قديمة مثل “أبو أنس الصحابة”.
اعتمدت سياسة النصرة العسكرية على الاقتحامات والضربات النوعية منذ البداية، في مقابل اعتماد الجيش الحر على الرباط في مناطقه ثم الاقتحامات، ما ساعد النصرة أكثر على عدم استنزاف المال والرجال والذخيرة، وعلى تحقيق انتصارات أسرع من الفصائل الأخرى أسهمت في تكوين الصورة الإعلامية والشعبية “البطولية” للنصرة، وكان اعتماد النصرة الرئيس في تذخيرها على غنائم هذه الاقتحامات، والتي تشترط منها نسبة أعلى من الفصائل المشاركة معها، ما دفع الجيش الحر بعد معركة تحرير “تل الأحمر الغربي” و”تل الجابية” في نيسان 2014م إلى بدء معارك مستقلة عن مشاركة النصرة (مثل تحرير تل الجموع وتحرير الشيخ سعد)، مع مشاركة النصرة أحياناً ضمن المعارك نفسها لكن في اقتحامات من محاور مستقلة، أي كنوع من التنسيق غير المباشر.
على عكس النصرة في الشمال، والتي كانت تمارس مهامها القضائية من خلال المحاكم المشتركة مع التكتلات الإسلامية الأخرى والهيئات الشرعية، فإن النصرة في الجنوب بدت أكثر نزوعاً نحو الاستقلالية في فرض مرجعيتها القضائية منذ وقت مبكر، وتمثل “محكمة الكوبرا” هذا الغطاء القضائي للنصرة، والذراع الخدمي أيضاً، مع ملاحظة أنه حتى حركة المثنى الأقرب ايديولوجيا إلى الجبهة انسحبت من هذه المحكمة، وتمثل النصرة قوتها التنفيذية الوحيدة، مع توقيع بعض فصائل الجيش الحر مؤخرا على قبول أحكامها، وساعد على نجاحها في ذلك تفكك الجيش الحر الذي تحول إلى اسم رمزي شابته الكثير من التجاوزات التي قامت بها كتائب منتسبة إليه، وعدم تكوينه بنية تنظيمية جامعة أو مرجعية أمنية وقضائية، رغم ضخامة عدده النسبية.
وكان اعتقال رئيس المجلس العسكري في درعا العقيد الركن أحمد فهد النعمة، في 3 أيار 2014م، نقطة تحول في فرض النصرة مرجعيتها الأمنية والقضائية، حيث تتابعت اعتقالات لعناصر وقادة في الجيش الحر بعد ذلك، وكان آخرها اعتقال قائد لواء الحرمين (شريف الصفوري) تموز/يوليو الماضي، إضافة إلى زيادة نشر الحواجز ضمن المدن، وتكثيف الحضور الخدمي وتقديم الدورات الشرعية.
وتشكل العلاقة مع الأردن أو السعودية نقطة التوجس الرئيسة ما بين النصرة والجيش الحر في درعا، أكثر من الخلافات الايديولوجية والتي تذوب ميدانيا، حيث تشارك النصرة غالباً إلى جانب فصائل الجيش الحر في معاركها، حتى الأكثر وضوحاً في علاقتها مع خصوم الجبهة منها مثل جبهة ثوار سوريا التي كانت مشاركاً رئيساً في عملية تحرير تل الأحمر الغربي.
وبقيت “أولوية الميداني على الايديولوجي” منطقاً حاكماً للعلاقة بين الفصائل المختلفة في سوريا عامة وفي درعا خاصة حتى ما قبل إعلان دولة العراق والشام، والتي زادت من الطلب على الخطابات الايديولوجية، وشكّلت أرضية للتنافس في تمثيل “الجهاد الصحيح” وتطبيق الشريعة، ما زاد مع الوقت من حضور العامل الايديولوجي في العلاقات والتحالفات الميدانية.
ومن الملاحظ أن النصرة في الجنوب لم تتعرض للفرز الذي تعرضت له النصرة في الشمال مع إعلان دولة العراق والشام، بحيث ينتقل العناصر الأكثر تطرّفاً نحو الدولة، ما يهيئ المزيج لانتشار الخطاب الداعشي أو قابلية البيعة لداعش في داخله، عدا عن تقديم قادة النصرة وشرعييها في درعا خطاباً أقلّ مرونة وأكثر صلابة تجاه الإسلاميين المختلفين.
وبذلك مثلت النصرة في درعا التجربة الأكثر تماسكاً وإثباتاً لحضورها وسلطتها وانتصاراتها على الأرض بين فروع النصرة الأخرى، هذا بعد انهيار النصرة في المنطقة الشرقية والتي كانت تمثل الثقل الرئيس للنصرة في سوريا، وانتقال من تبقى من قيادات النصرة وعناصرها إلى درعا بمن فيهم الشرعي العام للنصرة (أبو ماريا القحطاني) في تموز/يوليو الماضي، لتصبح جبهة درعا هي مركز الثقل الرئيس والأضخم للنصرة في سوريا، وتجربتها العملية والحيّة لتطبيق مشروع الإمارة قبل أن يعلن الجولاني حتى عن نيته المؤجلة لإقامة هذا المشروع، ولو كان بحدّه التطبيقي الأدنى كما أعلنت ذلك مؤسسة المنارة البيضاء من خلال إقامة المحاكم الشرعية ومراكز حفظ الأمن المستقلة.
خاتمة: قيادة النصرة في مأزق الإنقاذ
بعد خسارة دير الزور والتفكك الذي تنامى في جبهة النصرة ومحاولة الفصائل الإسلامية المحلية السعي في مشروع مستقل عن جبهة النصرة، اختارت جبهة النصرة أن تبدّل تحالفاتها نحو الخطاب السلفي الجهادي الأكثر صلابة، ونحو تيار المهاجرين، وطرح مشروع يعيد الاعتبار لمركزية القيادة، ويطرح نفسه كسلطة تطبيق شريعة ومرجعية قضائية وأمنية، ليحمي عناصره من التسرب نحو داعش من جهة، وليكتسب آخرين بدأت تغريهم انتصارات داعش ولا يجدون بديلاً “شرعيّاً” عنها، ولا يخلو تمدد النصرة على الخط الحدودي مع تركيا من أهداف اقتصادية واستراتيجية كذلك، ضمن أسلوب لا يخلو من لمسات مقتبسة من تجربة التنظيم ومن بنيته الصلبة أيضاً، ولكن هذا التمدد الذي قابله ترحيب واسع من نشطاء وأهالي مناطق تعرضت لتجاوزات هذه الكتائب، قابله أيضاً الكثير من الاعتراض من طرف الفصائل المحلية ومن بينها الجبهة الإسلامية التي أصدرت في 25 تموز بياناً حازم اللهجة يقول ببطلان أي خلافة أو إمارة “لا يختارها أهل الشام ولا يقرها أهل الحل والعقد” وأن حالات علاج الفساد وملاحقة الكتائب المفسدة يجب أن تتم عبر الهيئات الشرعية وبقوات مشتركة دون انفراد فصيل بفرض وصايته، وهو الأمر الذي حصل في ريف حلب الشمالي بتدخل الجبهة الإسلامية وجيش المجاهدين مع جبهة النصرة بعد انفرادها بملاحقة كتائب “قبضة الشمال”.
هذا ما قد لا يسمح للنصرة أن تصل بمشروعها إلى مداه الأقصى، أو أن تخفض سقف الأهداف، وما قد يؤثر على هدفها الأول المتمثل بالحفاظ على عناصرها وبينتها من التفكك والتسرب نحو داعش، وفي الآن نفسه فهو يشجع الفصائل المحلية على إقامة كيانات موحدة تمثل مشاريع بديلة، في سوريا عامة، وفي درعا خاصة.
ومثلت منطقة درعا أول تجربة تمارس فيها النصرة السلطة وتفرض نفسها كمرجعية أحادية، وتحافظ على تماسكها رغم الاحتقان المتنامي لدى فصائل من الجيش الحر ترى في النصرة تهديداً لسلطتها أو لحريتها حتى بحكم عمليات الاعتقال المتزايدة، والتي لا تخلو من اعتقالات بحق مسلحين ارتكبوا تجاوزات وانتهاكات فعلاً، كما هو الأمر في ريف إدلب حين هاجمت النصرة مقرات “ذئاب الغاب” المعروفة بانتهاكاتها وتجاوزاتها.
ويأتي تعيين سامي العريدي ضمن سياق التحولات وخطة الإنقاذ التي تتبعها جبهة النصرة في التحول نحو خطاب ايديولوجي أكثر صلابة، ونحو تأكيد مركزية القيادة وتوحيد الاستراتيجية على المستوى القُطري، والرهان على كسب المهاجرين، ونحو ممارسة السلطة -ولو لم تكن مطلقة أو كاملة- على الأرض، لكسب الحواضن الشعبية مباشرة دون وساطة الفصائل المحلية أو الهيئات الشرعية المشتركة.
تواجه النصرة هنا مأزقاً مركّباً، فمن جهة لا تستطيع التحالف مع الفصائل المحلية التي تؤسس مشاريعها السياسية والعسكرية المستقلة عنها، ومن جهة أخرى لا تستطيع مواجهة داعش التي تخشى النصرة من تمددها ضمن صفوفها الداخلية حتى، ومن جهة ثالثة فإن رهاناتها على تحالف المهاجرين معها خفّت فرصه بعد إعلان “جبهة أنصار الدين” في 29 تموز 2014.
ولا تخلو هذه الخطة من مخاطر أخرى قد تتمثل بالصدام مع الفصائل المحلية، أو عدم قدرتها على فرض هذه السلطة، أو حتى بخوف الجبهة الأول المتمثل بالتفكك، مع تنامي مشاعر الخذلان نتيجة خسارة فرع النصرة في دير الزور أرضه دون إمداد من القيادة أو فروع النصرة الأخرى، أو خسارة رمزه الأول وقائده الكاريزمي منصب الشرعي العام بعد ذلك (أو تخلّيه عنه)، ما يحفز مشاعر وردود فعل متضاربة قد لا تتسق جميعها مع صلابة التنظيم وأولوية بيعته، المشاعر التي يوضحها أكثر خطاب القحطاني نفسه، من خلال كلمته الصوتية الأخيرة (في 3 آب/أغسطس الراهن) وتغريداته التي تزداد تصريحاً ورفعاً لسقفها النقدي تجاه قيادة النصرة والقاعدة بخصوص عدم اتخاذ موقف حازم ضد “الخوارج” وعدم تنقية الصفوف الداخلية في جبهة النصرة من “دواعش المنهج” و”خذلان ثورة المظلومين” التي وفرت أهم حاضنة شعبية للتيار الجهادي حسب القحطاني الذي خاطب زعيم القاعدة بها كـ “نصيحة مودع مني لأميري”، تاركاً للأيام القادمة أن تكشف كنه هذا الوداع، هل هو وداع للنصرة، أم وداع أكبر من ذلك.