المراقب لمجريات الصراع وتفاعلات الاشتباك بين القاعدة أو التيار الجهادي عموما وبين مختلف القوى المحاربة له خصوصا الغربية سيلحظ أن الصراع يخاض من كلى الطرفين بمنتهى الذكاء والعبقرية , وأن عقولا جبارة تشتغل على قدم وساق من أجل بلورة خطط ووضع استراتيجيات تمكنها من ضمان التفوق على كل المستويات الميدانية والإعلامية والفكرية .
يظهر هذا على صعيد عشرات من مراكز البحوث والدراسات والمؤسسات البحثية المختصة في شؤون الإرهاب ومراقبة ودراسة الأفراد والمنظمات المصنفة على قائمة الإرهاب ( مؤسسة راند , مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى …) وكذا جيش الخبراء والمستشارين والمفكرين المتخصصين في المجال ذاته ( بوول وولفويتس , ديك تشيني , زلمان خليل زادا …).
في الجانب الآخر تمتلك القاعدة رصيدا مهما من العقول المفكرة والعبقرية , تمارس النظر والتفكير , وتتصدى لمختلف العراقيل والمشاكل التي تعترض مشاريعها بالتحليل والدراسة العميقة , يظهر هذا جليا فيما يحكيه مفكر القاعدة اللامع ومؤرخها أبو مصعب السوري عن نفسه في الفترة التي انهارت فيها إمارة طالبان , وتشتت قوات القاعدة في أفغانستان فيقول بأنه انحاز إلى بيته الآمن واعتكف فيه لسنوات لا يفعل شيئا سوى التفكير العميق والكتابة ,منخرطا في عملية نقد ومراجعة للأداء الاستراتيجي للتيار الجهادي , محاولا اكتشاف الثغرات الكامنة وراء الانهيار السريع لمشروع الإمارة الإسلامية في أفغانستان ومعها كل التجمعات الجهادية التي كانت تعمل في حضنها .
وما يقال عن أبي مصعب السوري يقال عن معظم مفكري القاعدة وكتابها الكبار الذين يتسمون بقد كبير من الإطلاع والحنكة والتجربة , فهؤلاء هم العمود الفقري لمشاريع القاعدة وهم سر بقائها وامتدادها.
البيان المثير للجدل
آخر تجليات هذه الحرب الإستراتيجية التي اشتعلت بيت مفكري الغرب ومراكز دراساته وأبحاثه , وبين مفكري القاعدة واستراتيجييها ,هي ما أحدثه البيان الذي صدر عن تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي من ارتباك وحيرة حتى في أوساط الجهاديين أنفسهم , فالبيان جاء بعكس المزاج السائد وسابحا ضد التيار , ففي غمرة الإنزال الجهادي في سوريا وتقاطر الجهاديين عليها من كل حدب وصوب , مستغلين ما اعتقدوه “غباء وغفلة من الغرب” , جاء بيان القاعدة صريحا – وقبله بيان عبد الله العدم أحد استراتيجيي القاعدة تلميحا – إلى عدم الهجرة إلى سوريا خصوصا لشباب شمال إفريقيا إلا في حالات محدودة .
فالقاعدة تريد أن تخوض النزال في سوريا وفق منطقها وحساباتها بعيدا عن التجييش العاطفي والتأثير الإعلامي , بمعنى آخر وصريح لا تريد أن تكرر تجربة أفغانستان إبان الاحتلال السوفيتي , وبشكل أوضح لا تريد أن تضع كل البيض في سلة سوريا , وهو ما عبر عنه البيان وان بصيغ مختلفة , فجاء في البيان أن الهجرة ليس أمرا موكولا إلى الأفراد يبتون فيها وفق اجتهاداتهم و مصالحهم بل ينبغي أن يرد أمر الهجرة من عدمه إلى أهل الاختصاص “ على شباب الإسلام أن يعي أن تقدير حجم المصالح والمفاسد المترتبة على الهجرة أو عدمها لا يرجع فيه إلى التقديرات الشخصية وإنما يوكل ذلك إلى قيادته الداعية المجاهدة التي لها دراية بالشرعة وخبرة بالواقع.” داعيا إلى عدم الارتجالية والاستفادة أقصى ما يمكن من طاقات الشباب وتوظيفها التوظيف السليم :” ننصح الشباب في تونس خاصة وبلاد المغرب الإسلامي عامة أن، يلتفوا حول قيادتهم الداعية المجاهدة وأن يتحلوا بالانضباط ويتجنبوا الارتجالية في العمل ” ليأتي البيان إلى بيت القصيد :” كما أن على شباب الإسلام في تونس وغيرها أن لا يخلوا الساحة للعلمانيين وغيرهم من المتغربين ليعيثوا في الأرض فسادا بل الواجب على من قدر منهم أن يلزم تغره ويجاهد عدو الله وعدوه بالحجة والبيان” وأما من لهم ظروف خاصة كأن يكون مطاردا أو ترى القيادة أن يهاجر لكفاءة يمتلكها أو من أجل جلب الخبرة والتجربة , فعليه بجبهة المغرب الإسلامي حصرا لا يعدوها كما جاء في البيان ” وأما من كان من شباب الإسلام طريدا من قبل الظلمة المجرمين أو كان ممن رأت القيادة المجاهدة أن المصلحة الراجحة في هجرته فإننا ندعوه إلى الالتحاق بقافلة الجهاد في بلاد المغرب الإسلامي .” وختم البيان بإشارة مهمة وخطيرة تشي بأن القاعدة اكتشفت فخاخ فرنسا والغرب عندما غظ هذا الأخير الطرف عن تهاطل الجهاديين على سوريا منبها _أي البيان _ أن المخطط الغربي و الفرنسي يقضي بالسماح للجهاديين بالهجرة إلى سوريا من أجل تفريغ الجبهات الأخرى وإضعافها من خلال حرمانها من المخزون و الموارد البشرية خاصة جبهة شمال إفريقيا والساحل وجنوب الصحراء ( مالي نيجريا الجزائر موريتانيا ..) ” كما لا يفوتنا في هذا المقام تنبيه المسلمين عامة وشباب الهجرة والجهاد خاصة إلى حرص فرنسا على خوض حرب صامتة , مع السعي الحثيث لإفراغ بلدان المغرب الإسلامي من طاقاتها الجهادية بتواطؤ مع الأنظمة المحلية , ليس حبا في الجبهات الأخرى , ولكن لقطع مدد المجاهدين في الساحة التي ألقت فيها بجنودها , والتي تشكل شريان حياتها.”
إذن لغة البيان جاءت صريحة وواضحة لا للهجرة إلى سوريا وتفريغ الساحات إلا في حالات محدودة , بيان القاعدة هذا والصادر بتاريخ 17 مارس 2013 جاء متسقا ومتناغما مع بيان عبد الله العدم أحد استراتيجيي القاعدة الذي أصدره في شهر فبراير من العام نفسه أي قبل شهر من بيان القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وحمل بيان عبد الله العدم المعنون بـرسالة إلى النافرين الجدد إشارات ضمنية إلى عدم الارتجالية في موضوع الهجرة الحرص على اتخاذ تدابير احتياطية كبيرة وعدم سلوك الطرق المعروفة وان كانت سالكة , كالهجرة بواسطة الجواز وبإذن الدول وان أبدت تساهلا في ذلك فقال منوها إلى أن الحرب التي يخوضها تنظيمه ” هي في المقام الأول أمنية استخبارية المنتصر فيها من يسدد الضربات الإستراتيجية إلى المفاصل الحيوية للطرف الآخر” معددا في سياق بيانه مجموعة من الإجراءات الأمنية التي على النافرين الجدد التقيد بها.
ماذا تريد القاعدة
القاعدة من خلال بيانها أرادت أن توقف نزيف شباب التيار الجهادي وتسربهم غير المدروس إلى سوريا لأنها :
أولا : متأكدة أن الصراع في سوريا سيكون في صالحها أو على الأقل مالات الوضع في سوريا لن تكون إلا في صالحها.
ثانيا: بخلاف كل المتدخلين في الشأن السوري الذين يسعون إلى حسم وانتقال سريع للسلطة , فالقاعدة ليست في عجلة من أمرها , لأنها على يقين بأن النظام ساقط لا محالة بل هو في حكم الساقط أصلا , وأن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد في سوريا لأن هذه الأخيرة لن تكون إلا حلقة واحدة في سلسلة صراعات طويلة ستشهدها المنطقة , ومن غير المعقول أن تلقي بكل تقلها لتكسب معركة هي في حكم الانتهاء , وتخسر في مقابل ذلك الحرب.
ثالثا : القاعدة لا تريد أن تعيد إنتاج تجربة الأفغان العرب الذين قدمت لهم كل التسهيلات من دول العالم , لمحاربة الاتحاد السوفيتي ولما انهار هذا الأخير , وانتهى دور التيار الجهادي المدعوم غربيا وخليجيا بالسلاح و المال و الفتاوى , دارت عليه الدائرة وكان نصيبه مما قدمه من جهد وتضحيات قتلا وتشريدا ومطاردة بعدما استفاد الغرب من سلة أفغانستان التي جمع فيها كل البيض الجهادي .
رابعا: القاعدة تخطط لفتح جبهات جديدة خصوصا في شمال إفريقيا والراجح أن تكون ليبيا أولها وهو ما ذكره عبد الله دو البجادين في رسالته الأخيرة التي أشار فيها إلى مقتل السفير الأمريكي في ليبيا ربما سعيا من القاعدة لاستدراج القوات الأمريكية إلى المستنقع الليبي وهو ما كادت أن تنجح فيه القاعدة بعد استدعاء أمريكا لطائراتها وبوارجها إلى السواحل والأجواء الليبية فقد جاء في بيان عبد الله دو البجادين :” فقد فتحت جبهتين للجهاد في الشام وأفريقيا ونعد لفتح جبهتين جديدتان قريبا ”
الارتباك الذي خلفه بيان القاعدة كان واضحا جدا في المنتديات الجهادية , التي يمكن اعتبارها ترموميتر دقيق لقياس حجم التفاعل والتأثر الجهادي بمختلف أحداث ومجريات الساحة العربية والعالمية, هذا الارتباك هو ما حدا بأحد أكبر كتاب المنتديات الجهادية وهو “مراقب الأمة” أن يكتب مقالة عنونها بـ ” دعوا تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي فهو أعلم بما يقول قراءة للبيان الأخير ” صدرها بقوله:” في الواقع يمثل البيان الذي أصدره تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لفتة مهمة في الطريقة الإستراتيجية التي يتبعها عباقرة التنظيم في قتال الصليبين و إخراجهم من شمال إفريقيا بل و من إفريقيا كلها، و تعبئة امة الإسلام من اجل ذلك ,و قد وضح بان على شباب الأمة المجاهدة في المنطقة أن لا يقوموا بأعمال معينة كالهجرة، بشكل ارتجالي و عفوي نتيجة العاطفة الجياشة و الاندفاع الغير محمود النتائج” وأنهى مقالته بملاحظة خطيرة تعزز ما ذهبنا إليه من سعي القاعدة إلى فتح جبهات جديدة تستوعب الشباب المندفع خصوصا في شمال إفريقيا وبالأخص منها شباب تونس وليبيا فيقول :” إذن فمن الحكمة دعوتهم الشباب إلى التريث قليلا و النظر إلى الأمور بمآلها ،فالمعركة قد تأتي إلى بيتك ” .
إذن فهي قراءة أخرى للقاعدة لما يحدث وسيحدث في سوريا وغيرها , ولعل اندماج جبهة النصرة ودولة العراق الإسلامية جزء من إستراتيجية القاعدة التي لم تفصح عنها مسبقا , وكيفما كانت النتائج فالحرب بحق حرب عقول جبارة تجاوزت بكثير أصحاب التفكير القطري المحدود.