خلافا لمعظم البرقيات والرسائل ومحاضر الاجتماع السرية التي نشرت لبعض قادة العالم في السنوات الأخيرة ( برقيات وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكتين، محاضر اجتماع صائب عريقات مع قادة إسرائيل، برقيات سنودن، تسريبات الفاتيكان، البريد الشخصي لبشار الأسد، تسريبات مكتب السيسي..) فان رسائل أسامة بن لادن وبرقياته السرية تختلف عن كل ما سبق في أنها لا تحمل أي جديد يمكن أن يوضع خارج سياق ما ينادي به وما يتحدث به علنا في خطاباته وتوجيهاته، بمعنى ليس هناك ما يمكن أن يوصف بالغسيل قد نشر للرجل، مع أن فرقة السيلز الأمريكية قد نفذت إلى كل مراسلاته، وحصلت على الأقراص الصلبة ومفاتيح الفلاش المحمولة usb واستخرجت منها آلافا من الرسائل والوثائق بالغة السرية، ويبدوا أن ما نشر منها هو أقصى ما يمكن أن يصنف في خانة ” الغسيل” وليس كذلك فالصورة التي رسمتها رسائله السرية هي ترسيخ لصورته التي عرفه بها كل العالم.
مؤخرا نشرت حزمة جديدة من الرسائل التي عثر عليها في بيت أسامة بن لادن بأبوت أباد، وسنحاول في هذه المقالة تناول واحدة منها بالتحليل، وتسجيل الملاحظات المختلفة عليها، الرسالة مؤرخة بتاريخ الجمعة 26 شعبان 1431 وقد بعث بها أسامة بن لادن إلى شخص يدعى “الشيخ محمود” ويبدوا أنه اسم مستعار للقيادي في القاعدة عطية الله المصراتي، يطرح له فيها مجموعة من التوصيات التي تخص “الأقاليم” المرتبطة بالقاعدة، حيث بدأ بالصومال مبينا أن بيعة حركة الشباب للقاعدة تكون على “الجهاد لإقامة الخلافة”. وهذا دليل على أن البيعات التي كان يأخذها أسامة بن لادن من الجماعات التي تعلن ولائها له هي “بيعات حرب” وليست بيعات عظمى. وقدم أسامة بن لادن في الرسالة مجموعة من التوصيات التي تهم التنمية الزراعية في المناطق التي تسيطر عليها حركة الشباب في الصومال، واقترح مجموعة من الاقتراحات التي رآها مناسبة لتخفيف آثار الجفاف الذي تعاني منه الصومال، وأمر في الوقت ذاته قادة الحركة بعدم الاشتغال بالتجارة لأن ذلك قد يفتح الباب أما احتكار ها دون بقية الناس، وقدم تفاصيل دقيقة حول نجاعة بعض المزروعات وأهمية التركيز عليها كالنخيل مثلا مستندا إلى خبرته التي اكتسبها أيام إقامته في السودان والمشاريع التي أشرف عليها هناك.
ثم انتقل بن لادن إلى الحديث عن ” المغرب الإسلامي” ويبدوا أن هناك تفاصيل كثيرة معروفة بين طرفي الرسالة، فاكتفى بن لادن بذكر بعض جزئياتها، منها أن هناك دولة ترغب بعقد هدنة مع القاعدة، فأوصى بن لادن بإمضائها قائلا :” إننا نرغب في تحييد كل ما يمكن تحييده في فترة حربنا مع العدو الأكبر أمريكا.” كما يظهر من الرسالة أن فرع القاعدة في المغرب الإسلامي قد اشترط على تلك الدولة مبلغ عشرة ملايين دولار سنويا لإتمام الهدنة، فأوصى بن لادن بإلغاء الشرط. ونبه عطية الله الليبي المفترض أنه “الشيخ محمود” إلى أنه لم يتمكن من فتح رسالة من أبي مصعب عبد الودود وطلب منه إعادة إرسالها بعد التأكد من أنها قابلة للفتح، ويبدوا أن ذلك راجع إلى خلل في الفلاشة أو وسيلة التخزين التي تحمل الرسالة، أو خطأ في إعدادات برنامج التشفير إن كانت الرسالة مشفرة.
بخصوص اليمن فقد أشار بن لادن إلى أن هناك سياسة جديدة يجري التمهيد لها، ولم توضح الرسالة ماهية السياسة الجديدة وملامحها، وكشف أنه ينتظر تقريرا مفصلا عن أوضاع اليمن يعده قائد القاعدة هناك أبو بصير الوحيشي قبل الشروع في تنفيذ هذه السياسة.
أما بالنسبة للعراق فأشار بن لادن إلى الخلاف الحاصل بين جماعة أنصار الإسلام ودولة العراق الإسلامية، آمرا عطية الله باستمرار التواصل مع دولة العراق وتنبيههم إلى ضرورة تجنب الخلاف والصدام، والاستعانة بشيوخ العشائر وعناصر أنصار الإسلام المنظمين لدولة العراق من أجل حل الخلافات. وهنا يمكن أن نسجل ملاحظات مهمة وهو أن الشكاوى التي كانت ترسلها جماعة أنصار الإسلام على الأرجح لم تصل إلى أسامة بن لادن، بدليل أن تصور بن لادن للخلاف بن أنصار الإسلام ودولة العراق خاطئ، فهو يفترض أن دولة العراق هي صاحبة الحق ، وجماعة أنصار الإسلام هي الباغية وبالتالي طلب الاستعانة بعناصر من أنصار الإسلام بايعت الدولة لحل الخلاف. وتؤكد صيغة العبارة التي استهل بها بن لادن قضية الخلاف بين الفصائل في العراق أن قيادة دولة العراق الإسلامية قد مارست تضليلا كبيرا حول الموضوع وأرسلت إلى بن لادن تقارير خاطئة في هذا الصدد حيث قال هذا الأخير :” بخصوص ما ذكره الإخوة في العراق عن الخلاف بنهم وبين جماعة أنصار الإسلام”، يعني أن الخلاف لم يصل إليه منه سوى ما “ذكره الإخوة هناك”. وسياسة ” ما ذكره الإخوة هناك” هي التي غيبت قيادة القاعدة عن حقيقة ما يجري في العراق، حتى وصلت إلى ” عذرا أمير القاعدة” و ” لقد وضعت اليوم نفسك وقاعدتك” و ” لم تسألنا يوما –ومن قبلك- كم عدد جنودنا ” وهي عبارات قاسية خاطب بها العدناني أخيرا قيادة القاعدة.
أما حديث أسامة بن لادن عن أفغانسان وباكستان فأوصى أن تنشر الأحاديث التي تتحدث عن حرمة الدماء بين كوادر طالبان باكستان، ووجه عطية الله إلى ضرورة مواصلة التفاوض مع الحكومة الباكستانية حول الهدنة المقترحة، وأمر بعدم إشغال مفتي القاعدة أبي يحيى الليبي بالأمور الإدارية وتركه يتفرغ للبحوث الشرعية والفتيا، كما طلب الحصول على السير الذاتية المفصلة لكل العناصر المرشحة لشغل مناصب إدارية كبرى.
من أهم ما ورد في رسالة بن لادن توجيهاته المتعلقة بكيفية التعامل مع البريد الالكتروني وأنظمة التشفير، حيث نبه إلى خطورة اعتماد البريد الالكتروني وسيلة للتواصل، وأمر أن لا تضمن رسالة مرسلة بالبريد الالكتروني أي معلومات خطيرة خصوصا تلك المتعلقة بالأعمال الخارجية، وينبغي أن يفترض مرسل الرسالة أن محتواها ستطلع عليه جهات معادية لا محالة، وأكد بن لادن على ضرورة عدم الثقة في أنظمة التشفير مهما كانت قوتها وسمعتها، معترفا أن علم التشفير :” ليس علمنا ولسنا من اخترعه، وبالتالي نجهل كثيرا منه ومن هنا أرى أن إرسال أي أمر سري خطير عبر البريد معتمدين على التشفير مغامرة حيث أنه من المتوقع أن من صنع هذا البرنامج يستطيع فتح الرسالة المشفرة مهما كان نظام التشفير، فالاعتماد على نظام التشفير يكون لتعجيز العامة عن فتح الرسالة أما في الحروب وبإمكانيات الدول خاصة إذا كانت ذات باع في هذه التخصصات فلا ينبغي الاعتماد على التشفير…ولا يكون التواصل إلا عبر الأشخاص ليبلغوا الرسالة المطلوبة للطرف المعني”
أشار بن لادن في سياق حديثه عن البريد الالكتروني وأنظمة التشفير إلى مسألة خطيرة استدل بها على أن الاستخبارات الغربية مطلعة على رسائل البريد الالكتروني وهي أن أبا بصير الوحيشي أمير القاعدة في اليمن أرسل رسالة إلى قيادة القاعدة في أفغانستان بواسطة البريد الالكتروني تحدث فيها عن مقترح نقل الإمارة في اليمن إلى أنور العولقي، فصرح الأمريكيون حينها أن العولقي هو القائد الفعلي لتنظيم القاعدة في اليمن. ما اعتبره بن لادن دليلا على اطلاع جهات استخباراتية ما على محتوى رسالة أبي بصير.
إذن على عكس ما يكتبه البعض من أن بن لادن فقد سلطته الفعلية على تنظيمه، وأن كاريزميته وسلطته الروحية هي التي تبقيه على رأس القاعدة، فإن رسائله السرية المنشورة أكدت أنه حريص على معرفة كل شاردة وواردة من شؤون تنظيمه، وتتضمن معظم رسائله حزمة من الأوامر والتوجيهات لكل فروع وأجنحة تنظيمه المترامي الأطراف.