ثمّة حاجة عمليّة ونظريّة ماسّةٌ للتدقيق في معاني معظم، وربّما كلّ المفاهيم المستخدمة في التعبير عن المعرفة الإنسانيّة عمومًا، وعن تلك المتعلّقة بالشأن السياسي خصوصًا. وتنبثق هذه الحاجة من التباس هذه المعاني وتداخلها، سواء ضمن المفهوم الواحد، أو في العلاقة بين المفاهيم المتعدّدة. ولا يمكن توضيح المعاني المتعدّدة لمفهومٍ ما إلّا من خلال فهم علاقته بالمفاهيم الأخرى التي يرتبط بها، سواء اتّخذ هذا الارتباط شكل التداخل أو التماهي أو التعارض والتضادّ أو التناقض، أو غير ذلك من أشكال الارتباط. فعلى مستوى المفاهيم المتداخلة، من الضروري توضيح الاختلاف والتمايز بينها؛ لإزالة الاشتباه في كونها متماثلة أو مترادفة المعنى، بحيث يمكن استبدال الواحد منها بالآخر. وعلى مستوى التعارض أو التناقض، من الضروري أحيانًا على الأقلّ، تفكيك هذا التناقض؛ لإبراز علاقة التداخل أو التبعيّة الجزئيّة والنسبيّة التي تربط بين مفاهيمَ يُعتقد أنّها متناقضة قطبيًّا. وتمثّل مفاهيم “الحيادية” و”الموضوعية” و”العقلانية” و”المعقوليّة” جزءًا أساسيًّا من الشبكة المفهوماتية الواسعة الملازمة للفكر عمومًا، وللفكر السياسي خصوصًا.
وسنعمل في هذه المقالة، أوّلًا، على فضّ التداخل أو التماهي المظنون بين الحيادية والموضوعية؛ لنبيّن أنّ الموضوعية قد ترتبط بالضرورة بالتحيّز، لا بالحياد، وأنّ الرغبة في الحياد أو عدم التحيّز يمكن أن تفضي بالضرورة إلى عدم الموضوعية. وسنقوم، ثانيًا، بتوضيح التمايز والاختلاف بين مفهومَي العقلانية والمعقوليّة، وإقامة تقابل بينهما، وتوظيف هذا التقابل في فهم مفهوم الثورة عمومًا، وفي بناء نموذجين متضادّين للموقف السياسي أو الإعلامي من الثورة السوريّة و”فيها” خصوصًا.
الحيادية والموضوعية في المعرفة والفكر السياسي
ثمّة “خطأ” شائع يجعل الحياديّة شرطًا للموضوعيّة، بل ومرادفًا لها أحيانًا، وعليه يكون تأكيد عدم حياديّة فكرٍ ما هو، في الوقت نفسه، دليل واضحٌ على عدم موضوعيته. ويظهر هذا الخلط في أشكالٍ متعدّدة تتجسّد مثلًا في إقامة تعارض أو تناقض قطبي بين الذاتية والموضوعية، أو بين الأيديولوجيا والمعرفة العلمية أو الموضوعية. ويمسّ هذا التناقض المزعوم الفكر السياسي بصفة خاصّة، لأنّ هذا الفكر هو بامتياز شديد، ميدان الأيديولوجيا والتحيزات والذاتية وعدم الحياد. ويشمل الفكر السياسي هنا كلّ تنظير أو نقاش أو تعامل إعلامي مع الشأن السياسي. وعلى الرغم من أنّ التحيز أو عدم الحيادية قد يفضي إلى درجةٍ من عدم الموضوعية، فإنّنا نرى ضرورة التشديد على أمرين، هما: إنّ التحيّز أو عدم الحياد أمر لا مفرّ من حصوله، بطريقة أو بأخرى، وإلى درجة أو أخرى، في المعرفة عمومًا، وفي تلك المتعلّقة بالشأن الإنساني أو السياسي خصوصًا؛ وفضلًا عن ذلك، إنّ عدم الحياد لا يؤثّر بالضرورة سلبيًّا في موضوعية الفكر أو المعرفة، بل قد يكون أحيانًا شرطًا ضروريًّا من شروط الوصول إليها، أو إلى درجة من درجاتها المرغوبة أو الممكنة.
الذاتية هي طريق ضروري للموضوعية؛ بمعنى أنّ كلّ معرفة تتطلّب ذاتًا عارفةً. والمعرفة “الموضوعية” هي معرفةُ ذاتٍ أو ذواتٍ بموضوعٍ ما. والمرور الضروري للمعرفة عبر الذات يترك حتمًا آثار هذه الذات وبصماتها في صوْغ شكل تلك المعرفة ومضمونها. فالمعرفة الإنسانيّة محكومة أو محدودة بملكات الإنسان الحسّية والنفسية والعقلية وممكناتها، وتحدّد هذه الملكات جانبًا ممّا يمكن تسميته بالبعد الوجودي (الأنطولوجي) الأساسي للذات العارفة. وفي مقابل هذا البعد الوجودي الأساسي، ثمّة بعد وجودي -إبستيمولوجي يتحدّد بالمعارف التي اكتسبها الإنسان عبر تفاعله مع بيئته، وتحصيله المعرفي التاريخي، وباهتماماته وميوله، وبوجهات النظر التي كوّنها، وبكلّ ما يشكِّل الأحكام المسبقة الواعية أو غير الواعية التي تؤثّر، إلى درجةٍ ما، في رؤيتنا للواقع، وفي تعبيرنا عنها. وثمّة بعدٌ ثالث هو منظور معرفي – أخلاقي يتحدّد بالحقل المعرفي الذي نشتغل فيه، وبالنظريات التي نعمل في إطارها، وبالمبادئ والمفاهيم التي نستند إليها أو نستخدمها، وبالغايات أو النتائج التي نسعى إليها ونرغب فيها، وبالعوامل الشخصية أو غير الشخصية التي تدفعنا إلى تناول هذا الموضوع وإلى السعي إلى هذه الغايات وتلك النتائج، وبتقييماتنا الأخلاقية وغير الأخلاقية موضوع المعرفة وحيثياته.
وتتداخل هذه الأبعاد وتتشابك إلى درجةٍ تفضي في النهاية، إلى تشكيل منظور واحد لا تتحدّد من خلاله ذاتيّة المعرفة وانحيازها الضروري الجزئي والنسبي فحسب، بل تتحدّد موضوعيتها الممكنة أو المتوخّاة أيضًا. ومن الواضح أنّ السمة المنظورية الملازمة لمعرفة الذات تجعل من حيادها أو عدم تحيّزها أمرًا مستحيلًا وغير ممكن، من حيث المبدأ. والمقصود بالحياد هنا هو عدم اتّخاذ أيّ موقف تقييمي من الموضوع المبحوث. ويشمل التقييم هنا ثالوث القيم عمومًا، وقيمتَي الحقّ والخير خصوصًا. ومن الواضح أنّ السمة المنظورية للذات العارفة تتضمّن عادةً بالضرورة تقييمات أوليّة عن الموضوع المبحوث؛ ويصدق ذلك، بصفة خاصّة، حين يكون الإنسان هو الباحث والمبحوث، هو الذات العارفة والموضوع المعروف. ويظهر ذلك بصورة نموذجية في الميدان السياسي، حيث تبرز أو تسود الأيديولوجيات أي الأفكار أو الأنساق الفكرية التي تتناول أو تمسّ، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، حريّات الناس وحقوقهم وواجباتهم وتطلّعاتهم ومصالحهم الخاصّة والعامّة، والتي تتأسّس بالدرجة الأولى، على الإرادة الساعية إلى تبرير ما هو كائن أو ما يجب أن يكون، أو تسويغهما أو ترويجهما. ومن الصعب أن يكون الإنسان محايدًا ولا يتبنّى موقفًا نظريًّا ما، حين يتعلّق الأمر بهذه الأمور المهمّة إلى درجةٍ قد تجعلها مصيريّة. وعلى الرغم من تفاوت البشر في تحيّزهم أو عدم حيادهم – وهو التفاوت الذي يتلاءم عمومًا مع مدى تأثّرهم المادي أو المعنوي، المباشر أو غير المباشر، بالأوضاع المدروسة أو ذات الصلة – فإنّ هذا التفاوت لا يمكن أن يفضي إلى الحيادية الكاملة أو المطلقة.
لكن هل يمكن، أو هل ينبغي أن يقتصر تعريف الموقف الحيادي على أنّه الموقف الخالي من التقييم في التعاطي مع الواقع المدروس؟ ألا يجري أحيانًا، وربّما غالبًا، مماهاة الموقف المحايد مع الموقف الوسطي الذي يحاول البقاء على مسافة واحدة من الأطراف المختلفة؟ لا نؤمن بمعقولية هذه المماهاة، ولا بإمكانية اتّخاذ الوسطية معيارًا للحيادية. فاتّخاذ الوسطية معيارًا للحيادية يعني اتّخاذ موقف “لا مبالٍ” من الواقع ومن الموضوع المُختلَف فيه أو عليه، واللامبالاة أو عدم الاكتراث هو موقف قيمي، في نهاية المطاف. قد يقال إنّ الوسطية لا تتضمّن أيّ تقييم، وإنّها تحافظ بذلك على الحيادية، على الرغم من إمكان الحكم عليها بأحكامٍ تقييمية. لكن هل تخلو فعلًا الحيادية، بوصفها وسطيّةً، من الأحكام التقييمية؟ ينبغي التمييز هنا بين الأحكام التقييمية الخاصّة والمباشرة، والأحكام التقييمية المستعارة وغير المباشرة. فإذا كان بإمكان صاحب الموقف الوسطي المحايد تعليق قيمه الخاصّة أو عدم الاستناد إليها، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقلّ، فهذا يعني أنّ موقفه سيتحدّد انطلاقًا من قيم الآخرين وتحيّزهم وعدم حيادهم – فالوسطيّة تتحدّد تبعًا لموقف الطرفين أو مواقفهما – وهذا يعني أنّ موقفه يتضمّن بالضرورة أحكامًا تقييمية غير مباشرة، على الأقلّ، وهي الأحكام المؤسَّسة على أحكام الآخرين وتقييماتهم الخاصّة.
ولتوضيح إمكانيّة عدم حيادية الموقف الوسطي، سنحاول تطبيقه في حالة الصراع بين “ظالم” و”مظلوم”، أو إذا استخدمنا مصطلحات ذات شحنة قيمية أقلّ، بين نظام ديكتاتوري ومعارضيه السلميين أو غير السلميين. قد يرفض هذا النظام اتّهامه بالديكتاتورية ويسوّغ إجراءات القمع التي يتّخذها ضدّ معارضيه، منذ عشرات السنين، بالأوضاع الاستثنائية للبلد، وبلا وطنية هذه المعارضة التي لا تفهم هذه الأوضاع والضرورات التي تفرضها، أو لا تتفهّمها. وفي المقابل، قد لا يرى المعارضون في هذا النظام إلا الطابع الاستبدادي الذي يحاول التخفّي وراء شعاراتٍ لم تكن يومًا مبادئ محرّكة سلوك هذا النظام، مع تشديدهم على أنّ الأوضاع الاستثنائية التي يتحدّث عنها النظام، هي، جزئيًّا ونسبيًّا على الأقلّ، نتاجٌ لاستبداده وفساده، كما أنّ هذه الأوضاع تقتضي التخلّص من الاستبداد والقمع، وإفساح المجال أمام مزيد من الحريات، لا العكس، كما يدّعي النظام.
نحن هنا أمام موقفين متناقضين ومتطرّفين، فهل يمكن للوسطيّة – بوصفها اتّخاذ مسافة متساوية من الأطراف المتنازعة – أن تكون حيادية؟ وبأيّ معنى يمكنها ذلك؟ ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ الظالم أو المعتدي يرغب دائمًا تقريبًا في ابتعاد الآخرين عن تقييم أفعاله ونتائجها، وإبعادهم. فبالابتعاد عن هذا التقييم، تتحوّل المجازر إلى أحداث، والثورة إلى أزمة، والقمع الوحشيّ إلى مواجهات عنيفة، والمواجهة بين الشعب والاحتلال الداخلي أو الخارجي إلى صراع بين طرفين… إلخ. والموقف الوسطي الساعي إلى الحياديّة هو موقفٌ يحقّق الرغبة المذكورة بامتياز، إذ لا نستطيع أن نتبيّن من خلاله، من هو الظالم ومن هو المظلوم، من هو الجاني ومن هو الضحيّة، من هو المسؤول الأساسي ومن هو المسؤول الفرعي… إلخ. وهذه الميوعة، أو هذا الحياد المزعوم أو الشكلي في الموقف هو عمليًّا وبالنتيجة، تحيّزٌ سافر إلى الظالم ضدّ المظلوم الذي يرفض هذا الحياد المتحيّز، ويرى ضرورة اتّخاذ موقف واضح من الواقع أو الوقائع، بناءً على ما هو حقٌّ وحقيقي، وليس بناءً على الرغبة في تجنّب اتّخاذ موقف مؤيّد أو معارض هذا الطرف أو ذاك. فحتّى إذا كان من الممكن تنفيذ هذه الرغبة شكليًّا وعلى الصعيد النظري، فإنّ هذا التنفيذ ينطوي ضمنيًّا، وعلى الصعيد العملي، على موقف متحيّز وغير حيادي، لأنّه يتلاءم مع مصالح طرفٍ دون آخر ورغباته. وباختصار، الحياد أو الوسطيّة هي موقفٌ تقييمي وقيمي بالضرورة. وفي حالة الثورة السوريّة، تبدو لا حياديّة الموقف الوسطي واضحةً في آراء بعض الوسطيِّين الإعلاميين ومواقفهم، بل حتّى في مواقف بعض المعارضين السوريّين “المزعومين” الذين يصرّون على الحديث عن المسؤوليّة المشتركة للأطراف السوريّة المتصارعة عن الجرائم الكثيرة والكبيرة المرتكبة في هذا الصراع، من دون الخوض الضروري في تفاوت مسؤولية كلّ طرف، ومن دون الانتباه إلى جدل العلاقة بين السبب والنتيجة، في هذا الإطار.
لكن، إذا كان الحياد أمرًا مستحيلًا من حيث المبدأ في المعرفة عمومًا، وفي تلك المتعلقة بالشؤون السياسية خصوصًا، فهذا لا يعني أنّ تلك الاستحالة تفضي إلى استحالة بلوغ درجةٍ من الموضوعيّة، في هذا الخصوص. والموضوعية، بوصفها سمةً للمعرفة، تعني التعبير الدقيق نسبيًّا وجزئيًّا، عن الواقع الموضوعي، كما يبدو لنا، من منظور ما. وإذا اتّخذنا من حالة الثورة السوريّة مثالًا لتوضيح هذه الفكرة، يمكن تفهّم العوامل التي أفضت إلى المماهاة بين الحياد والموضوعية، أو بين عدم الحياد وعدم الموضوعية، إذا انتبهنا إلى ممارسة بعض المتحزّبين الأيديولوجيين الذين يغضّون الطرف، بوعيٍ أو من دونه، عن سلبيّات الاتّجاه الذي يؤيّدونه وعن نسبية الحقيقة التي يمثّلها ومحدوديّتها؛ فبعض مؤيّدي “الثورة السوريّة” يرون في أيّ انتقاد أو حتّى نقدٍ لبعض الممارسات السلبيّة ﻟ “الثوّار”، أو المحسوبين عليهم، موقفًا غير ملائم وغير مقبول. ويسعى أمثال هؤلاء المتحيّزين إلى الثورة إلى إنكار هذه الممارسات أو تبريرها أو التقليل من أهميتها. وفي مثل هذه الحالات، يمكن بالطبع الحديث عن التأثير السلبي للتحيّز أو لعدم الحياد عن الموضوعيّة. لكنّ هذه الحالات الشائعة لا تعني أنّ كلّ مؤيّد للثورة، أو متحيّز إليها، سيسلك بالضرورة هذا السلوك، وسيتبنّى بالتأكيد هذه النظرة الأحاديّة غير الموضوعية.
ربّما كان من الممكن إظهار عدم وجود ترابطٍ ضروري بين عدم الحياد وعدم الموضوعية، من خلال المقارنة بين موقف المنحازين إلى الثورة أو مؤيّديها وموقف المنحازين إلى النظام أو مؤيّديه. ولكي تكون المقارنة منصفة، نسبيًّا على الأقلّ، سنحاول أن تكون المقارنة متعلّقةً بموضوع واحد، وهو: الحصار الذي فرضته قوّات النظام أو قوّات معارضيه على بعض المدن أو المناطق السوريّة؛ فمنذ بداية الثورة تعرّض عددٌ كبير من المناطق السوريّة لحصار خانق، مُنع فيه إدخال كلّ الموادّ الغذائية والطبية والمحروقات وغيرها من الحاجات الأساسية والضرورية إلى تلك المناطق. وقد مارست قوّات النظام سياسة التجويع والحصار هذه على درعا والغوطة الشرقية والجزء المحرّر من مدينة حمص… إلخ، في حين قامت قوّات المعارضة بممارسة هذا الفعل الإجرامي في الجزء الغربي من مدينة حلب، وفي عفرين ونبل والزهراء… إلخ. وقد أعلن الكثير من الثوّار أو من مؤيّديهم رفضهم التامّ لقيام بعض كتائب الثوّار أو المحسوبين عليهم بهذا الفعل الشنيع، وخرجت تظاهراتٌ في بعض المناطق المحرّرة ضدّ هذا الحصار وضدّ كلّ من يمارسه أو يؤيّده أو يبرّره؛ وفي المقابل، نجد أنّ مؤيّدي النظام لم يصدر عنهم أيّ اعتراض فعلي أو حقيقي، أو حتّى رمزي على ممارسة قوّات النظام هذا السلوك الوحشي؛ لا بل يمكن القول إنّ الكثير من المتحيّزين إلى النظام لم يرَوا في هذا الحصار أو في قصف المدن بالبراميل أو بالصواريخ البالستية أيّ أمر شائن، وذهب البعض في دفاعه عن النظام، إلى درجة إنكار حصول هذا الأمر أصلًا. ويتنافى عدم الحياد هنا، بصورةٍ كاملة تقريبًا، مع الموضوعيّة. لكن لا ينبغي تعميم حالة “المنحبكجيّة” السوريّة على كلّ حالات عدم الحياد. فهذه الحالة هي حالة مَرضية، بالمعنى الأخلاقي على الأقلّ. ولهذا السبب، وبسبب طبيعة النظام الاستبدادية، لم يحصل أن قام مؤيّدو النظام بأيّ تظاهرة أو حركة احتجاج ضدّه، ولا يمكن تصوّر حصول ذلك أصلًا. والمقصود بالنظام هنا ليس السلطة الاسميّة المتمثّلة في الحكومة ومجلس الشعب وما شابه، وإنّما المقصود هو السلطة الفعليّة المتمثّلة في القوى الأمنيّة والعسكريّة بقيادة الأسرة الحاكمة.
ونحن لا نريد الاكتفاء بفضّ الترابط الضروري المزعوم بين الحياد والموضوعية فقط، وإنّما نريد أيضًا أن نؤكّد أنّ عدم الحياد قد يساعد على تعزيز المعرفة الموضوعية، أكثر من كونه يمثّل بالضرورة عائقًا أمام تلك المعرفة. فتحيّزنا إلى طرفٍ ما يمكن أن يساعدنا على امتلاك فهمٍ أكبر وأعمقَ لهذا الطرف. ومن المفيد التذكير هنا بقول دلتاي “إنّنا نفهم الإنسان ونفسّر الطبيعة”. فنحن نستطيع، من حيث المبدأ، فهْم البشر عمومًا، لأنّنا مثلهم أو لأنّهم مثلنا بمعنى ما. ويعني الفهم هنا إدراك المعقولية، والإمساك بالمعنى، في إطار كلية ما متّسقة. أمّا التفسير، فيعني هنا ردّ نتيجة ما إلى أسباب ما، من دون الحديث عن معنًى منطقي أو عضوي ما لهذا الترابط بين السبب والنتيجة. فليس هناك ترابط عضوي ضروري بين هبوب الرياح وسقوط شجرة ما، لكن ثمّة ترابط قويّ وصميمي بين الفعل الإنساني وغاياته. ويمكن للانتماء إلى طرف ما، وللتحيّز إليه وإلى ما يفعله، أن يساعد بالتأكيد على تكوين فهم أكبر لطبيعة هذا الطرف، وللمعقولية الداخليّة لفعله ومسوّغاته وغاياته، بدلًا من الاكتفاء بتفسيرها من الخارج، أي ردّها أو اختزالها إلى عوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية… إلخ. ولهذا، لم يستطع بعض “العقلانيين” فهم الثورة السوريّة، لأنّهم أرادوا التفكير فيها من خلال منطق غريب عنها، منطق العقل الحسابي الذي لا يرى مسوّغًا للفعل سوى النتائج الإيجابية التي يمكن أو يُرجّح أن يفضي إليها، أمّا المعقوليّة ذات البعد الأخلاقي – النفسي التي تربط الفعل بحيثيّاته وسوابقه، أكثر ممّا تربطه بنتائجه وبالمصالح الخاصّة أو العامّة التي يحقّقها، فقد ظلّت هامشية أو غائبة، في ظلّ هذا التفكير “العقلاني”.
الثورة السوريّة بين المعقوليّة والعقلانيّة
لمصطلحَي العقلانية والمعقوليّة قصّة طويلة ومعقّدة في تاريخ الفلسفة عمومًا، وفي تاريخ الفلسفة السياسية خصوصًا. وفي هذا التاريخ، تتنوّع العلاقة بين هذين المصطلحين، فنجد التناقض أو التضادّ القطبي من جهة أولى، والتماهي أو تضمّن أحد المصطلحين للآخر من جهة ثانية، والتداخل أو التشابك من جهة ثالثة. ونعتقد في إمكان استخدام هذين المصطلحين لقراءة موقفين متمايزين من مفهوم الثورة عمومًا، ومن الثورة السوريّة خصوصًا.
الفعل العقلاني هو الفعل المتأسّس على العقل الحسابي، وهو فعلٌ مدفوع بالمصلحة الخاصّة أو العامّة التي يمكنه تحقيقها، ويكون ناجحًا ومسوّغًا بقدر تحقيقه هذه المصلحة. ويتطابق هذا المفهوم للعقلانية مع المفهوم المستخدم في “نظريّة الخيار العقلاني”، لكنّه يختلف عنها في أنّه يضيف مفهوم المصلحة العامّة إلى مفهوم المصلحة الخاصّة التي ترى فيها تلك النظرية الهدف الوحيد للفعل العقلاني. ويمكن مصالحة مفهومنا عن العقلانية، جزئيًّا ونسبيًّا، مع مفهوم العقلانية لدى “أمارتيا سن” الذي يرى أنّ عقلانية فعلٍ ما تكمن في كونه قادرًا “بالحجّة والمنطق على اجتياز اختبار الامتحان النقدي”. ويمكن تحقيق هذه المصالحة الجزئيّة، إذا اتّخذنا من مدى نجاح الفعل في تحقيق المصلحة الخاصّة أو العامّة معيارًا للمحاكمة النقديّة التي ينبغي له اجتيازها. وباختصار، الفعل العقلاني هو فعل غائيّ تحرّكه النتيجة المتوخّاة أو المرغوبة، والمتمثّلة في المصلحة الخاصّة أو العامّة.
تختلف المعقولية عن العقلانية في كونها لا تتأسّس بالدرجة الأولى، على المصلحة النفعيّة، بغضّ النظر عن كون هذه المصلحة عامّةً أو خاصّة، كما أنّها لا تنبني على حسابات المكاسب والخسائر؛ وعليه، هي لا تضع نتائج الفعل معيارًا لمحاكمة مدى ضرورة القيام به أو عدمها. ما هو معقولٌ يتحدّد وفقًا لمدى المقبوليّة الأخلاقية – النفسية للفعل أو للواقع الذي يتعامل معه. وهكذا تحيل المعقولية على “حساسية أخلاقية” تفتقدها العقلانية الحسابية، كما يقول جون رولز محقًّا، في سياق تمييزه بين المعقول والعقلاني. وتبرز المعقولية بوضوح، في حالات الفعل القائم على أسس أخلاقية – نفسية ما. وعدم اكتراث الفعل المعقول، نسبيًّا وجزئيًّا، بالنتائج التي يمكن أن يُفضي إليها، لا يعني أنّه ليس فعلًا غائيًّا؛ بل يعني أنّ غائيّة هذ الفعل ليست قائمة على حسابٍ للنتائج الممكنة أو المرغوبة، وإنّما تنبني هذه الغائيّة على أساس الموقف الذي ينبغي اتّخاذه تجاه وضعٍ ما. ففي حالة تعرّض شخص ما أمامنا للاعتداء، تقتضي المعقولية الدفاع عن هذا الشخص والعمل على إيقاف هذا الوضع غير المقبول، أخلاقيًّا ونفسيًّا؛ أمّا العقلاني فربّما يمتنع عن التدخّل، إذا اعتقد أنّه لن يستطيع تحقيق مصلحة ما من وراء هذا التدخّل، وأنّ مصلحته الخاصّة قد تتضرّر بشدّة من جرّاء هذا التدخّل.
في مقاربة الفعل الثوري، انطلاقًا من هذين المفهومين، نعتقد أنّ ما يميّز هذا الفعل بالدرجة الأولى، هو معقوليته وليس عقلانيته. فالفعل الثوري يتماهى مع رفض أخلاقي – نفسي لواقع أو نظام سياسي ما، ويجري التعبير عن هذا الرفض، على الرغم من، أو بغضّ النظر – جزئيًّا ونسبيًّا على الأقلّ – عن النتائج التي يمكن أن تنتج من هذا الفعل؛ وهي نتائج قد تلحق ضررًا كبيرًا بالمصلحة العامّة وبالكثير من المصالح الخاصّة، على المدى القريب أو المنظور، على الأقلّ. وتحصل الثورة عندما لا يرى عدد كبير من “المواطنين” معقوليّة في استمرار واقعٍ أو نظام سياسي ما، ويرون بموازاة ذلك، ضرورة أخلاقيّة – نفسية في التحرّك ضدّ هذا الواقع أو النظام، وتغييره تغييرًا جذريًّا. فمعقولية الفعل الثوري أو مقبوليته مرتبطة بعدم مقبولية الواقع أو النظام السياسي الذي تحصل الثورة ضدّه، ولا معقوليته. وتتأسّس معقوليّة الفعل الثوري على ما سبق هذا الفعل أو تزامن معه، وليس على ما يمكن، أو على ما يجب أن يأتي لاحقًا. ولا يملك الفعل الثوري – بوصفه فعلًا معقولًا مُستنفَدًا في ما حصل أو يحصل – تصوّرًا واضحًا عن المستقبل. ويجري اختزال المستقبل المنشود إلى نفيٍ أو سلبٍ للحاضر المنبوذ. فمعقولية الفعل الثوري تجعله فعلًا هدّامًا، يستغرقه السعي إلى تقويض أركان الواقع أو النظام المرفوض، إلى درجة لا تسمح له بالتفكير كثيرًا في رسم تفاصيل بناء المستقبل المنشود أو أسسه. لكنّ الهدم أو التقويض الذي يقوم به الفعل الثوري هو مرحلة ضروريّة لأيِّ عمليّة بناءٍ أو تأسيس لاحقة.
ولا تفضي معقولية الفعل الثوري إلى تعارضه بالضرورة مع العقلانية، إذ يمكن للعقلانية أن تتكامل مع معقولية الثوري بقدر ما تسخّر هذه العقلانية ذاتها لخدمة الفعل الثوري ومنطقه القيمي – النفسي، بدلًا من التفرّغ لانتقاده، وفقًا لمنطق غريب عليه، وهو منطق العقل الحسابي.
ونجد في حالة الثورة السوريّة مثالًا نموذجيًّا على جهل العقلانية أو تجاهلها أسس الفعل الثوري ومعقوليته. فثمّة من ينتقد الثورة السوريّة؛ لأنّ قيامها أفضى إلى نتائج كارثيّة على مستوى الدولة والمجتمع والأفراد، في الوقت نفسه. ويتجاهل هؤلاء المنتقدون، إلى درجةٍ ما، أنّ الثورة ونتائجها الكارثيّة هي، في مجملها وبدورها، نتيجة “طبيعية” لقمع وحشي، وفساد شامل تاريخي، استمرّ لعقود. إنّ قيام الثورة السوريّة واستمرارها هو انتصار لشجاعة المعقولية الرافضة، على جبن العقلانية الخاضعة. ففي سورية ما قبل الثورة، ساد منطق العقلانية الخانعة والساعية إلى المصلحة الخاصّة، لفترة طويلة. ومع الثورة فقط، بدأت ملامح المعقولية الأخلاقيّة في البزوغ والبروز والشيوع. ويعتقد بعض العقلانيين أنّ النتائج الكارثية للثورة (وهي بالأحرى نتائج قمعها) ينبغي أن تدفع الثوّار إلى إعادة “حساباتهم” وإلى “الاستسلام” موَقّتًا، لتجنيب البلاد والعباد حصول المزيد من هذه النتائج الكارثية. وبغضّ النظر عن عدم وجود هذه “الحسابات” لدى المؤمنين بمعقولية الثورة، وعن لا أخلاقيّة هذا “الاستسلام” المنشود عقلانيًّا، إلا أنّه ينبغي التشديد على نقطة أساسية، في هذا الخصوص:
من زاوية التفكير العقلاني، يتميّز الإنسان عن بقيّة الكائنات الحيّة بأنّه كائن عاقل “أو عقلاني”، ولهذا يرى العقلاني أنّه ينبغي للثوّار السوريين الاستسلام والإذعان، تجنّبًا لما هو أسوأ؛ في المقابل، وانطلاقًا من قيم المعقولية، يتميّز الإنسان الثائر عن بقيّة البشر، وعن معظم الحيوانات، على الأقلّ، بأنّه كائن ذو كرامة، ولهذا عليه ألّا يخضع ويستسلم مهما كلّف الأمر.