الوصول السريع للمحتويات

تأثير التيارات المتصارعة داخل داعش على استمرار التنظيم (5)

ابو ميسرة الشامي

من الدولة إلى الشتات

نتج عن الصراع والانقسام الأيديولوجي داخل تنظيم الدولة، وما تلاه من خسارة التنظيم لكل معاقله ولمعظم قادته، فوضى عارمة عصفت بكيانه وبددت ما راكمه من رساميل رمزية على مدار سنوات من البروباغندا الاحترافية التي صدرت للعالم صورة لتنظيم منسجم وموحد ومهاب الجانب. لقد كانت هذه الفوضى بمثابة المخاض الذي أسفر عن ميلاد مرحلة جديدة سيعيش على إثرها التنظيم مفككا، وسينشق عنه الكثير من الكوادر والعناصر الذين سينخرطون بدورهم في مداولات البحث عن البديل. وسيبدؤون التأصيل والتنظير لمشروع جماعة أخرى تستوعبهم، و”أمير” يلم شملهم.

لقد خسر تيار الفرقان كثيرا بعد الانقلاب الذي حدث داخل اللجنة المفوضة، وما أعقب ذلك من قتل واعتقال لمعظم قادته ورموزه، وخسر أيضا بعد حل الدواوين، وتحويل “الولايات” إلى ولايات أمنية، فمعقلهم الحصين “ديوان الإعلام المركزي” لم يعد ذلك الديوان الذي يشتغل على مدار الساعة لإنتاج الأفلام المرئية بوثيرة شبه يومية، ويخرج المجلات والمنشورات متعددة اللغات بشكل دوري، والذي كان يوظف مئات الكوادر من مختلف التخصصات، لقد فقد الكثير من فعاليته بعد هزائم التنظيم المتتالية. لكن مازال عشرات المؤيدين لأبي محمد فرقان وأبي ميسرة الشامي يحتفظون بمواقعهم داخل التنظيم ممن لم تكن تعنيهم تلك المسائل العقدية المثيرة للجدل، بينما انشق آخرون وخرجوا من مناطق التنظيم إلى وجهات أخرى.

إذا كان الحسم الأمني الصارم قد حيد “التيار الحازمي” وأنهاه مبكرا، ثم فقد بعده “تيار الفرقان” تأثيره ونفوذه إثر التطورات والانقلابات التي حصلت داخل التنظيم؛ فإن “تيار البنعلي والقحطاني” استطاع الحفاظ على وجوده رغم مقتل الكثير من رموزه، لقد نجح ما يسميه نشطاء هذا التيار بـ ” حراك طلبة العلم” في تحدي سلطة التنظيم، والتأسيس لشرعية جهادية جديدة منافسة، تسعى لفرض وجودها على أنقاض “الدولة” البائدة. وقد تحول هذا التيار إلى تنظيم موازي يتحين الفرص للإعلان عن نفسه خصوصا وهويته الجهادية ما انفكت تتبلور يوما بعد يوم، وقد يكون نسخة مكررة من فصائل سابقة، اختفت في سياق الصراعات البينية التي شهدتها الساحة السورية مثل جماعة جند الأقصى على سبيل المثال. فكيف استطاع “تيار البنعلي والقحطاني” الحفاظ على وجوده وتحدي قيادة تنظيم الدولة؟ وماهي فرص نجاحه في التأسيس لكيان جهادي جديد؟ وقبل الإجابة على هذه الأسئلة سنتحدث أولا في الفقرة التالية عن واقع ومستقل تنظيم الدولة في ظل تحكم تلك المجموعة من الرجال المتنفذين على قراره (الحجاجي)، تحكم لم يعد يمارس عبر مؤسسات صورية عديمة الصلاحيات أو عبر الدفع بشخصيات في الواجهة بينما يديرون تفاصيل المشهد في الخلفية. لقد انفرط عقد ذلك الجهاز البيروقراطي الذين أسسوه، كما قُتل الخليفة الذي نصبوه، ولا مناص من الخروج إلى الواجهة.

الحجاجي في الواجهة

لم يُخف أسامة بن لادن حسب وثائق أبوت أباد شكوكا ساورته إزاء انتقال الإمارة في العراق بعد مقتل أبي حمزة المهاجر وأبي عمر البغدادي إلى شخصية مجهولة لا يعرف عنها شيئا، لذلك طالب بسيرة ذاتية مفصلة من مصادر مختلفة لأبي بكر البغدادي والأمراء المقربين منه[1]. كما أن القيادي في القاعدة آدم يحيى غدن المعروف بعزام الأمريكي ما انفك يحذر بن لادن بأن وضع الفرع في العراق ليس على ما يرام. وبعد الخلاف المعروف بين القاعدة وتنظيم الدولة على خلفية مطالبة أيمن الظواهري “للدولة” بالرجوع إلى العراق وإلغاء قرار التمدد إلى سوريا، خرج الظواهري مستنكرا ومستفسرا عن هوية ضباط البعث السابقين الذي عقدوا الخلافة لأبي بكر البغدادي[2].

المتتبع والمراقب لظاهرة تنظيم الدولة سيقف على مساحات من الظل وزوايا يلفها الغموض، إذ لا يمكن فهم التنظيم وتفسير قراراته الغريبة استنادا إلى الخطاب الجهادي البحت حتى في أشد صيغ هذا الخطاب راديكالية وغلوا. لقد أسعفنا -أخيرا- منشقون عن التنظيم ببعض الوثائق والشهادات التي ستساعدنا في استجلاء الغموض الذي انطوت عليه عدد من الأحداث والقرارات التي صنعت ظاهرة تنظيم الدولة فيما بعد، وكان لمن يسمون بالحجاجي دور رئيسي فيها.

تشكلت سلطة “الحجاجي” داخل تنظيم الدولة عقب مقتل أبي عمر البغدادي وأبي حمزة المهاجر، كان الأول أميرا لتنظيم دولة العراق الإسلامية والثاني وزيرا للحرب، وهي اللحظة التي انقطعت فيها فعليا العلاقة بين تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة. لقد كان أبو حمزة المهاجر صلة الوصل بين التنظيمين وهو المسؤول عن تزكية قادة تنظيم دولة العراق الإسلامية لدى قادة القاعدة، وبمقتله وجد القادة العراقيون فرصتهم للتحرر من قيود القيادة العامة في أفغانستان وممارسة سلطتهم بكل حرية، وإعادة تشكيل تنظيم دولة العراق الإسلامية وفقا لرؤيتهم وسياستهم الخاصة. كان القرار الأول الذي اتخذوه في هذا السياق هو تعيين أمير جديد للتنظيم دون التشاور مع أسامة بن لادن أو عطية الله الليبي الذي كان مكلفا بمتابعة ملف الأفرع الخارجية للقاعدة. الطريف أن هؤلاء القادة العراقيون واستباقا لأي ترشيح أو تعيين يأتي من القيادة في أفغانستان قاموا بالإعلان عن الأمير الجديد وكان اسمه “أبو بكر البغدادي” وبعد إعلانهم عن الاسم شرعوا يبحثون عن المسمى. كانوا يبحثون عن شخص مغمور وضعيف الشخصية[3] وينتهي نسبه إلى قريش حتى يتأتى لهم التحكم فيه، وفرض إرادتهم عليه، فجاء الاقتراح بتعيين “أبي دعاء السامرائي” لهذا الغرض، فحصل بشأنه التوافق المطلوب ومن تلك اللحظة صار “أبو دعاء السامرائي” يُكنى “بأبي بكر البغدادي”. وبالتالي فالذين بايعوا هذا الأخير أول الأمر إنما بايعوا لقبا وهميا بثه “الحجاجي” في الإعلام ريثما يجدون الشخص المناسب لهم[4].


[1] وثائق أبوت اباد، الدفعة الأولى، الوثيقة رقم: SOCOM-2102-1111100

[2] أيمن الظواهري، رسائل مختصرة لأمة منتصرة، ولا تفرقوا، مؤسسة السحاب، 21/08/2016

[3] أكد هذه النقطة المدعو أبو زيد العراقي نائب البغدادي في مقابلته مع قناة العربية ضمن برنامج صناعة الموت، 12/09/2018 https://www.youtube.com/watch?v=42vlWLuC15s

[4] أبو عيسى المصري، سلطان باريشا، مؤسسة التراث العلمي 2019

مشاركة المحتوى

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاشتراك في القائمة البريدية