عبد الغني مزوز
قبل حوالي شهر من الانقلاب العسكري في مصر كتبت مقالة بعنوان ” الحرب على الإرهاب هستيريا ستعود من جديد”، توقعت فيها أن يعود هاجس الحرب على الإرهاب ليخيم من جديد على الأجواء الدولية، وتوقعت إعادة بعث العقلية الأمنية الاستأصالية، اتجاه كل منظمة أو كيان أو حراك إسلامي مهما كان مدنيا وسلميا أو حتى خيري أو حقوقي. بعد أن خف التصعيد الدولي ضد “الإرهاب” أثناء الربيع العربي، موازاة مع اكتشاف الشعوب العربية أن “الإرهاب” الحقيقي هو ما تمارسه بعض الأنظمة الاستبدادية القمعية بحقها، كما أن انخراط بعض الكيانات التي كانت توصف بالإرهاب في النشاطات الثورية التي تسعى إلى إزاحة بعض الأنظمة الشمولية عن الحكم، ساعد في تغيير الكثير من القناعات والصور النمطية حول ما درج على تسميته “بالإرهاب”
مند فترة بوش الصغير.
من يوم كتابة تلك المقالة إلى الآن وقعت أحداث واستجدت مواقف عززت ما توقعناه، وعادت هستيريا الحرب على الإرهاب من جديد لكن هذه المرة أكثر حدة صاحبها توسيع لدائرة الموصومين بالإرهاب لتشمل حركات إسلامية عريقة و معتدلة، كرست جزء من نشاطها وأدبياتها لتقنع العالم على مدى عقود أنها ضد الإرهاب، وضد العنف بل وانخرطت عمليا و في أكثر من مناسبة في صراعات ضد هذا ” الإرهاب”.
فقد أدرجت واشنطن في قائمة المنظمات الإرهابية كل من جبهة النصرة في سورية، وتنظيم أنصار الشريعة بليبيا وتنظيم أنصار الشريعة بتونس، إضافة إلى الأمين العام لحزب الرشاد اليمني عبد الوهاب الحميقاني و الأكاديمي القطري عبد الرحمن النعيمي رئيس منظمة الكرامة الحقوقية.. ولعل التطور البارز في هذا السياق جاء من مصر التي أعلنت سلطات الانقلاب فيها أن جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وحظرت كل أنشطتها السياسية والخيرية، دون أن ننسى أن مؤتمر جنيف 2 المخصص لبحث حل سياسي “للأزمة السورية” عجز كل الفرقاء المجتمعين فيه على الاتفاق في أي جزئية مرتبطة بالصراع في سورية باستثناء إدانة الإرهاب الجهادي هناك والتعهد بمواجهته من كل الأطراف، بما فيها المعارضة التي بدت متحمسة لذلك أكثر من الجميع.
آخر إجراء رسمي في هذا الصدد كان قبل يومين من العاهل السعودي الذي أصدر مرسوما يقضي بسجن كل من ثبت عليه “ الانتماء للتيارات أو الجماعات – وما في حكمها – الدينية أو الفكرية المتطرفة أو المصنفة كمنظمات إرهابية داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، أو تأييدها أو تبني فكرها أو منهجها بأي صورة كانت، أو الإفصاح عن التعاطف معها بأي وسيلة كانت، أو تقديم أي من أشكال الدعم المادي أو المعنوي لها، أو التحريض على شيء من ذلك أو التشجيع عليه أو الترويج له بالقول أو الكتابة بأي طريقة”.
الإجراء الملكي الذي سيدخل حيز التنفيذ بعد 30 يوما قرأه المراقبون على أنه توسيع لدائرة الحرب على الإخوان المسلمين، والإسلام السياسي عموما وملاحقة المؤيدين له حتى وان كان هذا الدعم رمزيا كرفع إشارة رابعة أو وضعها كصورة في مواقع التواصل الاجتماعي، كما هي عادة عدد كبير من الكتاب والمثقفين السعوديين المؤيدين للشرعية في مصر، وقد أعلن هذا صراحة عضو مجلس الشورى السعودي والمستشار في وزارة العدل ناصر الداود حين قال بأن رفع إشارة رابعة أو وضعها في مواقع التواصل الاجتماعي سيعرض المعني بالأمر للعقوبات المنصوص عليها في المرسوم الملكي وهي السجن من ثلاث سنوات إلى 20 عاما.
لا أرى تفسيرا لكل هذه الإجراءات التعسفية سواء الدولية أو الإقليمية ضد ما يسمونه بالإرهاب، إلا من منطلق المثل الذي يقول ” من أنجز نصف ثورة فقد حفر قبره بيده”، ولأن الإسلام السياسي فشل في استكمال مشوار الثورة وتحقيق أهدافها في عديد من البلدان التي مر منها قطار الربيع العربي، وعجز عجزا تاما عن تحصين مكتسباتها، مما أعطى الفرصة للنظام العربي العميق للعودة مجددا وبقوة إلى ساحة الفعل السياسي واستعاد المبادرة من جديد، فحدث ما نراه الآن في مصر وتونس و اليمن و ليبيا وحتى سورية..نعم لقد عجز الإسلاميون عن التخلص من عقلية الاستضعاف حتى وهم في سدة الحكم، ولم يتصرفوا في اللحظة الثورية بمنطق ثوري حازم، فوجدوا أنفسهم من جديد في المربع الأول وذهبت عقود من الدعوة والتخطيط والتنظير والعمل بلا جدوى وأطل فقه المحنة والسجون من جديد.
سقطت البقرة وكثرت السكاكين مثل ينطبق على راهن الحركة الإسلامية، التي خسرت الكثير. وهناك من يريد أن يحشر الإسلام السياسي في الزاوية لكتم أنفاسه والقضاء عليه بالكلية، وستبقى هذه أمنية تراودهم لكنها لن تتحقق. فالربيع العربي لم يقل كلمته الأخيرة بعد.
ليس هناك فرق كبير بين ما حدث في مصر وما حدث في تونس، ما دام العنوان الرئيسي هو السطو على إرادة الشعب. في مصر اغتيلت الثورة بمدفع تقيل أحدثت ضربته دويا سمعه الجميع، وفي تونس اغتيلت بمسدس كاتم للصوت، إلا أن النتيجة واحدة، سحب للبساط من تحث أقدام الإرادة الشعبية و استعادة قيم النظام البائد. أو قل بأن الدولة العميقة قضت بالضربة القاضية على الثورة في مصر، وانتصرت عليها بالنقاط في تونس. والمحصلة واحدة وأد الثورة والقضاء عليها. بعد أن رفع العلمانيون في تونس ومصر لواء التصدي للإرهاب، وخلف هذه الفزاعة فرض على الشعب التونسي دستور ملغوم طبخت بعض مواده على عجل، بمباركة من قوى إسلامية لا تعرف أنها بذلك قد شحذت السكين الذي ستذبح به يوما.
باستطاعة القوى التي لا تروق لها الثورة أن تفبرك حادثتي اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي لتتخذهما مبررا للسطو على إرادة الشعب التونسي، وقد فبركت بعد ذلك حربا على إرهاب هلامي في جبال الشعانبي، وعجزت عن أن تظهر صورة واحدة لأي أسير أو قتيل أو جريح لهؤلاء الإرهابيين المتحصنين بالجبال، كل ما أعلنته أن هناك كتيبة تشكل خطرا على تونس مرابطة في الشعانبي اسمها “كتيبة جهاد النكاح”، في استخفاف فج بعقول الناس. بينما الحرب الحقيقية تدور هناك في العاصمة وفي أروقة المجلس التأسيسي بهدف فرض الوصاية العلمانية على الشعب ومصادرة هويته الأصيلة، وحصار شرائح واسعة من أبناء الحركة الإسلامية وتجريمهم و حشرهم جميعا في خانة الإرهاب.