جأة وجد تنظيم القاعدة نفسه صبيحة السابع من أكتوبر الماضي أمام حدث مفصلي تعاطى معه كفرصة تاريخية للتأكيد على وجاهة أفكاره وترويج أجندته الراديكالية على أوسع نطاق. وفي غضون الأيام التي تلت الأحداث نشطت مؤسسات التنظيم الرسمية والرديفة، وضخت على المنصات الرقمية مئات المواد المتنوعة، أشادت في مجملها بهجوم حماس على إسرائيل، وحرصت على وضع تصورات نظرية وعملية حول سبل توظيف ما جرى لصالح مشروع التيار الجهادي في العالم.
فرصة القرن
في أول تعليق رسمي من القاعدة على هجوم حماس، وصفت قيادته العامة الحدث بـ” فرصة القرن التي قد لا تتكرر” و بـ ” أعز وأبذخ أيام الله في عصرنا الحاضر”. ودعت عناصرها وكل المسلمين ” إلى التفاعل الإيجابي معها”. موقف القاعدة هذا، وما تلاه من بيانات وتصريحات كشف عن مراجعة جوهرية لموقف تنظيم القاعدة من حركة حماس، ولا شك أن جزءا من هذه المراجعة يعزى إلى تحولات ما بعد الظواهري.
كان موقف شيوخ ومنظري التنظيم من حماس في العقود السابقة يتراوح بين تكفير قيادتها السياسية، أو أفراد منها، ممن يحسبون على إيران، أو ممن أدلوا بتصريحات مؤيدة للديمقراطية، أو دخلوا المجلس التشريعي الفلسطيني، وبين الثناء المتحفظ على جناحها العسكري خصوصا بعد هجوم القسام على مسجد ابن تيمية في رفح عام 2009 وقتلها القيادي السلفي عبد اللطيف موسى، الذي أعلن حينها قيام إمارة إسلامية في رفح واعتصم مع مجموعة من مؤيديه في أحد مساجد المدينة، وحظره نشاط جماعات سلفية كجيش الإسلام وجيش الأمة وغيرها. وظل أيمن الظواهري متمسكا برأيه المتشدد إزاء قيادة حماس، ثم خفف من حدته بعد قيام القيادي في الحركة إسماعيل هنية بنعي أسامة بن لادن عقب مقتله في 2011، ووصفه بـ” المجاهد الكبير”، في مجاملة شكره الظواهري عليها.
عقب هجوم حماس مباشرة أصدرت جميع فروع القاعدة بيانات إشادة وتأييد، عززتها بسلسلة من المقاطع المرئية، والتسجيلات الصوتية، والأناشيد الحماسية، التي باركت ما حصل دون تحفظ يُذكر. وبعد ستة أيام بدأت البيانات والمقالات تصدر عن القيادة العامة وسارت هي الأخرى في نفس الاتجاه، وبعد حوالي شهرين من العملية وصلت هذه البيانات إلى حوالي 15 بيانا ومقالا خصصت كلها للثناء على عملية حماس، وتوجيه الاحتقان الشعبي الناتج عن الرد الإسرائيلي بما يتوافق وأجندة القاعدة في نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار.
11 سبتمبر ثانية
وصفت القاعدة العملية التي شنتها حماس ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر بأنها ” 11 سبتمبر” ثانية. واستغلت المناسبة للتذكير بأن هجمات 11 سبتمبر 2001 التي استهدفت نيويورك وواشنطن، كانت بسبب الدعم الأمريكي لإسرائيل، وتريد بهذه المقارنة أن تضع نفسها إلى جانب حماس في خندق واحد كتنظيمين “مناضلين” في سبيل قضية واحدة، وحتى تحصل على حصتها من الدعم الشعبي المؤيد لحماس في العالم العربي.
الرهان الكبير لتنظيم القاعدة الآن ينصب على إمكانية دفع السخط الشعبي الناجم عن الحرب في غزة إلى حالة من العصيان الجماهيري، تتخلله مواجهات مسلحة واقتحام للسفارات والبعثات الأجنبية والمؤسسات السيادية في الدول التي تشهد حراكا شعبيا مناهضا لإسرائيل والغرب، في ما بدا محاولات مستميتة من القاعدة لإعادة وضع “خطط التوحش” موضع التنفيذ.
فقد علق مقال صادر عن القيادة العامة للتنظيم على المظاهرات التي تجتاح العالمين العربي والإسلامي بالقول ” هذه المظاهرات عليها أن تنتقل إلى المرحلة التالية، في بلادنا العربية والإسلامية على قطاعات جماهيرنا الغاضبة الشروع في عصيان مدني طويل الأمد حتى تسقط أنظمة الحكم” وأضاف ” عطلوا كافة وسائل المواصلات في البلاد من القطارات والحافلات والطائرات، لا تذهبوا لأعمالكم الحكومية.. عطلوا الدورة الاقتصادية.. الجنود والضباط والمجندون لاتذهبوا إلى وحداتكم.. وعلى قطاعات أخرى من جماهيرنا الغاضبة أن تقوم بتنظيم مجموعات أمنية سرية وعلنية وكلاهما مسلح.. مهمتها حماية العصيان”.
وأكدت القاعدة على خطتها في مقال آخر وجهت فيه نداءا إلى المتظاهرين بالقول” ارموا السفارات والقواعد العسكرية بما تيسر لكم” وناشدت الطلاب في الثانويات والجامعات بالتحرك الكثيف، ودعت طلاب الكيمياء منهم خاصة إلى تعلم صناعة المتفجرات والعبوات الناسفة.
وفي ذات السياق وتشديدا على نفس الأفكار، نشرت القاعدة مقالا آخر طالبت فيه علماء الشريعة في العالم الإسلامي إلى إصدار فتاوى وتوجيهات شرعية تحث على” عسكرة الأمة” و “إحياء فريضة اقتناء السلاح” وخاطبتهم بالقول:” كونوا أنتم وطلبتكم في مقدمة الساعين لأداء هذا الواجب”.
لا شك أن القاعدة تسعى من خلال بياناتها ومقالاتها التي واكبت بها الحرب في غزة إلى استغلال المأساة الانسانية في القطاع، والوضع الدولي المتأزم، والاستياء الشعبي المتصاعد عبر العالم، من أجل الدفع بسرديتها إلى صلب الصراع، وترويج خطابها المعادي للغرب، والداعي إلى تغيير أنظمة الحكم في العالم الإسلامي بقوة السلاح.
المستفيذ الأول من الحرب في غزة هو تنظيم القاعدة، وجماعات السلفية الجهادية المرتبطة به عبر العالم. فإلى جانب انخراط خصومه (الغرب وميليشيات إيران) في حرب استنزاف، ومواجهات آخذة في التوسع في اليمن والممرات البحرية وفي العراق وسوريا، بات تأثير خطابه على الأجيال الصاعدة أخطر من أي وقت مضى. ولعل رسالة أسامة بن لادن التي تحولت إلى ترند على منصات التواصل الاجتماعي دليل واضح على ذلك.
المقدسي يتحفظ
من جانبه حذر أبو محمد المقدسي أحد أبرز منظري التيار الجهادي تنظيم القاعدة من التماهي المفرط مع خطاب حركة حماس وجناحها العسكري، وركوب ما سماها ” موجة الطوفان” والسعي المستميت لاستغلال تداعيات الحرب في غزة لصالح التنظيم دون مراعات لما قد ينطوي عليه ذلك من سلبيات على التيار الجهادي.
المقدسي هاجم القاعدة وفروعها وإن لم يسمها قائلا” فقد ركب جل الشيوخ والجماعات أمواج هذا الطوفان حتى أوشكوا أن يغرقوا أتباعهم في شبهات الجماعات البدعية ويوقعوهم في التناقضات وكأن كل ما فعلته وتفعله حكومة حماس من موبقات معفو عنه” وبلهجة حادة تكشف عن توتر في العلاقات بين المقدسي وبين قادة تنظيم القاعدة الجدد استهجن المنظر الأردني تخلي التنظيم وإهماله للجماعات السلفية في غزة وعدم دعمه لها ” فاستيقظوا متأخرين على طوفان الأقصى، فلا يجدون إلا ركوب موجة حماس والتطبيل لها دون تحفظ” حسب تعبيره.
وفي إطار التحذير من توظيف الجماعات الراديكالية لما يجري في فلسطين لصالح أجندتها الخاصة، أشار تقرير في معهد كارنيجي إلى أن “التنظيمات الإرهابية استغلت أحداث فلسطين لإعادة تدوير أفكارها” وهو ما نجح تنظيم القاعدة في القيام به إلى حد ما، لقد أعاد نشر رسائل قادته بشأن مكانة فلسطين لا سيما رسائل وخطابات أسامة بن لادن، ودور الدعم الغربي المتواصل لإسرائيل في استمرار معاناة الفلسطينيين، كل ذلك من أجل شرعنة فكرته الأساسية والمتمثلة في أولوية استهداف الدول الغربية، وإسقاط أنظمة الحكم في العالم الإسلامي.
وهذا ما نبه إليه أيضا التقرير الثالث والثلاثون لفريق الدعم التحليلي ورصد الجزاءات التابع للأمم المتحدة الصادر في يناير الماضي، حيث أشار إلى “تواتر ونوعية وحجم الإنتاج الإعلامي لتنظيم القاعدة بعد أحداث غزة” وأن ذلك مؤشر على “احتمال استغلال التنظيم الوضع لاستعادة أهميته والاستفادة من الرفض الشعبي للخسائر في صفوف المدنيين، لتوجيه من يرغبون في القيام بعمليات” وأضاف التقرير أن التنظيم ” تمكن من لفت الانتباه إلى كتابات مستفيضة عن هذه المسألة وعن القضايا الفلسطينية كتبها أيمن الظواهري وأسامة بن لادن”.